النيوترونات وسر اللوحات المزيفة

النيوترونات وسر اللوحات المزيفة

مركز البحوث النووية ـ هيئة الطاقة الذرية ـ مصر

جسيمات دقيقة غير مشحونة تستعمل في اكتشاف اللوحات الفنية المزيفة
وتؤدي أحيانا إلى اكتشاف أشياء مدهشة في اللوحات الفنيـة المشهورة.

أصبحت الجسيمات التي اكتشفت في الأبحاث العلمية الأساسية معترفا بها كأدوات عالية التقنية تستخدم في مجالات واسعة المدى مثل التشخيص والعلاج في الطب, علم الآثار, واكتشاف اللوحات المزيفة. وتعتبر فيزياء الجسيمات مغامرة بهيجة في الكشف العلمي, فهي تمثل واحدة من قمم النشاط الفكري الإنساني. ومثل أي فرع من فروع العلم البحت, يلعب حب الاستطلاع جزءا كبيرا في التحريض على استمرار تطوير علم فيزياء الجسيمات. ولكن البحث من أجل اكتشاف الطبيعة الأولية للمادة, وقوى الكون, يقدم نظرة عامة لدرجة أنها ربما تحجب الجزء الأكثر عمليا من النتائج المفيدة التي قد تدفقت من دراسة الذرات والعالم الموجود بداخلها. بعض من هذا قد أصبح مضللا في العالم المتقدم اليوم إلى درجة أننا نعتبر الجسيمات شيئا مسلما به جدلا وننسى أصولها في أعمال باحثي القرن التاسع عشر. لقد تطور علم فيزياء الجسيمات نتيجة لاكتشافات تمت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.

أكثر هذه الاكتشافات أهمية هو اكتشاف الأشعة السينية X-rays بواسطة ويلهيلم رونتجن في عام 1895, النشاط الإشعاعي Radioactivity بواسطة بيير كوري وماري كوري في عام 1896, واكتشاف الإلكترون بواسطة ج.ج. طومسون في عام 1897. لقد قادت هذه الاكتشافات إلى فهمنا المفصل للتركيب الحديث للذرة وإيجاد مئات من الجسيمات دون الذرية. وفي هذه الأيام لدى علماء فيزياء الجسيمات صورة أعمق بكثير عن عالم ما دون الذري.

التنشيط الإشعاعي

من الطرق المستخدمة للاستفادة من الجسيمات في التطبيقات العملية طريقة التنشيط الإشعاعي بواسطة جسيمات النيوترونات neutron activation.

وهي طريقة لإيجاد التركيب العنصري لعينة معينة باستغلال بعض الخواص النووية لنظائر العناصر الموجودة في العينة. لقد اكتشف النيوترون بواسطة العالم الفيزيائي ج. شادويك في عام 1932 ووجد أن كتلته هي نفس كتلة البرتون ولكنه غير مشحون كهربائيا, ولأن النيوترونات غير مشحونة كهربائيا فهي تخترق بسهولة المجالات الكهربائية للذرات والنويات. فلسهولة اختراق النيوترونات للمادة فهي تستخدم في تشعيع المواد (أي تحويلها إلى مواد مشعة) التي تحتوي على عدة عناصر.

تأسر نويات ذرات العناصر النيوترونات ذات الطاقة المنخفضة وتتحول مؤقتا إلى نويات مشعة تعتمد في طبيعتها على العناصر الأصلية في المادة. ما يهمنا هنا هو أن هذه النويات المشعة تضمحل, أي تفقد إشعاعاتها لتتحول إلى نويات غير مشعة, بمعدلات مختلفة وتشع تشكيلة من الإشعاعات النووية المميزة. بتسجيل أطياف هذه الإشعاعات نستطيع تحديد العناصر الموجودة في المادة حتى لو كانت موجودة بكميات ضئىلة جدا (جزء من مائة مليون من الجرام). لقد استخدمت هذه الطريقة بواسطة البيولوجيين, والفيزيائيين, والكيميائيين لتحليل المقادير الضئيلة من العناصر في أوساط عديدة سواء كانت صلبة أو سائلة.

اللوحات المزيفة

واحد من مجالات التطبيق غير المتوقعة للتنشيط الإشعاعي بالنيوترونات هو عالم الفن حيث تستعمل هذه الطريقة في اكتشاف اللوحات الفنية المزيفة وفي بعض الأحيان تؤدي إلى اكتشاف أشياء مدهشة عن اللوحات الفنية المشهورة. من المعروف أن تزييف اللوحات الفنية قد ظهر مع وجود سوق لشراء وبيع اللوحات الفنية. لقد نشأت طرق عديدة لتزييف اللوحات الفنية خلال مئات السنين الماضية. ومع ذلك فإن اللوحات التي زيفت بعد مدة طويلة من وجود الأصل غالبا ما يمكن اكتشافها من خلال المفارقة التاريخية في الأزياء, أسلوب المعالجة أو البراعة الفنية, أو عن طريق المواد الداخلة في رسم اللوحة. عن طريق تعيين هذه المواد يمكن اكتشاف التزييف في اللوحة الفنية وذلك باستخدام ترسانة من التقنيات, منها: التحليل الكيميائي, استعمال الميكروسكوب, التصوير بالأشعة السينية X-rays وتحت الحمراء IR وفوق البنفسجية UV وكذلك باستخدام التنشيط الإشعاعي بواسطة النيوترونات.

بتعريض اللوحة الفنية إلى سيل من النيوترونات ذات الطاقة المنخفضة لمدة ساعة تقريبا, يتولد في اللوحة نشاط إشعاعي منخفض المستوى. وعندما تسقط أشعة بيتا (إلكترونات) المشعة من اللوحة على فيلم حساس من نوعية خاصة (يتأثر بهذه الإلكترونات) ستترك صورة على الفيلم, ستتحول نويات العناصر المختلفة الداخلة في تركيب اللوحة إلى نويات مشعة لها أنصاف أعمار(1) مختلفة, بعضها سيتحول إلى نويات غير مشعة (مستقرة) أسرع من النويات الأخرى. ولذلك فإن الصور التي تؤخذ للوحة فنية على فترات زمنية مختلفة تشكل مجموعة من الصور تعتمد على أي من نويات العناصر الموجودة في اللوحة هي السائدة في خروج الإشعاع في اللحظة الزمنية التي تم فيها التصوير. النويات التي تعطي إشعاعا أسرع (نويات مشعة لها أنصاف أعمار أقصر) ستظهر فقط في الصور المتكونة حالا بعد عملية التنشيط الإشعاعي, أما النويات التي لها أنصاف أعمار أطول ستظهر في الصور التي تؤخذ أخيرا بعد أن يتوقف خروج الإشعاعات من العناصر قصيرة العمر.

تعتمد طريقة اكتشاف تزييف اللوحات الفنية على حقيقة أن الألوان المختلفة في اللوحة تحتوي على عناصر مختلفة, وبالتالي تظهر عند أوقات محددة في الصور المأخوذة بعد عملية التنشيط الإشعاعي. فأي لوحة أصلية ستعطي مجموعة من الصور في فترات زمنية محددة (عدة ساعات أو أيام من انتهاء عملية التنشيط الإشعاعي) والتي يجب مقارنتها بالصور المأخوذة من اللوحة المشكوك في تزييفها. في الواقع, فإن على المزيّف أن يتأكد أن الألوان التي يستعملها تماثل في التركيب العنصري الدقيق ـ وبالتالي انصاف أعمار النويات المنشّطة إشعاعيا ـ تلك الألوان التي استخدمها الفنان الأصلي في لوحته من مئات السنين, بالإضافة إلى ذلك فإن طريقة التنشيط الإشعاعي يمكنها أن تكشف التوقيع الموضوع على اللوحة أخيرا أو حتى لوحة كاملة طمست تماما بلوحة أخرى.

من الممكن معرفة بعض الأشياء المدهشة عن اللوحات الفنية المشهورة باستخدام الصور المسجلة لهذه اللوحات في فترات زمنية محددة بعد التنشيط الإشعاعي. فهناك لوحة مشهورة رسمها سير أنتوني فان دايك (1599 -1641) للقديسة روزالي تلتمس فيها الرحمة بسبب الطاعون الذي ابتلى باليرمو. وهذه اللوحة موجودة في متحف المتروبوليتان الشهير في نيويورك, ويعتبر فان دايك أكثر الرسامين الفلمنكيين شهرة ـ بعد الفنان روبين في القرن السابع عشر, لقد كان رساما خصب الإنتاج لبورتريهات الارستقراطية الأوربية ونفذ أيضا عدداً من الأعمال عن العقيدة والمواضيع الخيالية, وكانت موهبته أكثر ملاءمة للمواضيع التي تشمل العاطفة الرقيقة.

وأخذت صورة بالأشعة السينية, تظهر فيها إشارات مبهمة لوجه كان موجودا في الأصل على قماش احدى اللوحات ولكن الفنان رسم فوقه اللوحة الموجودة حاليا في متحف المتروبوليتان. لقد بينّت نتائج التحليل بالأشعة السينية أن الظلال الموجودة بالصورة هي نتيجة لوجود لون مستعمل في أصل اللوحة أساسه عنصر الرصاص, ولكن الألوان الأخرى الموجودة في اللوحة هي شفافة بالنسبة للأشعة السينية فلا تظهر في الصورة, ولكنها هي نفسها التي تظهر جيدا بعد التنشيط الإشعاعي بالنيوترونات.

واخذت صورة للوحة لوي سجلت بعد عدة ساعات من التنشيط الإشعاعي تظهر وجود عنصر المنجنيز الذي يوجد في لون الـ Umber فقماش اللوحة الملون مملوء بطبقة من لون أساسه الـ Umber أما المساحات البيضاء في تلك اللوحة فهي المساحات التي تم ترميمها حديثا بلون لا يحتوي علي عنصر المنجنيز. تستطيع أن تستنتج بعد أن ترى الصورة في المتحف أن الملاك الموجود في اللوحة الأصلية خلف القديسة قد أضيف أخيرا إلى اللوحة لأنه لم يظهر في خلفية الصورة التي التقطت للأصل.

 

عزت طه سليم

 
  




اللوحات المزيفة