الأمن القومي العربي ومحنة الحرب الباردة

الأمن القومي العربي ومحنة الحرب الباردة

قبل أن يستدعي القادة العرب الأمن القومي في مؤتمر قمتهم الماضي كان هذا الأمن أشلاء ممزقة. فقد أصابه الدمار حتى لم يُبق على طلل منه. فقد هذا الأمن بمفهومه ومبادئه وبنيته ومؤسساته منذ نشوب أزمة وحرب الخليج الثانية (2/8/1990 ـ 28/2/1991)، تحت تأثير ثلاثة انهيارات: أولها أن السلاح العربي لا يشهر قط في وجه الشقيق، وقد شهر. وثانيها أن الأمن القومي ينبع من المنطقة العربية ويبنى بالإمكانات العربية، وماحدث عكس ذلك. وثالثها أن العرب يتحملون وحدهم مسئولية أمنهم وسلامة أوطانهم، وماوقع كان غير ذلك. وكان من نتيجة ذلك كله أن انكشف الأمن القومي على امتداد الوطن العربي، ودخل العرب مؤتمر مدريد (1991) وميزان القوى يميل إلى مصلحة إسرائيل بشكل لم يسبق أن عرفه الأمن العربي في تاريخه كله.

هكذا كان حال الأمن القومي العربي حين التأم مؤتمر القمة في القاهرة، لمواجهة معالم الحرب الباردة التي أخذت الأصولية الصهيونية، بشقيها العلماني والديني، تراكم عناصرها ومقوماتها. وكانت هذه الأصولية الصهيونية استطاعت قبل ذلك تحقيق ثلاثة إنجازات عرضت الأمن العربي للامتحان: أولها إسقاط فكرة أنه لابديل للسلام مع العرب، وثانيها تولي نتنياهو المنتخب شعبياً رئاسة الحكومة مدة أربع سنوات فلا ينازعه فيها زعيم آخر. أما الإنجاز الثالث فكان إدخال عملية السلام بأسسها ومبادئها ومؤتمرها ولجانها واتفاقاتها ونتائجها ومساراتها في دائرة التشكيك والمراجعة والمراوغة والمراوحة والدعوة إلى إعادة البحث في ذلك كله على أساس (الأمن قبل السلام).

لاشك أن انتصار نتنياهو وحزبه الليكود حدث غير عادي من حيث تأثيره في الأمن العربي، وبخاصة إذا ما استنتجنا أن عملية السلام التي كانت جارية منذ نحو خمس سنوات لن تسير في عهد الليكود كما كانت تسير في عهد حزب العمل. فقد أفقد الليكود عملية السلام حيويتها، ونزع منها روحها، وأعاد نشر سرطان الاستيطان بسرعة وتصميم، وأحيا في الفكر السياسي والعسكري الإسرائىلي مبادىء الأصولية الصهيونية وأهدافها.

الأمن يسبق السلام

لقد نادى نتنياهو بأن الأمن يسبق السلام. ويعني هذا أن على الدول العربية أن تقبل السلام دون الأرض، لأن الأرض ضرورة حتمية لأمن إسرائىل. وجاءت أدبيات الليكود حاملة مفهوماً خاصاً للأمن، قوامه أن السلام يعني، في جوهره، إعمال الرادع العسكري على قاعدتين معاً: أولاهما استمرار احتلال إسرائىل أراضي عربية، وثانيتهما حيازة التفوق العسكري الدائم. وهذا المفهوم للسلام هو، في نظر إسرائيل، السبيل الوحيد لضمان أمنها. ولهذا يرى نتنياهو في كتابه (مكان تحت الشمس): (أن سيطرة إسرائيل على هذه المناطق (يقصد الأراضي العربية المحتلة) ليست عائقا أمام السلام، إنما هي عائق أمام الحرب). وهكذا لايسعى نتنياهو ـ بصريح العبارة ـ إلى السلام، وإنما يقصد إلى منع أي دولة أو شعب عربي من تحرير أرضه. وسبيله إلى تحقيق هذا الفرض هو القوة العسكرية واحتكار تفوقها في مجالي الأسلحة التقليدية وغير التقليدية.

لقد حاصرت الأصولية الصهيونية، بطرحها هذا المتضمن مشروعاً إسرائيليا مضاداً للمشروع الدولي الذي تبناه مؤتمر مدريد، وارتضى العرب أسسه ومبادئه، حاصرت المنطقة، ووضعتها في بيئة الحرب الباردة، تلك البيئة التي تلاشت مقوماتها وأسبابها ومظاهرها منذ أن زالت القطبية الثنائىة المتعادية من الوجود. ولقد كان الأمن يومذاك مصوناً بحماية الأرض والسكان من الهجمات العسكرية، من خلال الأحلاف والمعسكرات. وكان الردع العسكري هو السلاح الذي يضمن لكل حلف ومعسكر أمنه. ومع انتهاء الحرب الباردة، أصبح الردع بهذا المفهوم، لايستجيب للمتغيرات ولايفي بمتطلبات الأمن في عالم مابعد الحرب الباردة. ولكن الأصولية الصهيونية، بزعامة نتنياهو، أحيت مفهوم الأمن الخاص بالحرب الباردة، باعتبار أن العرب (لم ينهاروا) كما انهار الاتحاد السوفييتي، وأن المنطقة لاتزال مكونة من معسكرين متجابهين، ممايدعو إسرائيل إلى أن تحتفظ بالرادع العسكري في أقصى أشكاله، وبخاصة في ذروته النووية.

وكان الاتحاد السوفييتي قد انهار لأسباب كثيرة تناولها السياسيون والأكاديميون والمختصون بالبحث المفصل. وقد تنوعت الدراسات وكثرت بتنوع الأسباب وكثرتها. ولكن ثمة مايشبه الإجماع بين الاستراتيجيين والعسكريين على أن خلاصة أسباب الانهيار تكمن في ذلك القصور العسكري العلمي التكنولوجي الذي أصاب الاتحاد السوفييتي في العقدين الأخيرين من عمره. في حين كان المعسكر الآخر، وبخاصة الولايات المتحدة، يقفز قفزات واسعة في الإبداع بالتسلح، استعداداً لحرب الفضاء ولحرب كونية قوامها التكنولوجيا والاتصال والمعلومة.

وإذا كان التفوق العسكري والتقدم العلمي والتكنولوجي يسمان الآن وسماً مؤقتاً الفجوة في ميزان القوى العربي ـ الإسرائىلي، فثمة عوامل أخرى تضاف إلى الرصيد الاستراتيجي لإسرائيل، وفي مقدمتها أن الدولة العبرية تحتل أراضي عربية، وتستعمر فلسطين أرضاً وشعباً، وتستمد الدعم والعون والحماية من زعيمة النظام العالمي الولايات المتحدة، وتحتقر الأمم المتحدة ومايسمى إرادة المجتمع الدولي، وتُعلي الصهيونية ومبادئها وأهدافها فوق كل قيمة إنسانية أو حضارية.

في انتظار العنف المسلح

وهكذا وضعت الأصولية الصهيونية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وعملية السلام، ومعهما الأمن العربي، في بيئة الحرب الباردة، مايترتب عليه توالد أشكال من العنف المسلح، والانفتاح على مختلف الاحتمالات، ومنها احتمال حرب شاملة أو واسعة بين إسرائيل ودولة أو دول عربية. وليس عسيراً أن نستنتج أن حالة الأمن العربي والوضع العربي العام وأوضاع الدول العربية فرادى وجماعات والظروف الإقليمية والدولية وموازين القوى الإقليمية والعالمية لاترشح هذا الاحتمال ـ أي احتمال الحرب الشاملة أو الواسعة ـ للتكون أو الظهور.

ويبقى العنف المسلح في عهد الليكود قابلاً لأن يأخذ أشكالاً عدة تتراوح بين قصف مدفعي أو جوي محدود وبين عملية حربية مركزة واسعة. وتقع مابين هذين الحدين أشكال متعددة من العنف المسلح.

ومن المنتظر أن يطول العنف المسلح الإسرائيلي في إطار الحرب الباردة ثلاث جبهات رئيسية، هي الجبهات اللبنانية والفلسطينية والسورية.

وتدل مناهج وسياسات الليكود على أن الجبهة اللبنانية ستبقى ساحة مفتوحة للصدام والمواجهة وتبادل الرسائل، ومعياراً للتصعيد والتهدئة، وبخاصة أن إسرائيل تجد في الساحة اللبنانية أهدافاً متنوعة محلية وعربية وإقليمية. وفي الساحة الفلسطينية تغيب خطوط الجبهة وتتداخل القوى ويغوص الجيش الإسرائيلي في مستنقع لايستطيع أن يقاتل فيه. وهنا يبرز دور العمليات العنيفة الخاطفة الصغيرة والمحدودة والمؤثرة سياسياً ومعنوياً. وقد اعتادت إسرائيل في مجابهة تلك العمليات على طرائق القتل والحصار والتدمير والتجويع والتفقير. أما على الجبهة السورية فمن المنتظر أن تواصل إسرائيل حذرها وتجنب الصدام المباشر عليها، ليقينها بأن سوريا قادرة على التحمل والصبر والمواجهة، وعلى إيقاع خسائر في الجيش الإسرائيلي وداخل إسرائيل نفسها. ولايعني هذا أن احتمال الصدام مع سوريا في غير الجبهة السورية أمر غير وارد.

وما يهمنا أن نركز عليه في هذا الصدد هو أن نسبة العمليات العسكرية الإسرائيلية في عهد حزب العمل كانت محدودة بصورة عامة. وكان يمكن التنبؤ بتلك العمليات كونها في معظمها ردود فعل. أما في عهد الليكود فمن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة من العمليات، بسبب أن الليكود سيبادر إلى الفعل من تلقاء ذاته، بعد أن ينتقي الأهداف ويتعامل معها دون أن تكون عملياته ردود أفعال.

الكلفة العالية

إن مايدعونا إلى الإشارة إلى هذا الاحتمال هو أننا لانجد أمامنا اليوم في ساحة الواقع الحي سوى مناهج وسياسات الليكود التي أوجزها نتنياهو نفسه في خطب وتصريحات مختلفة، والتي جوهرها أنه لاانسحاب من الجولان، ولا دولة فلسطينية، ولاتقسيم للقدس فهي عاصمة إسرائيل وحدها، ولاعودة للاجئين والنازحين، والاستيطان حر ومباح ومشروع في أي مكان من (أرض إسرائيل) التوراتية، ولاتفسير واحدا للقرار 242 ولمبدأ الأرض مقابل السلام، وأن السلام مقابل السلام، وأن أمن إسرائيل قبل السلام.

وقبل أن يطرح تكتل الليكود مناهجه وسياساته هذه، كانت حدود التكلفة التي تستطيع بعض الأطراف العربية تحملها، قد ارتسمت في آفاق التفاوض الثنائي وفي النصوص التعاقدية مع حكومة حزب العمل. وإذا كانت هذه الحدود قد توضحت على المسارين الفلسطيني والأردني، فإنها ظلت موضع جدل وخلاف على المسارين السوري واللبناني، بحيث لايمكن رسمها بدقة أو يقين.

وفي حين كان الأمر كذلك، وكان الأمن العربي غير مستدعى لأنه غير موجود، ولم تكن ثمة حاجة إليه، تغيرت الحال حين انتخب تكتل الليكود حاكماً، وانعقد مؤتمر القمة العربي في القاهرة، ودعي الأمن العربي ليكون صاحب كلمة في الوضع الجديد، وهو وضع يتطلب أنواعاً جديدة من التكلفة، من بينها تصاعد أسباب التوتر ومظاهر العنف وعدم الاستقرار، وشيوع حالة عدم الثقة والخشية والتحسب، واللجوء إلى الاستعداد العسكري ومايتطلبه من إنفاق على التسلح والتعبئة. وهي تكلفات كانت المنطقة شهدت فيها هدوءاً أو تجميداً للتسابق والتنافس.

وحينما استدعت القمة (الأمن القومي العربي) في بيان تضمن حوالي 2200 كلمة، ورد ذكره في ثلاثة مواضع فقط: حينما عبر القادة عن إيمانهم بـ (دعم الأمن القومي العربي الشامل في مواجهة التحديات)، وحينما أشاروا إلى الارتباط الوثيق (بين الأمن القومي العربي بمفهومه الشامل كوحدة لاتتجزأ وبين الأمن الوطني لكل دولة من الدول العربية)، وحينما أكدوا (أن ضمان الأمن القومي العربي بمعناه الشامل هو أفضل سبيل للحفاظ على كيان الأمة العربية وصيانة مصالحها). وهكذا تناول البيان الأمن العربي تناولاً رقيقاً، في حين عالج أربعة عشر موضوعاً، جميعها ماعدا موضوعاً واحداً، تدخل في دائرة الأمن العربي، أو تمت إليه بصلة، أو تنتسب إليه. أما الموضوع الذي ظل خارج دائرة الأمن العربي فيتعلق بالفيضانات التي وقعت في اليمن، وفي المساعدة الواجبة للتخفيف من آثارها.

إن أي رؤية استراتيجية عربية جديدة لاتستطيع في بيئة الحرب الباردة التي زُج فيها الأمن العربي، أن تهمل الجانب العسكري فيها، وبخاصة حينما يتعلق الأمر بمعالجة الخلل الشديد الذي يعانيه ميزان القوى بين طرفي الحرب الباردة. إن مزيداً من الخلل في ميزان القوى العربي ـ الإسرائيلي ـ وهو ميزان تتوضع فيه مختلف القوى والقدرات السياسية الاقتصادية والعلمية والعسكرية ـ سيكون مغريا لإسرائيل كي تستخدم ذراعها الضاربة لحسم نزاعاتها مع الدول العربية المحيطة بها. وحتى لاتستسهل إسرائيل الأمر، فالأمن القومي مدعو إلى زيادة مصادر القوة العربية، وبخاصة في جوانبها غير العسكرية، والتي جرى إهمالها بالرغم من تكرار الحديث عنها.

 

هيثم الكيلاني