الكمأة.. كنز الصحراء

الكمأة.. كنز الصحراء

الترفاس ـ الفجع ـ الفجيجة ـ الكمأة TRUFFLES، كلها مرادفات لأحد الفطريات كبيرة الحجم، والتي تنمو تحت سطح الأرض بجوار جذور بعض أعشاب الصحراء، مكونة معها نوعاً من أنواع تبادل المنفعة يطلق عليه اسم الميكورهيزا الخارجية.

ولقد وردت كلمة (كمأة) في المعاجم العربية، حيث أطلق عليها هذا الاسم لاختفائها تحت سطح الأرض، ويقصد بها الثمار الداكنة اللون، بينما سميت الثمار المائلة إلي الحمرة بالجباة، والثمار فاتحة اللون أو البيضاء بالفقع، ولقد وردت أسماء أخرى مثل الفجع والفجيجة وبنت الرعد وجدري الأرض وغيرها.

وكانت الكمأة معروفة في الجزيرة العربية كطعام شهى، لا يتعب الإنسان في زراعته وسقياه، وتحدث عن فوائده بعض علماء العرب، حيث قال أبو عبيد: (المراد بالكمأة أنها كالمن الذي كان يسقط على بني إسرائيل، سهلاً بلا علاج، فهكذا الكمأة لا مجهود فيها ببذور ولا سقي).

ماؤها شفاء

وقال الأزهري: (المن كل ما يمن الله سبحانه وتعالى مما لا تعب فيه ولا نصب). وقال ابن سينا: (الكمأة يخاف منها الفالج والسكتة وماؤها يجلي العين، وهي أصل مستدير، لا ساق له ولا عرق، لونه إلى الغبرة كالقطن، يوجد في الربيع تحت الأرض. ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف (الكمأة من المن ماؤها شفاء للعين والبدن) حديث أخرجه البخاري 77/161 ومسلم 3/14.

وقد روى الطبري عن جابر، قال: (كثرت الكمأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فامتنع قوم عن أكلها، وقالوا هي جدري الأرض، فبلغ ذلك رسول الله، فقال: (إن الكمأة ليست من جدري الأرض، ألا إن الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

بنت الرعد

وفي منطقتنا العربية، ذات البيئة الجافة، تتساقط الأمطار وهي عادة مصحوبة ببرق ورعد، وذلك خلال فترة قصيرة من فصل الشتاء أو الربيع. ويعمل البرق على تكوين أكاسيد الأزوت في الهواء الجوي، التي تذوب مع قطرات مياه المطر، وتسقط على سطح الأرض محملة بالمواد الأزوتية اللازمة لنمو الكمأة في التربة الفقيرة لرمال الصحراء. وعلى ذلك يرتبط ظهور الكمأة في مثل هذه المناطق بالأمطار الغزيرة الرعدية، لذلك يطلق على الكمأة اسم (بنت الرعد).

وكانت هذه الثمار مصدراً مهما للماء (75% من وزنها ماء) وللبروتين الغني بالأحماض الأمينيه الأساسية، هذا بالإضافة إلى طعمها الفاخر ورائحتها العطرية، هذا كله دون أي مقابل، اللهم إلا مشقة البحث عنها وجمعها.

ولقد تناول العرب الرحل الكمأة طازجة، كما كانوا يجففونها على الرمال الساخنة تحت حرارة الشمس، وذلك لاستهلاكها فيما بعد. وتعتبر كمأة الصحراء (الترفاس TERFAS) أطيب مذاقا وأشهى طعماً من الكمأة الأوربية (كمأة الغابات)، إلا أن دراستها ومعرفة أماكن وجودها في بلادنا العربية وجمعها لم يأخذ حظه بعد من الدراسة الاقتصادية والتخطيط الفعال. ولقد تذوق الأوربيون كمأة الصحراء، وأقبلوا عليها، حيث كانت تجمع لهم من شمال إفريقيا منذ عصر الرومان، وتقدم كطعام شهي فاخر لعظماء القوم.

وتنتشر الكمأة في كثير من الدول العربية، في الكويت ودول الخليج العربي وبلاد الشام والمملكة العربية السعودية بالإضافة إلى بلاد شمال إفريقيا مثل مصر وليبيا، ويرتبط وجود ثمار الكمأة بجذور أعشاب الصحراء.

وتوجد ثمار الكمأة ـ عادة ـ في الأراضي الجيرية جيدة الصرف، والمحتوية على نسبة من الحديد. وهذه الأراضي تكون فقيرة عادة، ولا تصلح لزراعة المحاصيل الاقتصادية، كما يعمل زيادة الكالسيوم فيها على سهولة تفككها، وسرعة تحلل المواد العضوية إلى مركبات أزوتية، تعمل على تشجيع نمو فطريات الكمأة.

وتحدث علاقة الميكورهيزا بين جذور النباتات وميسليوم الكمأة تحت ظروف سوء التغذية في التربة وضعف المجموع الجذري للنبات، حيث تنمو هيفات الفطر حول الجذور وتنشأ علاقة تبادل المنفعة بينهما، بعكس الحال في الأراضي الغنية الخصبة، فإنها لا تساعد على نجاح علاقة تبادل المنفعة.

وتتكون الأجسام الثمرية للكمأة نتيجة نمو هيفات الفطر على جذورالعائل النباتي المناسب مكونة ما يسمى بالميكورهيزا. ويتكاثرالنمو الفطري مكوناً غلالة من الهيفات، وفي هذه الأثناء يحصل فطر الكمأة على المواد الكربوهيدراتية من النبات، بينما يمده هو بالمركبات النتروجينية، وييسر له الحصول على الماء الذائب فيه العديد من أملاح التربة كالفسفور. والثمار المتكونة تكون صغيرة الحجم، تكبر تدريجياً مكونة أجساماً ثمرية أسكية، تشبه درنات البطاطس الصغيرة، ذات سطح محبب، وقد يصل وزن الثمرة الواحدة إلى حوالي كيلو جرام.

ولقد شغل محبو الكمأة أنفسهم طويلاً في محاولة الاهتداء إلى هذه الثمار الشهية بمجهود أقل، حيث استعانوا بعديد من الوسائل والمشاهدات، التي عن طريقها يسهل الوصول إلى الكنز المختبىء تحت سطح الأرض، وهي ثمار الكمأة.

وفي البداية يجب وجود العائل النباتي الذي تنمو الكمأة على جذوره، حيث تنتشر أعشاب وأشجار الصحراء في طول بلادنا العربية وعرضها، وقد تتكون على جذور هذه النباتات وغيرها ثمار الكمأة، خاصة في المناطق ذات التربة الجيرية، التي لا يقل فيها معدل سقوط الأمطار عن 180 ملليلترا سنوياً.

ويلاحظ أنه بعد سقوط الأمطار، تكبر ثمار الكمأة في الحجم، فتتشقق الطبقة السطحية من الرمال فوقها، مما يسهل ملاحظة وجودها، حيث يعمل الأعراب على نبش وتقليب التربة بأعواد خشبية باحتراس، للحصول على الثمار كاملة دون تلف.

وتتميز الكمأة برائحتها الجذابة القوية، التي تجذب إليها بعض حيوانات الصحراء مثل الفئران، حيث تقوم بنبش التربة للحصول على وجبة شهية من الكمأة. وتعتبر مشاهدة نبش وحفر حول جذور بعض أعشاب الصحراء من علامات وجود الكمأة على جذورها. ويهتدي بعض أنواع الذباب إلى الرائحة القوية للكمأة، ويهيم حولها، ويضع بيضه على الأنواع السطحية منها، لذلك يطلق عليه اسم ذباب الكمأة TRUFFLE FLIES حيث يعتبر وجوده أيضاً إحدى علامات وجود الكمأة.

نكهة وفائدة

وأخيراً، أمكن تدريب بعض الحيوانات كالكلاب على تتبع رائحة الكمأة، وذلك للبحث عنها والعثور عليها تحت سطح الأرض دون أن تتلفها. والكلب المدرب يمكنه شم رائحة الكمأة على بعد يتراوح من 30 إلى 50 متراً، خاصة أصناف الكمأة ذات الرائحة النفاذة، وأيضاً الأصناف السطحية غير المتعمقة تحت سطح الأرض.

وتتميز الكمأة بقيمتها الغذائية العالية، ومكانتها الممتازة كطعام فاخر في كثير من بلاد العالم، وذلك لاحتوائها على نسبة عالية جداً من البروتين الغني بالأحماض الأمينية الأساسية، التي لا يستطيع جسم الإنسان تكوينها بنفسه.

ويشبه طعم الكمأة لحم الضأن، وهي سهلة الهضم، غنية بالفيتامينات خاصة فيتامين C، والمعادن. ولقد أثبت البحث العلمي أن بروتين الكمأة سهل الهضم، يستفيد منه الجسم مباشرة، كما توجدالدهون بنسبة قليلة على صورة ستيرولات وليست على صورة كوليسترول وبالتالي فدهون الكمأة ليست ضارة بصحة الإنسان.

ويستخدم مسحوق الكمأة كتوابل ذات طعم ونكهة فاخرة، بينما تستعمل الأنواع ذات الرائحة العطرية النفاذة في صناعة بعض أنواع العطور الفاخرة.

إن الكمأة سر من أسرار الطبيعة، وهبة منحها الله للإنسان وهي مجددة للحيوية ومعيدة للشباب، فقط تنتظر من يكتشفها ويزيل طبقة الرمال من فوق سطحها.

 

محمد علي أحمد

 
  




احجام مختلفة من كمأة الصحراء البيضاء





نماذج من الكمأة السمراء