عندما تزوج الأراجوز عروسة المولد!!

عندما تزوج الأراجوز عروسة المولد!!

التجربة الذاتية ومغامرة الوعي

ارتبط "الأراجوز" في وجداني برموز البطولة والمغامرات التي يتقمص فيها أدواراً متعددة، ذات حس اجتماعي ناقد في سخرية فكهة لاذعة، كما ارتبطت عروسة المولد بحس أنثوي رقيق ملون بعديد الألوان القزحية الفرحة، مكاناً خاصاً الطفولة الباكرة، احتل مكاناً خاصاً لدي، وشكل وجوداً له قوة حضور عالية، في تلك المنطقة من المخيلة، التي تحتضن الأحلام والتمنيات وتأثير حكايا الجدات، والأشياء الجميلة الملونة.

ولعل ذلك هو مادفعني لاستلها مهما "الأراجوز والعروسة" كعناصر رئيسية في أعمالي الفنية، منذ منتصف الثمانينيات وحتى الآن، حيث تحولا إلى رموز بدت لي طيعة، قادرة على الاستجابة لحمل أفكاري وآرائي ومضامين موضوعاتي الفنية، بجوار مايكمن في هيئاتهما من وإمكانات التوافق مع الصياغات التشكيلية المتعددة المستحدثة، فرحت أصورهما أبطالاً لموضوعات ذات حس تعبيري إنساني به قدر من السخرية الفكهة، والرؤية الناقدة لكثير من السلبيات في حياتنا اليومية، ولكن دون الوقوف عند حدود المباشرة الخبرية القاطنة في الحكايا، وإنما تحول الاثنان إلى "موضوعات فنية" لايشكل أي من المضمون أو الشكل فيها وسيطا للآخر، وإنما هي شيء واحد حميم.

رؤية ورأي

فالفن لدي ليس مجرد حامل لمضامن تعبيرية خبرية فحسب، ولاهو مجرد تراكيب شكلية خالصة بلا معنى، كما هو الحال في كثير من أعمال مدعي الحداثة، وإنما هو رؤية ورأي يتوافق فيهما عمق المضمون مع بلاغة الشكل، توافقاً حميماً، لاسبيل فيه للفصل بين كليهما، أي أنه -الفن- "كل متكامل" يتعذر اشتقاق خصائصه وسماته وعناصره، كل على حدة، وإنما تذوب جميعاً في بنية جديدة، تنتظم فيها العناصر في وحدة "عضوية" واحدة، فلا نستطيع فصل الشكل وتقنياته وصياغته، عن المضمون والتعبير، وإنما هما معاً يشكلان بنية متفاعلة العناصر بمفهوم الكيمياء، وليست مجرد مجموع أجزاء.

ولأن الأمر كذلك، فإن "فعل الفن" هو شيء متفرد وخاص، يختلف من فنان لآخر وفق عناصر كثيرة، كالسيطرة على الأدوات وامتلاك ناصية اللغة والبراعة التقنية وقدر الثقافة والوعي، والقدرة على الصياغة المستحدثة غيرالمسبوقة، وهو أمر يتطلب هضماً واعياً مستوعباً لمعطيات الإيجابي من التراث، وفهماً جيداً راصداً للواقع الآني، وتواصلاً واعياً مع الإيجابي الملائم من الحداثة، وهو ما نحاول طوال ربع القرن الماضي أن نضبطه -على صعوبته- على اعتبار أن الفن "لغة خاصة"، هي شكل من أشكال النشاط الاجتماعي المرتبط بمختلف القوى الفاعلة في تطور المجتمع، لا ينفصل عن مجموع العلاقات الاجتماعية، ويعمل - على الرغم من استقلاله النسبي -ضمن تلك العلاقات التي تسهم إسهاماً كبيراً في تحديد مساره وتوجهه العام.

قصور الادوات

وإذا كان الأمر كذلك، فإن الشكل الفني المعبر عن الفردي، والشخصي الذاتي، هو بالضرورة اتصالي اجتماعي لتكتمل دائرته، ويصبح حاملا لمقومات وجوده وبقائه، وبالتالي فإن ذلك الإغراق في التغريب، و"عبث الشخبطة" غير المفهومة - حتى من قبل الفنانين أنفسهم-، والسقوط في براثن "التعالي" على الناس بحجة التجريب والتجريد وخصوصية الرؤية، هي كلها أمور تشي بقصور في الرؤية والأدوات معاً. صحيح هناك قدر من البلاغة وغير العادية، ولكنها لاتعني الانفصال عن المجتمع، أو الإغراق في الابتعاد عنه، لأن الفن ساعتها سيفقد سبب وجوده.

وبالتالي، فقد عمدت دائماً إلى استلهام الموضوعات والمضامين من الحياة الاجتماعية التي أنا جزء من نسيجها، فتشكل الهيكل البنائي "للموضوع الفني" الذي هو في الأول والآخر هيئة العمل ومحتواه معاً، لا فواصل فيه بين النكر والر أي والرؤية والفعل الفني ذاته، أمر مضمون حين يتشكل في "هيئة"، ووسائط تنفيذه التقنية.

ثمة شيء آخر مهم، وهو مفهوم "الأصالة والمعاصرة" وملامح امتداد معطيات السلف في نتاجات الخلف، وقدر تأثير ذلك في درجة الاتصال بالعصر والتواصل مع الإيجابي من المستحدث فيه، ومواكبته على أقل تقدير، إن لم نقل محاولة تجاوزه.

ولعل ذلك هومادفعني للبحث عن سر ثراء ذلك التداخل بين "تسطح" الأشكال والعناصر، والإيهام "بتجسيمها" عن طريق التراكب والتراكم والتداخل في بناءاتها في فنون التصوير الإسلامية التراثية العظيمة، حيث عمد فيها الفنان إلى ترك العنان لخياله، كي يصوغ الأشكال الآدمية والحيوانية والجبال والأنهار والأشجار والطيور وغيرها، دون ضوابط بصرية مقيدة بقوانين البعد المنظوري، وإنما يضبط إيقاعها ومنطق تراكبها قوانين أخرى "روحية"، تنفصل فيها العناصر عن "كياناتها" المرئية المنطقية السابقة، لتنتظم في كيانات جديدة، وبمنطق بناء اللوحة ذاتها، وبالتالي يصبح من العبث قياس الحجوم والألوان والحركة أو السكون بقوانن الجاذبية والمنظور الهندسي التي نعرفها خارج العمل الفني، أي أن العمل الفني هنا يبدو ككيان جديد ولد متجرداً عن السابق المباشر المتعارف عليه، ولم يعد "تصويراً" لشيء موجود بالفعل، وإنما أصبح "تصوراً" لأشياء ومضامين، وفارق شاسع بين "التصوير" و"التصور".

وسائط أولية

بهذا المفهوم رحت أتناول عناصر الأراجوز وعروسة المولد وأسد الوشم والحصان الخشبي وغراب البين وسمكة الخير والقطة السوداء ومكبر الصوت وغيرها من العناصر الشعبية المصرية، كوسائط أولية موجودة بالفعل، داخل سياقات ومنظومات مرتبطة بالحكايا الخيالية، وبمغامرات بطولية تشبع الأحلام والتمني.

لم أنتزعها من سياقاتها، وإنما أحدثت مايشبه التحويل فقط لمساراتها، لتنتظم في منظومات جديدة مساوية للرأي والرؤية وأساليب الأداء لدي، ولتصبح هي القول والفعل الفني معاً، داخل تجربتي الفنية الذاتية، التي هي جزء حميم من أحلام العامة - الذين أنا منهم - دون انفصال عنهم أو تعال عليهم، وهو أمره مهم هنا، لأن الانفصال والتعالي أو الإغراق في متاهات التغريب، ينجم غالباً إما عن انفصال الذات الفنية عن المجتمع، أو قصور في امتلاك الأدوات، يصبح حجة للعبث و"الشخبطة".

كما أنني قد حاولت ترك العنان للأشكال والعناصر أن تتشكل كيفما شاء لها التشكل، يختلط فيها التسطيح بالإيهام بالتجسيم، والحوير في الملامح بالالتزام بالطبيعة، والخيال بالواقع، والهندسة المجردة بالعضوية الحية، فلا قوانين مسبقة جاهزة، وإنما "فعل الفن" ذاته هو الذي يحدد النتائج، محكوم فحسب بخبرات أن الأمر هو في كل مرة مغامرة، ولكنها مغامرة مصحوبة بقدر من الوعي والخبرة بقوانين اللغة وأسرارها.

وها هو الأمر بعد أكثر من ربع قرن من العمل المتصل أسفر عن خمس وعشرين معرضاً خاصاً، ما زال مثيراً ومدهشاً، وحاملاً في طياته قدراً من الشعور بأننا مازلنا في أول الطريق، وأنه مع ازدياد الخبرة يزداد اليقين بأن الفن بئر بلا قرار، صعب، مؤرق، عاص، مؤلم وممتع، ومصحوب بلذة التحقق معاً.

 

فاروق بسيوني

 
  




د. فاروق بسيوني





الأراجوز يتزوج عروسة المولد





تنويعات على الأراجوز





الأراجوز - 1995