متى تسمع العين.. وترى الأذن؟

تسمع العين.. وترى الأذن؟

في العشرينيات من هذا القرن, عندما كنت أنا وبعض الزملاء نلهث للحاق بقافلة الحضارة, التحقنا بأول مدرسة للفنون الجميلة, استجابة لقلوبنا المتعطشة إلى قطرة من الغيث المنهمر على العالم المتحضر, الذي كنا نسمع عنه ولا نراه..

وحدث أن منحتني إدارة المدرسة جائزة تفوق عبارة عن كتاب باللغة الفرنسية عن الفنان الفرنسي الكبير (آنجر) وفرحت بهذاالكتاب القيم فرحة تفوق كل وصف, إذ كنت أرى بين صفحاته ماذا تعنيه كلمة لوحة, وماذا تتضمنه هذه التسمية من سحر لا يقاوم.

كان الكتاب مطبوعا باللون الأسود, إذ إن الطباعة الملونة لم تكن معروفة في ذلك الحين. ومع ذلك سمحت لخيالي أن يتصور هذه اللوحات بألوانها الطبيعية وأنا أعلم علم اليقين وبعد ذلك عن الواقع..

وهكذا انفتحت مواهبنا كالزهور البرية, مكتفية ببضع قطرات تقاوم بها جفاف الحرمان.. وكان جيلنا سعيدا بذلك, فقد كنا مثل الأطفال الحديثي الولادة الذين حرموا من لبن أمهاتهم, واكتفوا بما يقدم لهم من ألبان معلبة أو غذاء صناعي يواجهون به الحياة, عملا بالمثل القائل من لم يصب لحماً فليصب مرقاً..

قفزت إلى ذاكرتي تلك الأيام العجاف وأنا أتصفح المجلد الضخم الذي تفضل مؤلفه الدكتور (ثروت عكاشة) بإهدائه لي كما عودني دائما. كان هذا المجلد إحدى الحلقات المكملة لسلسلة (العين تسمع والأذن ترى) ولا يمكنني أن أصف عنف (الشهقة) التي داهمتني وأنا أتصفح هدية العام الجديد.. شهقة انبهار.. أسلمتني إلى ما يشبه الذهول. فقد كان الإيقاع الهادىء الذي يصاحب السلسة وهي تنمو نمواً هادئاً حلقة بعد أخرى, من نوع (الكريشندو) الذي يتدرج في عنفوانه وهو يقترب من ذروته.. ولكنه في هذاالمؤلف يمثل نقرة هادرة تبدو من هولها كأنها نبرة الختام التي يختم بها المؤلف سمفونيته.

وزارة الرجل الواحد

إنها إحدى سمات العالم الكبير (ثروت عكاشة) فارس المفاجآت الذي يعدو بلا توقف, ويهرول دون إبطاء وراءالكمال الذي يسدله على جميع إنجازاته التي هي في رأي الجميع نتاج مؤسسة ضخمة وليست من عمل فرد واحد.. فقد قرر الرجل العظيم عندما ترك وراءه وزارة الثقافة أن يكوّن بمفرده وزارة (الرجل الواحد) بكل ما يتبع ذلك من أعباء ومسئوليات لا حد لها.. وأن يمسك قيثارته بكلتا يديه يعزف عليها منفردا تارة, وتارة أخرى يمسك بعصا القيادة يدير بها المقاطع اللحنية بين العازفين ببراعة منقطعة النظير.

إن هذا المشروع الموسوعي الذي بدأه المايسترو الكبير في ظروف نعلم مدى قصورها عن تحقيق مثل هذا الحلم الثقافي العملاق قد يصيب بالإحباط أي مغامر يفكر في أن يلقي بنفسه في دوامته, وذلك لبعد واقعنا عن مصادر المعرفة الوثائقية, مكتبية كانت أو متحفية, وخلو المساحة من الناشر الفدائي الذي يتحمل مصاعبه, وقلة الإمكانات المادية والتقنية التي تنجز مثل هذا المشروع الضخم في مستواه الرفيع.. ولكن الإرادة تصنع المعجزات, وصدرت الموسوعة رغم كل ذلك لترصع المكتبة العربية بأرفع الأوسمة في فن الكتاب شكلا ومضمونا.

إن معرفتي الوثيقة للمبدع الكبير "ثروت عكاشة" تجعلني أشفق عليه أحيانا من مغامراته التي يصر على أن يثري بها واقعنا الثقافي, وذلك بما تتسم به شخصيته من مثاليات يندر أن تجتمع في شخص واحد.. من أمانة علمية تبلغ درجة الوسواس, وانضباط عسكري بالغ الصرامة, وتحليل معملي بالغ الدقة, وإرادة فولاذية تتحدى جميع الصعاب, وحب غامر يجعل الأسلوب الأدبي ضربا من ضروب الغزل..

ففي محاولة منه لصقل اللغة والارتقاء بالكلمة العربية إلي أعلى مدارجها نراه يبتدع أو يستخدم بعض المصطلحات غير المتداولة, فيستعمل كلمة "محرف" بدلاً من كلمة "مشغل".. وكلمة "طبيعة قمراء" بدلا من "طبيعة مقمرة" وكلمة "خطوط متأوّدة" بدلا من "خطوط متثنية" وكلمة "مرقاش" بدلا من كلمة "فرشاة".. كما أنه يستعير اللغة القرآنية في وصف المواقف المأسوية ليعبر عن هولها فيقول وهو يصف إحدى لوحات "مايكل انجلو" التي يصور فيها يوم السحاب "يصلى ناراً حامية, يُسمع لها شهيق وهي تفور, بلا حميم يشفع له, ليس له طعام إلا من ضريع ومن غسلين"..

فكرة البحث

إن معنى كلمة (الرنيسانس) المتداولة هو البعث أو الإحياء, ومن هنا كانت فكرة البعث مرتبطة أشد الارتباط في أذهان الإيطاليين بفكرة إحياء مجد روما القديم المندثر, بعد أن كانت الفترة بين العصر الكلاسيكي الذي يتطلعون إليه بإعجاب وعهد الإحياء الجديد الذي يصبون إليه بمثابة فاصل مظلم. ومن ثم كان البعث أو الرنيسانس هو المصدر الذي انبثق منه, باعتبار أن الفترة التي بينهما هي عصر وسيط.

ولقد تركزت النهضة الحقيقية, التي كانت تزاوجا غير مألوف بين العبقرية والطاقة والظروف, حول مدينة فلورنسا التوسكانية. فلأول مرة منذ عصر أثينا الذهبي أثبت الفنانون والعلماء الساسة مجتمعين أنه ما خلا زمن من عجيبة من العجائب, لكن أعجب العجائب كلها هو الإنسان بسعيه الدءوب نحو الاكتشاف والتطور وخلال قرن كامل ظهرت كوكبة من عباقرة الفن الذين استحدثوا (إيقونوغرافية) جديدة يزهو بها عصرالنهضة. هذا هوالموضوع الذي يدور حوله هذا الكتاب الذي نحن بصدده. وإذا المؤلف يختار بدقة نجوم صناع الحضارة الذين أضاءوا سماء الإنسانية بأسمى القيم وأرفع المثل, مبدلين بالصقل والتهذيب طبيعة الإنسان المتدنية عن طريق إبداعاتهم ورفعها إلى آفاق الكمال الإنساني درجات.. وهكذا تتجاور صفحات الكتاب لتؤلف في مجموعها سماء ممتدة تتألق في رحابها هذه الأسماء الخالدة:

مزاتشيو.. فرا أنجيليكو.. أوتشللو.. فيليبوليبي.. جونزولي.. جرلاندايو.. ليوناردو.. بوتتشللي.. مايكل أنجلوا.. بييرو دللا فرانشسكا.. ورافايللو.. وغيرهم..

ويؤكد المؤلف جانبا مهماً من شمولية المعرفة لدى فناني تلك المرحلة التي كانت عصر نهضة شاملة في جميع روافد الحياة, فيبين لنا أن فناني ذلك الزمان لم يكونوا دعاة جمال مظهري فحسب, وإنما كان لهم دور بارز في العلوم والرياضيات والفلسفة, مؤكدين بذلك أن وحدة المعرفة هي الأسلوب الأمثل للتكامل الإنساني الذي يثري المحصلة المعرفية ويوسع دائرتها.. ويضرب بذلك مثلا بأحد نجوم عصر النهضة, وهو الفنان الشامل (ليوناردو دافنشي) الذي كان يجمع بين الفن والعلم والدين والفلسفة في محاولة لدحض فكرة استقلالية العلم التي فجرتها العصور الوسطى.. ولقد امتلأت مذكرات هذا الفنان والمفكر العبقري بدراسات غاية في الأهمية في علم التشريح, والجيولوجيا, وعلم المنظور.. ولعل من أهم دراساته تلك الرسوم التخطيطية التي توضح وظائف جناح الطائر التي تمكنه من التحليق في الفضاء.. ولا شك أن هذه الرسوم هي التي مهدت لاختراع الطائرة التي أصبحت وسيلة شائعة للتنقل بين أطراف الأرض في العصر الحديث.

ويفرد المؤلف مساحة كبيرة من الكتابة لتحليل لوحة (الموناليزا) التي أصبحت أشهر لوحة شخصية في التاريخ.. ويكشف عن القيم الفنية والتشكيلية التي انصرف عنها بعض النقاد وعامة الناس, وأوغلوا في وصف ملامحها الناعمة, وابتسامتها الساحرة, ونظراتها الحالمة, وغير ذلك من هامشيات, ولكن المؤلف يكشف عن مزايا تشكيلية وتقنية أخرى يضيفها إلى المفاهيم الدارجة فيتضاعف استمتاع المتذوق بهذه اللوحة الأسطورية النادرة.

ويبلغ الكتاب ذروته في الجزء الذي يضم سيرة وأعمال عبقري العباقرة (مايكل أنجلو) الذي لم يجد الزمان بمثله مصورا ولا نحاتا ولا مهندسا ولا شاعرا.. فقد كان يذهب إلى جبال (كارارا) ويشاهد الكتل, الرخامية وهي ترتفع شامخة كأنها تناطح السحاب.. ويغوص في أعماقها ويعريها مما تراكم فوقها وحولها من طبقات الرخام, فيرى بداخلها تماثيل كاملة تختبىء وراء القشرة, وما عليه إلا أن يعريها من هذه القشور السطحية حتى تخرج إلى الوجود آيات تنضم إلى نظائرها في منظومته النحتية الفريدة.

حيوية حركية

لقد أجمع المؤرخون والنقاد على أن هذا الفنان هو الوريث الشرعي لكلاسيكيات الإغريق والرومان, وأنه تفوق عليهم بتلك الحيوية الحركية والشموخ البطولي اللذين كان يبثهما في تماثيله, وكان يدرك ذلك بفطرته, حتى أنه عندما وضع اللمسات الأخيرة في تمثال (موسى) القابع في كنيسة القديس بطرس في (فينكولي) قال له بلهجة واثقة آمرة (لماذا لا تنهض وتتحرك يا موسى)? كأن الإنسان لدى (مايكل أنجلو) تحفة الخالق الذي نفخ فيه من روحه, لهذا جعله محور إبداعاته وبؤرة الصدارة التي تنبثق منها تماثيله ولوحاته بلا استثناء, وكان من فرط ولعه بالإنسان العاري يبالغ في التغني بمفاتن جسده, ويفرط في إظهار قوته البدنية وعن طريق عضلاته الناتئة فيبدو كأنه أحد أبطال الإغريق, أو إله من آلهة الأولمبي.. وأحياناً تنعكس مظاهر القوة البدنية على نسائه العاريات أيضاً فيبدون كأنهم أنصاف رجال.. ولم يكن الاسترجال يزعجه لأن مثاليته ترفض الضعف والرخاوة حتى في المرأة أرق المخلوقات جميعا!!

استطاع (مايكل انجلو) أن يتربع فوق عرش الفن كأحسن نحات ومصور في جميع العصور, تشهد بذلك المساحات العملاقة التي تزين سقف وحوائط مصلى (سيستينا) فقد كان يتحدى بها نفسه وأقرانه, ويسابق الزمن, ويعمل المستحيل لإنجاز هذاالمشروع غيرالمسبوق, مستلقيا على ظهره ليل نهار.. تتساقط الأصباغ على وجهه وعينيه حتى تكاد تفقده بصره, دون أن يثنيه ذلك عن إتمام هذا المشروع التاريخي الفريد الذي استغرق أربع سنوات من عمره تساوي أربعة قرون من عمر الزمن..

ولا يتجاهل (مايكل أنجلو) النظريات الفلسفية اليونانية التي كانت سائدة في زمانه, فيستعير النظرية الهندسية الأفلاطونية, التي تقول إن الدائرة والمربع والمثلث هي الركائز الكونية الأساسية التي تحمل فوق أضلاعها هذا الكون البديع.. وكان يطبق هذه النظرية على تكويناته التي تغطي سقف المصلى في تناسق وتناغم رائع, فيبدو وهذا النسق الهندسي في أروع وأحلى صوره التي تصيب من يراه بالنشوة والراحة.

ولكي يبرز المؤلف جمال وروعة هذه اللوحات فقد أفرد لها صفحات بانورامية ملونة, عبارة عن مطويات تقترب من المتر طولا لكي تمكن عين الرائي من أن تضم هذه المنظومة كاملة في مواقعها من السقف الهائل.. وهذا سبق لم يحدث في أي مطبوع فني عربي قبل ذلك.. ثم يفرد صفحات أخرى كاملة يركز فيها على تفاصيل اللوحات التي تؤكد أنه ليس في الإمكان أبدع مما حققه هذاالفنان عندما يترجم الخيال الذهني إلى واقع مرئي يفوق ما يشاهد في الطبيعة جمالا وجلالا حتى يمكن القول بأن هذا الإنجاز عمل ملهم من وحي السماء, وليس عملا من صنع البشر.

هذا ويشير المؤلف إلى أعظم وأخطر حدث تكنولوجي في أواخر هذاالفرن, وهو قرار المسئولين الإيطاليين أن يتولى كبارالمتخصصين ترميم هذاالعمل الملحمي الكبير.. ورغم حساسية هذاالعمل الخطير فقد أعادت الخبرة إلى هذه الرائعة بهاءها ورونقها. وقد استغرق هذا العمل سنوات طويلة تجدد شباب السقف والجدران, وزالت عنها تجاعيد السنين وبصمات الزمن!!

وثمة ظاهرة أخرى جديرة بالإشادة, وهي أن مؤلف هذاالكتاب ما كاد يعلم بفتح أبواب مصلى سيستينا للجمهور بعد انتهاء ترميم ما تضمه من لوحات خالدات رائعات للفنان (مايكل انجلو), حتى رأى وهو في مرحلة الإعداد والتجهيز لظهور كتابه ضرورة عودته إلى زيارة مصلى سيستينا بقصر الفاتيكان, فقصد روما في نوفمبر 1995 حيث بهرته نضارة الألوان, فعقد العزم على إظهار لوحات هذا المصلى بعد التنظيف والترميم في كتابه هذا, حتى يوصل هذا الإشراق اللوني إلى الأجيال العربية المعاصرة, فانبرى يسعى للحصول على صور فوتوغرافية أمينة لاستخدامها ـ وكان دون ذلك شوك القتاد ـ إلى أن وفق في الحصول على ما كان يصبو إليه لينشرها في أربع وخمسين لوحة ملونة, متعمدا المقابلة بين خمس لوحات من موضوعات الخلق ويوم الحساب كما كانت عليه قبل الترميم, وكما أصبحت عيه بعده.

إنها رحلة مثيرة وممتعة في بحور المعرفة, ترسو فيها العين والعقل في جزر تتجاور كأنها جنان وارفة فيها مالا رأت عين ولا سمعت أذن, حيث يناسج المظهر والجوهر لتحقيق هذا العمل الشمولي الذي يغذي العقل والنفس معا..

ولعل أهم ما يميز هذاالمؤلف كمرجع تاريخي وفني بالدرجة الأولى هو الاهتمام بإخراج اللوحات الداخلية التي تبدو من شدة دقتها كأنها جولات داخل أماكن حقيقية وليست جولات وهمية بين ضفتي كتاب مطبوع.

هناك ملحوظة مهمة يجب أن نختم بها هذه النبذة, وهي أنه لولا تضافر بعض المثقفين القادرين في الشرق العربي, ولولا تكاتف بعض البنوك والمؤسسات التي تؤمن أن الرخاء المادي لا ينفصل عن الرخاء الثقافي, لما برزت هذه التحفة التي تمثل وساماً على صدورهم جميعاً...

حقيقة أخرى أقولها بصدق, وهي أن الوعي المعرفي المتكامل هو الوحيد الذي يجعل العين تسمع, ويجعل الأذن ترى متجاوزين بذلك وظائفهما الخلقية.. وهذا هو ما يستطيع أن يحقق أمثال هذا الإنجاز العظيم, وهذه دعوة لمن يرى ويسمع..

وقد لا أعدو الحقيقة إذا قلت إن موسوعة تاريخ الفن (العين تسمع والأذن ترى) للدكتور ثروت عكاشة والتي بدأت في الظهور منذ مطالع السبعينيات, وصدر منها عشرين جزءا حتى الآن هي التجسيد الأمثل للمتحف الخيالي الذي نادى به وحققه الأديب الفنان آندريه مالرو.

 

حسين بيكار

 
  




روفائيل - تفصيل فريق من الشعراء مع هوراس





غلاف الكتاب





فرا أنجيليكو: تقديم المجوس الهدايا





فيروكيو طوبيا والملاك روفائيل