أين توقفت تكنولوجيا العالم الإسلامي؟

أين توقفت تكنولوجيا العالم الإسلامي؟

ما هو تاريخ التكنولوجيا في العالم الإسلامي، وما هي المجالات التي تجلت من خلالها؟. من المعروف أن العالم الإسلامي في عصر نهضته في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي قد أنجز تفوقه في مجال العلوم على كل الحضارات السابقة والمعاصرة له، وخصوصا في الهند والصين وبيزنطة، علما بأن أوربا الغربية كانت آنذاك تعيش عصر انحطاطها. والسؤال المطروح بين كبار الباحثين هو التالي: متى توقفت التكنولوجيا الإسلامية عن الإبداع والتفوق، هل في القرن السابع عشر كما يرى (مارشال هودجسون) صاحب كتاب (مغامرة الإسلام)، أم قبل ذلك بكثير حسبما يرى آخرون، ومن بينهم الباحث في التاريخ الاقتصادي شارل عيساوي صاحب العديد من المؤلفات حول التاريخ الاقتصادي في الشرق الأوسط وتركيا وإيران؟

إن معرفتنا بتاريخ التكنولوجيا في العالم الإسلامي تبقى محدودة، فالدراسات الشاملة في هذا المجال لاتزال قليلة، ولكن الكتاب الصادر بالفرنسية والإنجليزية عن الأونيسكو، والذي يحمل عنوان (العلوم والتكنولوجيا في الإسلام) لمؤلفيه أحمد الحسن ودونالد هيل، يسد نقصا في هذا المجال من خلال استعراض الظروف التي أدت إلى نهضة العلوم والتكنولوجيا، ومن خلال عرض أبرز التقنيات التي ابتدعها المسلمون خلال قرون مديدة.

لقد جمع الإسلام في أراضيه الممتدة من الصين إلى الأطلسي بيئات حضارية سابقة استطاع أن يخلق منها وحدة ثقافية وعلمية، وأن يوجد لغة واحدة للعلوم والآداب هي اللغة العربية. وقد كان رجال العلم يتجولون في الأصقاع الشاسعة للعالم الإسلامي وفوق ذلك فإن مؤلفاتهم كانت تعرف وتظهر منها المخطوطات في المدن التي شهدت نهضة العلوم في مشرق العالم الإسلامي ومغربه.

إلا أن ذلك ما كان ليحدث لولا تشجيع السلطات الحاكمة، التي انتهجت ما يمكن أن يسمى (سياسة تكنولوجية)، وما كانت الحضارة لتتفتح لولا وجود سلطة الحكومة الثابتة. وقد حدث ذلك أيام الأمويين، وحدث أيام الحكومة المركزية للخلفاء العباسيين في بغداد، كما حدث مع الدول التي استقلت في الأندلس أو في الهند.

التكنولوجيا والتوحيد اللغوي

لا ينفصل تقدم التكنولوجيا في العالم الإسلامي عن التوحيد اللغوي. لقد استطاعت العربية أن تكون لغة الحياة اليومية من بغداد إلى قرطبة، كما صارت لغة العلم والآداب. وقد احتلت مكان اللغات: الآرامية، والقبطية، واليونانية، واللاتينية. وقد وعى الخلفاء منذ الأمويين أن علوم اليونان والهند لابد من ترجمتها، فالحضارة لا تزدهر إذا كانت اللغة العلمية حكرا على عدد محدود من العلماء. ومع الترجة هُدمت الحواجز بين العلماء والعامة، وأصبحت العلوم بمتناول الجميع، والمؤلفات العلمية الشهيرة كتلك التي وضعها (الأخوان موسى)، و(الجزري)، و(تقي الدين)، كانت مليئة بالمصطلحات المعربة ومكتوبة بلغة بسيطة. وقد درجت المصطلحات التي استخدموها بين عامة الناس، وهي مصطلحات غير موجودة في المعاجم اللغوية الكلاسيكية.

ومن المعلوم أن هارون الرشيد منذ نهاية القرن الثامن الميلادي أسس (خزانة الحكمة) وهي مكتبة تضم المؤلفات العلمية، وأشهر منها (بيت الحكمة) التي أسسها المأمون في أوائل القرن التاسع الميلادي، وضمت فريقا من العلماء والمترجمين والنساخ. وفي القاهرة أسس الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (دار الحكمة)، في مطلع القرن الحادي عشر الميلادي، وشكلت جناحا خاصا من القصر يضم الفقهاء والمناطقة والمنجمين والرياضيين، وكانت العادة تقوم على دعوة رجال العلم إلى ندوات دورية. وكما كانت المساجد مراكز للعلم والمعرفة، كذلك فإن المستشفيات المعروفة باسم البيمارستانات كانت هي الأخرى مراكز لازدهار العلوم والتقنيات الطبية، كما أن المراصد التي قامت في مراغة، وسمرقند، واسطنبول كانت هي أيضا مراكز لتقدم علوم الفيزياء والفلك.

وكان العلماء متفرغين بالمعنى الحديث للكلمة، ومنصرفين إلى البحث والإبداع والاختراع والتأليف. ويقول أحد هؤلاء العلماء وهو أبوالفرج عبدالله بن الطيب المتوفى عام 435هـ/ 1043م: (درسنا من سبقنا وجهدنا لفهم أعمالهم واكتشفنا ما يتجاوزهم)، وقد أورد في كتاب الحيل تصاميم لحوالي مائة آلة من اختراعه.

وكان ثمة تواصل بين العلماء، فالعمل الذي حققه البيروني حول (الكثافة) في غزنة في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشرالميلادي تابعه بعد قرن من الزمن (الخازني) في مدينة مرو. وقد تقلص الاعتماد على المصادر الأجنبية في القرن الثاني عشر الميلادي وصار العلماء يعتمدون بشكل خاص على المؤلفات باللغة العربية، كما هو شأن العالم (الجزري) الذي اعتمد على مصادر إسلامية. إن المجالات التي برزت فيها تكنولوجيا العالم الإسلامي عديدة وأبرزها: الآلات المائية ـ الهندسة المدنية ـ الفنون العسكرية ـ المناجم والمعادن ـ النسيج ـ الكيمياء ـ الموسيقى ـ الفلك ـ الميكانيك ـ النقل ـ الطب.. وغيرها.

توقف السبق الإسلامي

والآن يُطرح السؤال: متى توقف السبق الإسلامي في ميدان التكنولوجيا؟

يرى مارشال هودجسون أن الإنتاج الثقافي الإسلامي ظل رائدا حتى القرن السابع عشر الميلادي، وكان ثمة آنذاك ثلاث دول إسلامية كبرى، الدولة العثمانية، والدولة الصفوية، والدولة التيمورية المغولية في شمال الهند. ويقول: (في القرن السادس عشر وحتى وقت متقدم من القرن السابع عشر، وجد المسلمون أنفسهم في الذروة، ليس فقط في مجال النفوذ السياسي بل في مجال الإبداع الثقافي أيضا.. في الفنون البصرية، ظهر تقليد جديد في الرسم (ما ندعوه عادة المنمنمات الفارسية)، وهي بدأت في القرن الرابع عشر وبلغت أول ذروة لها في نهاية القرن الخامس عشر مع بهزاد.. وفي الوقت عينه برز فن هندسي معماري بلغ أوجه في (تاج محل) في الهند، والذي أنجز في العام 1653م.. في القرن الخامس عشر ضارع علماء الفلك المسلمون علماء الصين والغرب وربما تقدموا عليهم.

إن الغرب الأوربي لم يظهر تمايزه إلا نحو عام 1600، وعند تلك النقطة زال الأساس البيئي والتاريخي لعظمة وإبداع الصيغة الإسلامية. إن أسس التقدم الغربي تقوم حسب رأي هودجسون على تحولات ثقافية في ميادين ثلاثة رئيسية: الاقتصادي والفكري والاجتماعي. ففي الحياة الاقتصادية، طرأت زيادة ضخمة على الإنتاجية (تعزى إلى استخدام تقنيات حديثة وضعت قيد التنفيذ من خلال ضبط مكثف للإنتاج الذي يقوم على مراكمة رأس المال وإيجاد الأسواق الاستهلاكية الواسعة) بلغت ذروتها مع نشوء (الثورة الصناعية)، ومن ثم (الثورة الزراعية)، على نحو متلازم. وعلى مستوى الحياة الفكرية، برز العلم الاختباري الجديد.. وعلى المستوى الاجتماعي، توقفت امتيازات الملكية القديمة، واستبدل بها بيروقراطية برجوازية، أو القوة التجارية التي ترافقت مع الثورة الأمريكية، والثورة الفرنسية وتأثيرهما على أوربا.

أثارت آراء مارشال هودجسون العديد من المناقشات. وأبرز الانتقادات وجهها شارل عيساوي في كتابه (تأملات في التاريخ العربي) نشر مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1991. ويرى عيساوي: أن التقدم الثقافي الأوربي بدأ في تاريخ مبكر، ويستند إلى دارسين رأوا أن القرن السادس الميلادي شهد بداية الثقافة أو التقنية الأوربية، وفي منتصف القرن الرابع عشر تفوقت أوربا على الصين وتصدرت الزعامة العالمية في مجال الثقافة.

والتقدم التقني الأوربي ظهر في مجال الزراعة عبر ابتكارات مثل المحراث كثير العجلات ولجام الخيول وحدواتها، وشيوع استخدام المنجل.. وتواتر استخدام طواحين الماء في القرن الحادي عشر الميلادي، واستخدمت هذه الطواحين استخداما لا سابق له، في صناعة النسيج والصناعات المعدنية والخشبية وغيرها.

ويورد عيساوي ذكر ثلاثة اختراعات حاسمة في تقدم الغرب وهي: ساعات الحائط والنظارات والطباعة. ويقول: كان تأثير الساعة في عادات الإنسان وعمله وأنماط تفكيره مذهلا. وقد حدث تصدير للساعات من إيطاليا إلى الشرق الأوسط عام 1338 أما النظارات فكانت خطوة مهمة إلى الأمام، إذ إنها أطالت من الحياة العملية للإنسان على نحو ملحوظ وقد تم تصديرها أيضا إلى الشرق الأوسط. أما الطباعة فلقد عبرت عن قفزة كبيرة، ومع بداية عام 1500 تقريبا كانت اثنتا عشرة دولة قد عرفت الطباعة، وتم طبع 40 ألف نسخة من الكتب.

والتقدم الأوربي في مجال العلوم البحرية والفلك والتصاميم المائية والميكانيكية ظهر في القرن الخامس عشر مع هنري الملاح وليوناردو دافنشي. كذلك فإن السبق الأوربي في مجال الاقتصاد ظهر منذ القرن الرابع عشر.

هزيمة الدولة الإسلامية

وأخيرا كيف يمكن لنا أن ننظر إلى المسألة المعروضة من خلال وجهتي النظر المعروضتين؟ لا شك أن العالم الإسلامي قد احتفظ بالقوة ومظاهرها حتى نهاية القرن السابع عشر، حين هزمت الدولة العثمانية عام 1699، هزيمة قاسية أمام النمسا وروسيا، وخسرت أراضي واسعة كانت تحت سيطرتها، وحتى ذلك الوقت كانت الدولة العثمانية تشعر باكتفائها وقوتها. لكن هذه الهزيمة دفعت الطبقة الحاكمة وعلى رأسها السلطان أحمد الثالث (1703 ـ 1730) إلى طلب المعرفة الأوربية وخصوصا التقنيات العسكرية التي ثبت تفوقها على العسكرية العثمانية.

لكن تفوق التقنيات العسكرية الأوربية لم يكن حادثا مفاجئا أو عرضيا، وإنما هو نتيجة لتراكم الخبرات في ميادين علمية مختلفة، وللاكتشافات التقنية خلال قرون سابقة. لقد أعطت القوة العسكرية العثمانية الإسلامية المبنية على قوة الحشد مظهرا مخادعا واطمئنانا للعثمانيين الذين كانوا يعتقدون بتفوقهم على الأوربيين، لكن الفئة المتنورة من العثمانيين، والتي كانت على صلة بالحكم والسلطان أدركت منذ نهاية القرن السادس عشر الأزمة التي تتخبط فيها الدولة، ولكنهم لم يستطيعوا وصف الحلول الناجعة، بل ذهب بعضهم إلى عرض نظرية ابن خلدون حول أطوار الدول مبشرين بانحطاط الدولة كقدر لا مفر منه.

لا شك في أن العالم الإسلامي قد احتفظ ببعض عناصر التفوق على جيرانه في الصين أو في أوربا، لكنه عجز منذ فترات سابقة للقرن السابع عشر على ابتداع التقنيات أو على وضعها موضع التطبيق الفعلي. إن ما يقوله هودجسون في هذا المجال على جانب كبير من الأهمية، فالتفوق الأوربي قام على أساس ربط التقنية بالإنتاج الذي رعته الدولة وحمته كما حمت الإبداع الفردي وثمرته.

وفي جميع الأحوال فإننا لانزال في بداية نقاش لم يكتمل القول فيه حول خصائص التكنولوجيا الإسلامية والآفاق التي بلغتها في تاريخها وحول وصل ما انقطع منها.

 

خالد زيادة