كلاسيكية بوالو
قصص قصيرة
عصا اللافتة لا أدري فكرة من كانت لكنها أصبحت فكرة المدير!! على عجل رحنا نحن المفرزين نساعد البناء في جلب الرمل والماء ورص البلوك لإنشاء رصيف البركة، ثم ساعدنا البلاط في جلخ ما بلط عن قاعدة النافورة والبركة الصغيرة بالصاروخ وغبار الجلخ يثور ويسكن فوقنا واقفا في الهواء ليبلط رءوسنا، ويملأ أنوفنا، ونجده حليبا مخثرا في أفواهنا فنبصقه قطعا من مرمر لين، وشمس الظهيرة تسكب بللورا مصهورا في الفضاء، وأشجار الكينا المنتصبة في قالب البللور المصهور لا يتحرك فيها غصن ولا أوراق، وصدى زقزقة عصافير الصباح صار عند الظهر ذكرى معلقة في الهواء الساخن، حتى ضجة آلات المعمل كنا نسمعها كما لو أنها آتية من عالم آخر. والمدير واقف معنا، مسرورا بكحل التبليط الأبيض الذي راح يتراكم على شعره، باصقا مثلما نبصق مرمرا مريقا، وشاربه المتقن بات قطعة من جبصين ملصقة على شفته العليا. مساواته نفسه بنا في جهنم المنقولة إلى ظهيرتنا هذه، وتنشقه ضبابها الكثيف هذا جعلنا نتقرب منه ونحسه منا. نصحناه أولا أن يبتعد إلى الظل المحتضر لأشجار الكينا، لكنه رفض، مما جعلنا نتجرأ على ممازحته، ممتدحين فكرته في انشاء بركة ونافورة وسط ساحة المعمل. وأظنه هو أيضا اقترب منا كثيرا، إذ باتت بسمته المظللة بهيجان الغبار تتوزع بيننا، وكلماته المتزاحمة مع صرخات الصاروخ تخرج من فمه لتسكن العاصفة المتوقفة فوقنا، وهو الذي كان صمته جبل نار لا تدري متى يثور مكتسحا رعب العمال الذين يقفون أمامه في صلاة صامتة. وأخيرا.. وصلنا مواسير الماء بأنبوب النافورة فانبثقت منها عصا زجاجية وراحت تنصهر من الأعلى وينكب منها ماء ملأ بركة النافورة الصغيرة سريعا وما لبث أن فاض لينحدر إلى البركة الكبيرة. انسحبنا كلنا معا يسبقنا مديرنا إلى ظل أشجار الكينا ونحن نبصق أواخر مرمر أفواهنا ونتمخط حجراً هُلاميا وننفض عبثا غبار العمل عن رءوسنا، ونفرك إحساس الحرقة في عيوننا، وكان مديرنا يفعل مثلما نفعل. جلست مستندا إلى جذع شجرة كينا، ولا أدري من كان حولي من زملائي فقد هدني التعب إلى حد انني تكلمت وأنا مغمض العينين. قلت: (لو أننا نجمع سمكا من مصارف المزارع ونضعه في البركة لاكتملت فكرة المدير). وبعد أن انطفأت النار في عيني ورد الفيء إلى بعض قواي، فتحت عيني فوجدت زملائي يتحلقون حول المدير يناقشون أمراً. انضممت إليهم وسمعت أحدهم يقول: "والله فكرة صائبة سيدي المدير. جمع السمك سهل فهو يملأ المصارف وبإمكاننا لقطه بأيدينا في الأماكن الضحلة". تعلق نظري زمنا بوجه مديرنا وهو يصغي بانتباه ويحاور بجدية، فلاحظت كم كان أليفا وقريبا من النفس، وداخلني حبور مترافق بإحساس الذنب لأنني كنت أحقد عليه. فكم وكم حلمت وتمنيت لو أعود صغيراً وأتعلم، ثم أعلو وأعلو في الوظيفة، إلى أن أرقى فوق مديرنا، فأناديه وأتركه واقفاً أمام مكتبي وأتفحصه بعينين ثاقبتين.. قال المدير: "هيا إذن ولا تضيعوا الوقت. الوفد قادم غداً". كان إعلان المدير هذا بمثابة مكافأة لنا نحن المفرزين لمساعدة البناء والبلاط، كيف لا ونحن أول من يعلم متى يأتي الوفد. وقبل أن نمضي إلى جمع السمك بالأيدي من المصارف، اقتربت من المدير والفكرة التي واتتني لتوها تدفعني دفعا، حتى أنني تجاوزت اللياقة وهمست في أذن المدير الذي أعطاني أذنه ومال بجسمه عاطفا علي، مما جعلني أتلعثم محاولا الاتيان بالكلام والكلام لا يأتي، لكنه فهم علي، وربت على ظهري بحنو أب قائلاً: (دعك من هذا الأمر. اتركه لي)، والفكرة التي ساقتني إلى أذن المدير وجعلت يده الصارمة تضرب على ظهري والتي أصبحت فيما بعد عذابي من سخرية زملائي المكذبين قولي إنني صاحبها، هي فكرة نبقت فجأة في رأسي وساقتني على غير إرادة مني إلى أذن المدير لأقول له: (لم لا ننصب منصبه الخطابات هنا، خلف البركة بحيث يرى الوزير النافورة والبركة والسمك السابح فيها، بدلاً من مكان المنصبة القديم المطل على بعض أحشاء المعمل المصممة للبقاء في الهواء الطلق وهي الأجزاء الأكثر بدائية في معملنا). انطلقنا في لمة صاخبة نحو المصارف غير البعيدة، حاملين صفائح التنك ومن هناك غرفنا سمكا صغيرا ومتوسط الحجم، وعدنا مثقلين بصفائحنا المملوءة سمكا وماء، والماء يتلطلط منقذفا إلى الارض مبللا ثيابنا زاخرا بالسمك الصغير. كان المدير بانتظارنا ومازال مبلط الشعر برذاذ الجلخ وفي عينيه يرتسم الاهتمام ونفاد الصبر. تفقد صفائحنا واحدة واحدة، منحينا على كل صفيحة، متفرسا بسمكنا الصغير المنبهت في صفوف حبيسة وهو يمج الماء وينفثه عبر غلاصمة الصغيرة بحركة تكاد لا ترى. نظر المدير في آخر صفيحة، فارتسم الاضطراب والقلق في وجهه، وانتقلت العدوى إلى وجوهنا، ثم خيم القلق ليشمل ساحة المعمل كلها. واضطرب ظل أشجار الكينا مع نسيمة عابرة على أشعة شمس بعد الظهيرة. قال: (هذه أسماك صغيرة. لن يراها أحد..). صمت المدير متفكرا، وبقينا نحن وقوفاً بأيدينا صفائحنا وأبصارنا معلقة بجهات متعددة من ساحة المعمل، متجنبين النظر في وجه مديرنا، مضطربين كما لو أننا قمنا بعمل شائن. قال: (افرغوا الصفائح في البركة، وخذوا إحدى سيارات الخدمة. اذهبوا الى الصيادين في النهر واشتروا سمكا كبيراً). أفرغنا صفائحنا بصمت، ولاحظنا فرح صفوف السمك وهي تجد نفسها تسبح في فراغ أوسع ورحنا إلى المستودعات لنأخذ (براميل) تكفي لسباحة سمك كبير. ركبنا شاحنة الخدمة يسود بيننا صمت وخيبة، لكن مزاجنا اعتدل عندما أطلت الشاحنة على النهر ورأينا جموع الفتيان تصطخب على الشط، بل وابتهجنا وصرخنا صرخات الإعجاب مثل كل الواقفين على الشط ونحن نرى بضعة فتيان يقذفون أنفسهم سبابيل من فوق الجسر نحو عمق النهر الصاخب. سألنا أين يمكن أن نجد سمكا حيا، فالتم حولنا جمع من الصبيان وراحوا يتضاحكون: ـ السمك الحي عنده عرس ولا أحد يعرف أين العرس. ـ سمك حي؟ من يريد سمكا حيا؟ هذه أول مرة أسمع عن مشترين لسمك حي. ـ السمك الحي تجدونه يتمشى على الجسر.. أو يعمل في حقول القطن. ـ تركتم السمك الحي يتنزه في شوارع المدينة وأتيتم إلى هنا تبحثون عنه. أنتم عميان!!. ألهمت الكلام وأنا منبهت من تخابث الصبية قلت: ـ نريد سمكا حيا للمعمل. كلمة المعمل فعلت فعلا سحريا وتركت على وجوه الصبيان دهشة وانخطافا مفاجئا، وفعل الصمت المربك فعله فقال صبي: ـ السمك الحي تأخذونه من الصيادين في الصباح الباكر عندما يسحبون شباكهم. ـ ما العمل والمدير ينتظر؟ قلت أنا منذهلا متخوفا من الانتظار حتى الصباح. ومرة أخرى فعلت الكلمة فعلا. قال أحد الصبيان: ـ إن كنتم مضطرين فاذهبوا إلى شرق الجسر الجديد تجدون هناك صيادا بالقرب من مقصف الليل. أتعرفونه؟ هناك بالقرب من المقصف مستنقع صغير يخزن فيه الصياد سمكه الحي ليبيعه للشيّ والقلي. حملنا سيارتنا أكثر مما حلمتنا فوق الحصى الفراتي الأملس الذي راح ينزاح عن جوانب دواليب السيارة، بانيا فخا كلما حاولت السيارة التقدم أو التراجع ينغرز دولاب أو أكثر فنضطر للنزول وتكديس الحصى أمام دواليب السيارة ثم نرفع مؤخرتها وندفعها إلى الأمام بكل ما أوتينا من قوة، مرة بعد مرة، إلى أن وصلنا بركة السمك الحي. كان السماك رجلا جهما، وعلى مساحة شفته العليا ينعقف شارب كث متهدل مثل ستارة. في عينيه بريق تحد واستهانة، وفي هيئته ريبة المدمن على الكحول. كان يجلس على كرسي واطىء وكأس عرق كبيرة مليئة تنتصب أمامه على طاولة صغيرة خالية إلا من الكأس. قاتلنا بنظراته القاسية وصوته الجارح عندما وقفنا أمامه: ـ أمر.. قلت أنا: ـ نريد سمكا حيا.... صمت طويلا وهو يغرس بصره فينا واحداً واحداً ثم قال: ـ السمك الحي في النهر وراء ظهورك. قلت: ـ نريد سمكا حيا منك. قال متأملاً وجهي: ـ كل ما عندي سمك ميت. السمك الحي وراءك. وأعطى بلحن صوته وحركة يده معنى شائنا لكلمة (وراءك). اختنقت بالإهانة ووجدت نفسي أقول له: ـ وهذا الذي في البركة أليس سمكاً حياً؟ قذف السماك صبره بضرب يده في الهواء مثل من يلقي شيئا دبقا مقرفا وهب واقفا. صرخ: ـ هذا سمك حي في البركة ميت خارجها. أتفهم؟ دفعني الخوف خطوة إلى الوراء وهمهمت: ـ إنه سمك حي والمدير يريده حيا.. سحق غضبه بين أسنانه وصرخ بي: ـ ألا تفهم؟ يأتي الواحد ويشير لي أريد فرخ السمك هذا فأغزه بهذا الرمح. وامتشق عصا من تحت طرف الخباء، في رأسها نبلة حادة، أوحت لنا برمح يهتز في يد فارس متحفز، وفجأة رشق الرمح نحو فرخ سمك كبير، ثم رفع الرمح في الهواء وراح الفرخ يسبح في الهواء معلقا بالرمح. صرخ وهو يلوح بالرمح أمام عيني وأنا أنشد نحو الخلف وأتراجع: ـ أرأيت؟ أفهمت؟ ملأ سائق شاحنتنا صوته رجاء ومصالحة وقال: ـ نحن معنا (براميل) مملوءة بالماء ونريد فرخين أو ثلاثة أحياء لنضعها في بركة.. تراخى غضب السماك وحارت عيناه بيننا: ـ أسماك كبيرة لبركة.. كيف؟ هل عندكم بحيرة؟ قال السائق: ـ بركة كافية للعب أسماك كبيرة. قال السماك بلهجة من تعذب كثيرا ليحصل على شيء صغير: ـ ستأخذون هذا الفرخ أيضاً. وأشار إلى الفرخ الذي مازال يتخبط هازا الرمح. قلنا بصوت واحد: ـ نأخذه. انحل غضب السماك، وأمرنا بإنزال (البراميل)، ثم التهى بنشر شبكة صغيرة، وأمرنا أن نمسك أطراف الشبكة، ونقترب من البركة ونخوض فيها حيث ينزل المتقدمون أيديهم عميقا في البركة حانين ظهورهم ثم يمشون، ونحن الآخرين نتقدم خلفهم رافعين أطراف الشبكة على وجه الماء، وعندما وصل المتقدمون الحافة الأخرى للبركة كانت ثلاثة (أفراخ) تهز الشبكة محاولة التملص، جمعنا الشبكة وقذفنا كل (فرخ) في برميل ولاحظت أنا أن فرخين كانا مكشوطي الجلد بين الظهر والبطن. قلت للسماك بروح صداقة خوفا من انفجار غضبه: ـ ما هذه القرحات. نفث غضبه في كلامه رغم تذللي وصرخ بي: ـ أ أنا من قرحها؟ سمك النهر أكثره مقرح الجلد. غمزني زميل من زملائي وحرك شفتيه بصمت من خلف ظهر السماك، فسكت. وحمل هو الفرخ الميت وقذفه في الشاحنة ولفظ رقما واستدار ثم جلس على كرسيه وجرع جرعة من كأسه وقرع بالكأس وجه الطاولة كما لو كان يتحدى. نقدناه ما طلب وركبنا شاحنتنا ورحنا نراقب السمكات وصدى غضب السماك يرافقنا. ننزل بين حين وآخر لنحمل شاحنتنا خطوات ثم نركب. عندما وصلنا بوابة المعمل وجدنا مديرنا بشعره المبلط وشاربه المجبصن ينتظر قدومنا، وحوله جمع من العمال والمهندسين الذين انقضوا علينا سائلين بأصوات مختلطة: ـ هل أتيتم بالسمك؟ أجبنا بأصوات متدرجة فخورة: ـ نعم .. نعم .. نعم.. صعد بعض العمال إلى صندوق الشاحنة والبعض الآخر تعلق بمؤخرتها، وزففنا مجتمعين الفروخ الثلاثة إلى البركة، وهناك سكبنا البراميل. ورحنا نرقب سباحة السمكات الضالة في حيز ضيق، إلى أن قال مديرنا بصوت رقيق يمتلىء حبوراً: ـ إلى البيوت يا شباب. إلى الغد فما زال العمل كثيراً. في الصباح أقلتنا باصات المعمل، وازدحمت فيها أصواتنا اللاهية المغتبطة بحدث الزيارة المرتقبة. وصلنا ساحة المعمل أبكر من المعتاد، وانتشرنا في مجموعات لنشتغل بالزينة ونصب المنصة، وآذاننا تفتقد ضجة الآلات الساكنة وتلتقط صخب التجريب للالات الموسيقية المستعارة من المدارس. تساءلت أنا رافعا صوتي بين أفراد مجموعتي: "ألا تحسون أنكم تفتقدون شيئا؟". تسابق الجميع يعبرون عن فقدهم لصخب المعمل، صارخين كما لو كانت الالات تعمل، ووضع البعض منهم أصابعهم في آذانهم ينكشون الصمت ويقولون (نحس بثقل في السمع ما كنا نحسه بين ضجيج الآلات). بعد ساعة كانت ساحة المعمل مزينة مثل ساحة عرس، لافتات ترحب، ولافتات تؤكد التصميم الذي لا ينثني ورسوم لأيد رياضية تتشابك متعاونة مصورة نسيجا من الأصابع والأيدي والزنود الآدمية القومية. حتى الدعامات الحديدية الضخمة داخل المعمل والسلالم الطويلة زيناها بأشرطة ملونة مرحة ترفرف بفعل المراوح التي بقيت وحدها تعمل. بعد الانتهاء من التزيين تجمهرنا في ساحة المعمل نتحادث ونتمازج بمرح. نسترق النظر الى البوابة الكبيرة والطريق المعبد الواصل إليها متوقعين بين لحظة وأخرى طلة الوفد. والشمس ترتفع وتصب نارها فوق رءوسنا، لكن حماسنا أنسانا النار اللاهفة تكلمنا كثيرا وتعرفنا كثيرا، ونظرنا الطريق عبر البوابة آلاف المرات لكن الوفد لم يأت. استوت الشمس على عرش جهنم واستعرت ساحة المعمل المعبدة باللهيب وسخن الهواء وراح يصعد مثل نهر ترشح مياهه من الأسفلت وتغيب في الفضاء، والوفد لم يأت. فترت هممنا ولذنا بظلال الجدران وأشجار الكينا، يعمينا النظر إلى الأسفلت المموج بالسراب ويدفعنا الحديث الممل عن تأخر الوفد إلى كلام بلا معنى. نعس البعض فنام. أغفوت أنا أم لم أغف؟ لست أدري، إذ أجفلتني صرخات متعجلة: جاء الوفد، جاء الوفد. تجمعنا متسرعين في كتلة متراصة ونشرنا لافتاتنا المرحبة. انفتحت البوابة واتجهت نحونا بضع سيارات تلتمع بوهج الشمس. هتفنا جميعا بأصوات رجت المعمل وتردد صداها في الفضاء الكثيف الساخن، وسمعنا حفيفاً من أشجار الكينا وأحسسنا بالعصافير تفر من الأشجار القريبة إلى الأشجار البعيدة غير متجاسرة على المغامرة في الطيران بعيدا في هذا الجو اللاهب. انفتحت أبواب السيارات كلها كما لو كانت تفتح بيد واحدة وخرج الوفد من جميع الأبواب. مشى الوفد نحو المنصة في لمة باهرة كما لو كان آلة عجيبة مصمته لها نظارات سوداء وربطات عنق مبرقشة الألوان وقمصان ناصعة البياض، وعلى المنصة تفرقت الآلة العجيبة إلى رجال جديين متجهمين يهمس الواحد منهم في أذن الثاني من غير ميل متعاطف، بل نظرة حديدية تستتر خلف نظارات سوداء. صدحت الآلات الموسيقية نشيد الاستهلال والتحية واعتلى صوت الطبل النشيد وطغى على الأصوات الأخرى. كنت واقفاً في المقدمة، ويداي تقبضان بقوة على عصا اللافتة، وكان قرع الطبل يرعش دمي ويملؤني حماسا، فأصرخ مثلما يصرخ الجميع متحينا الفرصة بين ضربة للطبل وأخرى لأزاحم بصرختي صرخات الآخرين، ولاحظت أن رعشات دمي تترافق في كل مرة بقفزات متواقتة للأسماك، قفزات تندفع فيها الأسماك الصغيرة في صفوف لتخترق سطح الماء وتطل على المشهد، ثم تتساقط متلاحقة، فيضطرب سطح الماء وهو يستقبلها مثلما يضطرب تحت وقع مطر غزير، واكتشفت أن ضربة الطبل هي التي تربط تقافز السمك الصغير مع ارتعاشة دمي. تتالى الخطباء بنظاراتهم السوداء ووقفتهم الواثقة خلف مكبر الصوت، وتتالت هتافاتنا مقاطعة، وبين كل خطبة وخطبة كانت الموسيقا الحماسية تنطلق وصوت الطبل يغطيها، فيرتعش دمي وتتقافز صفوف السمك الصغير مع كل ضربة ويضل بعض من الأسماك مسقط العودة، فيقع بعيدا عن الحوض فوق الأسفلت.. اللاهب، يحوص، ويضرب بذيوله الصغيرة حجر الأسفلت، وتفوح رائحة الشواء. وأخيراً أعلن عن خطبة الوزير، فساد صمت وجمود ثقيل. وتجلت الشمس أكبر تجل لها، فصبت نهرا من الحرارة والهواء الساخن على مشهدنا، وأحسست أنا بسراب يمور الوجوه ويجعل البركة تتمايل. خفت أن أقع، فشددت بقبضتي على عصا اللافتة أستمد منها القوة والإحساس بالوجود وقف الوزير خلف المكبر وهو يترنح في عيني، وانتابني إحساس أن أصرخ به: (تمسك بقضيب المبكر)، لكنني كنت متيقنا أنني وحدي أشهد السراب عجو الوجوه ويخطفها معه، وحدى أشهد البركة تنبع وتفور لتندمج مع السراب. وعندما رأيت الوزير يفتح فمه والسراب يمحو أطراف شفتيه فتبدو شفتاه كأنهما معلقتان في السراب وسمعت صرخة مدغومة مع صوية المكبر الرهيبة التي حزت الأسماع مثل سكين رهيف الشفرة يقشر عصب السمع، وفي الوقت ذاته وبهستريا السراب واللهب اللافح قرع الطبال ضربة مدوية، اندمجت الأصوات الرهيبة الثلاثة صرخة الوزير، وصوية المكبر، وضربة الطبل، فقفزت السمكات الكبيرة عاليا في الهواء ولبثت ترمح في فضاء المشهد زمنا ثم اندفعت كل في اتجاه وسقطت على الأسفلت المهيأ بالحريق وراحت تلوب بين الجمع المتراص، وظلت واحدة منها تخفق بغلاصمها وتنزلق إلى أن دخلت بين رجلي خافقة بذيلها مشعة كهرباء ورجفة في. أنا الذي أشب رعبا من جرة خيط مبلل على رقبتي تلتبط بين رجلي ضاربة ساقي سمكة كبيرة، مخاطية الملمس، مفتوحة العنينين باغمة بغاما مخنوقا، ماجة الهواء الحارق تشبثت بعصا اللافتة ورأيت السراب يدور مثل دوامة ماء. نبع العرق منى غزيراً وأحسست بدمي ينزل إلى ساقي تاركا رأسي في هوة فارغة، لكنني ما وقعت بل ظللت متمسكا بعصا اللافتة غائبا في دوران السراب. هذا ما عرفته عندما أنهى الوزير خطبته، إذ وجدتني مسنوداً بأذرع زملائي وأياد كثيرة تفك أصابعي المتشنجة المتشبثة بعصا اللافتة. قصة قصيرة الغجر والصبية التقديم: جنوباً تولد الحكايا في ليلة وتنضج عروساً من الحسن والفيروز في الليلة التالية. وفي مجالس السهر تحكيها الجدات الواهنات على ضوء شحيح يتماوج من قنديل كاز للصغار الذين يغفون قبل أن تكتمل. وأنا قصتي أتلوها باسم الله على مسامعكم أصحاب السيادة، جنوبية المزمار واللحن، جنوبية الشمس حال وجوبها على حلم وتفتقها عن موت. جنوبية حيث الجنوب هو الجنوب في كل الأمكنة والأزمنة. وحيث أنا امرأة جنوبية.. جنوبية جداً.. فقراً عن فقر، وحزناً عن حزن! أحرص حرص البخيل أن تصيخوا أذانكم جيداً لصوتي، فإن غفوت قبل أن تبلغكم خاتمة قصتي القصيرة أتوسل إلى حضراتكم أن توقظوني، فنومي خفيف وإغفاءتي أشف من حلم. القرى تتناثر القرى بفوضوية وغموض كندف الغيوم في نهاية أيلول، ولا أدري كيف تكونت في بادىء الزمان وكيف تجمعت عشرات البيوت المشيدة من الطين المجبول بالتبن في مجموعات أطلقت على الواحدة منها تسمية قرية. تتصوح على أطراف كل واحدة حقول السنابل وبساتين التين، وتمتد أمام كل بيت عرائش الدوالي. القرى تتشابه في خارجها وداخلها.. ذات البيوت وأحواشها، وذات الدروب الترابية المؤدية إليها. وفي كل قرية ناس طيبون.. ومساكب نعناع وبندورة.. ومواسم عنب.. ومواسم عشق. في الصيف مواسم الأعراس والحصاد. وفي الشتاء مجالس حول النار وأكواب شاي تدار، وأحاديث تقطر نعاساً وبرداً. وخلف الأبواب رياح معولة في عمق النفوس بشراسة ومطر قاس يدك السقوف دكاً متوحشاً. وفي كل بيت من كل قرية ثمة شبابيك تختفي تحت أوراق وأغصان الدالية بتدبير ذكي من رجل البيت، لتستطيع الفتاة التنفس بحرية دون أن تلمحها عينا رجل غريب. وتستطيع من غير أن يدري رجل الدار اختلاس النظر إلى السماء الموغلة في الزرقة، والشمس الصباحية الناعمة، واستراق السمع إلى ثغاء الأغنام وهديل الحمام، وأحيانا ندب النواحات في مواكب النعوش المتجهة إلى المقبرة المرتمية في الطرف الغربي من القرية على ربوة موحشة تطلع عليها حشائش برية مغبرة، خضارها مجلل بصفرة الموت، ولا شواهد ترتفع بأسماء ساكنيها. وهي القرى ـ قراي ـ تنفتح كل واحدة على تاليتها، فإن ولجت الثانية لم تعرف أنها أخرى!. الطقس بعد العصر تكنس المرأة بشجرة (شيح) يابسة الساحة تحت العرائش، ثم تأمر الولد أن يرشها برذاذ الماء حتى تهمد الأغبرة. ويكون بالإمكان فرش الساحة بأفرشة رقيقة خيطت من خرق مهترئة ملونة كانت في عزها ثوباً أو قميصاً أو فستاناً تباهت به صبية في عيد. قبل حلول المغرب يصل موكب الحصادين، ويتكون من الرجل وأبنائه الشداد، وإذا كان هناك معاونون ممن أتموا حصادهم يجرحون أقدامهم المتعبة عبر الدرب الترابي، يرمون تحت أقدام المرأة ثيابهم الوسخة وصرة نفدت طعامها، وأوعية الماء الفارغة. يغتسلون ويصلون المغرب ويكون العشاء قد جهز، يأكلون ويفترشون الساحة. تملأ المرأة الفانوس بالكاز وتغسل (البنورة) المطلية بالهباب، وتغمس طرف الذبالة في الكاز وتشعلها، ثم تعلق الفانوس على الدالية وتنصرف إلى شئونها في الداخل، فيما الظلام الهابط إيذان للشفاه في ولوج كهوف الأحاديث. تتساهر على وسائد السماء السوداء نجوم تومض لحظة هنا وتنوس لترحل إلى قرية أخرى ناقلة ما يدور من حديث يتهامس به المتسامرون. وأنا نجمتي تأتيني كل ليلة بأطيب الحكايا، وتروي لي قصصاً ملونة عن عالم يترامى خلف شباكي المغطى بأوراق العنب. أجلس معها كل ليلة، أسألها وتجيبني، وترسم لي سندساً لدنيا غير هذه الدنيا. دنيا الأخضر والأحمر والأزرق، والأبيض.. الأبيض!. جاءتني الليلة نجمتي حزينة وقالت إن الغجر سيأتون في الصباح، وما عرفت سبب حزنها فنجمتي لا تعرف الحزن. أما أنا فأعرفه جيداً، تتوأمت الروح معه وتسربل في خلاياي. صمتت النجمة فيما كانوا في الخارج يحكون عن الغجر الذين تأخروا هذا الصيف. سمعت والدي يقول: ـ يا جماعة الخير، والله اشتقنا لدق الطبول وأصوات المليحات. شق الضحك عباب الليل الهادىء إلا من غناء أو (بكاء) الصرار، وتغذى نهر الحديث بروافد جديدة. فمن كان صامتاً يفكر في نهار الغد المتعب في الحقل ازدان في عينه الكلام وحلي في فمه طعم الحديث، فاقتحم مجاهله. قالوا كثيرا عن الغجريات وخصورهن الدقيقة وعيونهن الكحيلة. لم أفهم ـ أنا ابنة السادسة عشرة ـ شيئاً. نجمتي في صمتها تصلي وأنا الغرِثى لأكوانها المدهشة أنتظر الحديث. الدنيا سألت نجمتي عن الدنيا التي تسافر إليها فأجابت: ـ ليتك تصبحين نجمة ونترحل معا!. ـ ما الدنيا وراء نافذتي يا صديقتي؟! ـ بحر ومروج خضراء ـ بحر!؟ ـ أرض زرقاء.. زرقاء! ـ كالسماء؟! ـ نعم، وتحتها عوالم وتمخر طرقها عوالم أيضاً! ـ أريد البحر ـ . . . . . . ! ـ يا إلهي، وماذا أيضاً! ـ ثمة يا صديقتي صبايا يغنين على أبسطة خضراء وينثرن شعورهن في الهواء ويرقصن كالفراشات! تحسست المنديل الذي أغطي به شعري وقلت بحزن: ـ أريد أن أغني حد هروب نسغ القلب. ـ غني! ـ لا أعرف ـ غني، غني! ـ لا أستطيع. ـ غني، غني.. وشرعت عيناي تطفران دمعا مراً والنجمة تلح علي أن أغني. وسدت رأسي ذراعي وسألت النجمة أن تواصل الحديث. ـ غداً سأحل ضيفة لسموات بعيدة. اعذريني يا صديقتي إن تأخرت ليلتين، لكني سأعود مالئة لك كفى بعصافير الحكايا الحمراء والزرقاء والخضراء.. الخضر..!! ؟!. لم أسمع ما قالته بعد هذا إذ رحت في غفوة أحلم فيها أن تحولني ساحرة إلى نجمة حتى تفتح كم الفجر على هدهدة شمس وليدة. الخيام عندما صحوت من نومة متعبة تذكرت رحيل نجمتي فبكيت لأني لم أستطع أن أودعها قبل سفرها الطويل. تهدج صوتي المشروق بالدمع: من يساهرني ليلتين بعدك يا حبيبتي!؟. حاولت أن أعود مرة ثانية للنوم لكن الجلبة التي أثارها خروج والدي وأخوتي الغلاظ الشداد إلى حقول القمح سفت النوم من عيوني. أطللت من كوتي الصغيرة لأرقب موكب الراحلين صوب الحقل. ملأت رئتي هواء بكراً وزفرته بارتياح، وإذ جاست عيناي الجهات لمحت خيام الغجر الخاكية اللون وقد حطت رحالها في الساحة الجنوبية من القرية، تمتمت: هذا موسم الغجر.. هكذا يأتون كل صيف، فجأة يتفتق الصباح عنهم، يرفعون خيامهم قبل أن ترفع العيون أهدابها ثم تمتلىء طرقات القرية بالغجريات اللواتي يزرن البيوت لقراءة الحظ بالفنجان والكف والودع. وأكثر ما كان يثيرني في قدومهم إلينا هي الحياة التي يكتسي بها ليلنا وليلهم، والألوان البهية التي تتلون بها دروب القرية. فنساؤهم يلبسن ثياباً مزينة بكل الألوان التي أعرفها والتي لا أعرف لها اسماً، وأسأل نفسي: من أين يأتون بكل هذه الألوان؟! ويخيل إلي أنهم يأخذون من كل قرية لوناً حتى تكونت عندهم هذه الأعداد الكثيرة منها، لكنهم لم يأخذوا من قريتي الأسود الذي نلبسه نحن الصبايا ثيابا طويلة، ويخيل إلي أحياناً أنهم بدائيون في الطباع لذا يحبون الفوضى في كل شيء حتى الألوان. ويقيم الغجر ليلتين في القرية ويرحلون قبل أن يصحو ناسها ويقصدون قرية أخرى. ورجال الغجر يصنعون الخناجر لأهل القرية من صفائح معدنية ثم يزينونها بخرز ملون تتوسطه واحدة مدهشة يسمونها (عين الهر). ويتقنون أيضا إلباس الأسنان بأخرى ذهبية أو فضية. أما الغجريات فيقرأن الحظ ويوشمن النساء على وجوههن وأيديهن، ويرقصن ويطبلن ويغنين في سهراتهن التي تقام في خيمة شيخهن التي تتوسط الخيام، وكانوا يسمونه (أبو نعسة) حيث كل الغجريات يطلق عليهن اسم (نعسة). النبوءة عندما اشتعل صهد الظهيرة دقت باب حوشنا الخشبي غجرية، فتحت أمي لها وأجلستها في الحوش.. (المرأة الحرة لا تدخل الغجرية إلى غرفتها)، هكذا كانت العجائز يوصين النساء. أخرجت نعسة حبات الودع ورمتها بمهارة على الأرض، كنت أطل من خلف الباب، كانت الغجرية ضخمة جداً بحجم شوقي لرؤية البحر، وكانت تلبس ثوباً ملوناً طويلاً، وشعرها الأسود مضفر ضفيرتين يربط بينهما شريط أحمر ويتدلى قرط هلالي كبير يلمع على سمرة جيدها، تقدمت خطوات إليها، حدجتني أمي بنظرة قاسية إذ كان محظور علينا نحن الفتيات مخالطة الغجر، لكني لأول مرة أتمرد عليها فواصلت تقدمي يدفعني الغموض الذي تلتف به الغجرية، التفت إلي نعسة وقالت: ما شاء الله! تقدمي يا بنية!. وكانت صاحبة عينين لوزيتين كحيلتين. وقفت أمامها على الرغم من تبرم والدتي.. ورجوتها أن تقرأ لي حظي. لملمت حبات الودع، تمتمت بأشياء لم أفهمها ثم ألقت الودع على الأرض. صمتت لهنيهات ثم قالت: رب السموات يحبك، وقد كتب لك حياة أخرى في أرضه الواسعة، أنت موعودة بالخير يا صبية! كان كل شيء فيها مفتولاً ومشدوداً وكل شيء في هزيل وهش. مسكتني والدتي من يدي وجرتني إلى الداخل وقالت بغضب: البنت ستعيش هنا وتموت هنا. في المساء بكيت حين تذكرت نجمتي ولم يكن ثمة سمار الليلة تحت العريشة. خطر لي أن أزور الخيام فتسللت بحذر شديد من البيت وكانت العتمة تسود الطريق، سرت صوب الخيام، تتبعت صوت الدف والطبل حيث الخيمة الوسطى، وخلف الخيام أدهشني وجود عدد من الصبايا ممن يتلصصن خفية على الغجر، اندسست بجسدي الضئيل بينهن ونظرت عبر شقوق الخيمة. كانت ثمة نعسة ترقص، ونعسة تضرب الدف، ونعسة تضرب الطبل، ونعسة تغني: مدقدق يا ابن عمي. ومن خلفها أبو نعسة ورجال القرية يرددون معهن بشهوة مكبوتة ينفثونها في: أخ يابا! وأصابني غثيان وانكسار إذ شاهدت والدي وأخوتي الغلاظ الشداد يتمايلون كالسكارى ويضعون القطع النقدية على أجزاء كثيرة من جسد الغجرية الراقصة. انسحبت والصبابا بهدوء إلى البيوت قبل خروج الرجال، نستهدي بأنوار الخيام وكن يدندن الأغنية بصوت خافت، وكنت أفكر بالعودة الليلة التالية إلى الخيام. في الليلة التالية والأخيرة لزيارة الغجر لنا تسحبت من البيت على رءوس أصابعي وقصدت الخيمة الوسطى. انتصبت خلفها كأحد عواميدها، لم يكن ثمة صبايا، بقيت واقفة أسترق السمع والنظر للغناء والرجال المشتعلين بالرغبة والثملين بالقدود البضة. بعد ساعات من وقفتي خرج الرجال القرويون بينهم شيخ العشيرة ووالدي وأخوتي إلى بيوتهم، دلفت بسرعة إلى الداخل فلم تبد على الغجريات علامات دهشة، ولم أميز قارئة حظي بينهم، قالت واحدة: كنت أعرف أنك ستأتين! فعرفت أنها هي. قلت لها: أريد أن أصبح غجرية، أتجول معكم وأريد أن تعلمينني الرقص والغناء، ولكني لا أريد أن أرقص أمام الرجال. ضحكت الغجريات وضحك رجالهن وخرجوا إلى خيامهم. ألبستني نعسة ثوبا ملوناً بالأخضر والأحمر والأزرق وقرطاً فضياً فرحت به كثيراً، وسرحت لي شعري في ضفائر كثيرة، وكحلت لي عيني فبدتا واسعتين كعيونهن، ثم شبكت أصابعها بأصابعي وبدأت تراقصني بينما نعسة أخرى تضرب الدف، وأخرى تدق الطبل. هزت لي كتفي وذراعي ومالت بي إلى الخلف، ثم تركتني وحدي أرقص، رقصت كالطفلة حين تدرج على الأرض لأول مرة لكني فرحت إذ أدركت أنني أستطيع التعلم. جلست منهكة على الأرض بجانب نعسة التي طفقت تغني وتشير لي أن أردد معها، أشرعت حنجرتي في (آه) ممطوطة لأجرب أوتارها. ذهلت لرنة صوتي القوية فغنيت معها: عللا ولالا ولالا.. واكتشفت أنني أغني وحدي والغجريات يرددن ورائي: علا ولالا ولالا، ففرحت ونهضت وحدي أرقص وأغني. الرحيل بعد الهزيع الثاني من الليل دكني الإرهاق والوسن فقلت لنعسة: إنني متعبة وأريد أن أنام حتى أصحو قادرة على الرحيل في فجر اليوم التالي قبل أن يعرف والدي وأخوتي بهربي. قالت: نعم يا عروسة فأنت لم تعتادي السهر، نامي، اسم الله يحرسك، فالدرس الثاني ستتلقينه في القرية التالية. مددت جسدي الصغير على فراش يعبق بخورا ودثرتني بأسمال رجل خلقة. أغمضت عيني فرحة بالثياب الملونة التي ألبسها وبالقرط الهلالي والشعر المجدول عشر جدائل. نمت والألوان تبرق في دهاليز روحي: أحمر.. أزرق.. أخضر! والحلم بالبحر يشرنقني في نسيجه. أحلم بالتجوال في دغل لم تلفني خضرته الممعنة في السواد.. أحلم بنافذة أكبر من نافذتي أبصرها عبر أفق فسيح، أحلم.. وأحلم!. لكني في حلمي حزنت كثيراً لأن نجمتي إذ لمحتها في طريق عودتها إلى شرفتي لمتفرح لفرحي، ولا أدري لماذا لمحتها في المدى البعيد تبكي. في فجر اليوم التالي عندما صاح الديك وناح، لم يكن ثمة أثر في الساحة الجنوبية للخيام، رحل الغجر إلى قرية أخرى.. ومن بعيد لا تلمح العين أطلالهم. لم يتركوا شيئاً يقف عليه عشاق الغجريات ويبكون، لكن الحصادين عندما خرجوا إلى حقولهم شاهدوا طللاً واحداً متبقياً مكان الخيمة الوسطى. صبية في عمر الضحكة، تلبس ثوبها القروي الأسود المطرز بسهر أمها، وتلف شعرها الملموم في جديلة واحدة، ترتمي هامدة على الأرض. وياما كان اجتمع الصغار في حلقة دائرية حول الجدة بانتظار الحكاية، افترشوا الساحة تحت عريشة الدالية بعد صلاة المغرب وقد يبست منها ذات صيف أغصان كانت تغطي شباكاً صغيراً ولم تورق في ربيع. لحظات صامتة تمر بثقلها على لهف الآذان الصغيرة المصغية لكل نأمة تصدر عن العجوز، والعيون المتيقظة تستحث الجدة لتشرع في الرواية، لكنها تتململ بوهن، نفد صبر الصغير فهتف: ـ جدتي لا نريد قصة عن الغيلان. ـ ولا الأميرة المسحورة ولا ليلى والذئب. صمتت الجدة أمام هذه الثورة العارمة وقررت أن تفاجأهم بجديد حتى تحتفظ بولائهم لها، قالت بصوت كله، سأحكي لكم الليلة حكاية جديدة، حكاية الغجر والصبية، هل سمعتم بها؟!. رد الصغار بصوت واحد متشوق لجديد لهم يألفوه في الحكايات: لا يا جدة! انفرجت أسارير الجدة وتابعت بزهو وقالت بعد الصلاة على النبي وآله أجمعين، فيما تنزلق حبات المسبحة بين أصابعها المتهدلة: كان يا مكان.. في ليلة متأخرة من ليالي زمان، وقريب العصر والأوان. أن كان.. وكانت العتمة الثقيلة تستبعث غناء حزيناً.. أرجوانياً لم يزل يهدر ناحباً في الساحة الجنوبية!.
قصة: محمد إبراهيم الحاج صالح
قصة: جواهر الرفايعة