هذا الكون ماذا نعرف عنه؟
هذا الكون ماذا نعرف عنه؟
كتاب يقرأ مرات قليلة هي الكتب الأصيلة في حقل العلم, ولعل هذا الكتاب واحد منها, لهذا لابد أن نعترف بأن المعرفة العلمية محجوبة عن الإنسان العربي بقدر من حاجز اللغة ـ يقل أو يكثر ـ مادام أنه يتلقى تلك المعرفة بلغة غير لغته, ومع إيماننا بضرورة دواعي الترجمة العلمية, فإنها يجب ألا تكون بديلا عن انطلاقنا من اللغة العربية, أي أن نبدأ من اللغة العربية تفكيرا وتعبيرا لا ننقل إليها. فإذا كان نقل المعرفة العلمية يجب أن يكون مبسطا بقدر يقرب السلوك المعقد للظاهرة الطبيعية إلى ذهن القارىء ولا يفقد العلم عمقه, فإن ذلك عين ما فعله الدكتور راشد المبارك في هذا الكتاب القيم. إن الجهد الذي قام به الدكتور راشد المبارك في كتابه "هذا الكون.." يمثل عملا يجب أن يشكر عليه أولا, ويجب أن يخضع للدراسة والتحليل أولا وثانيا وثالثا, ففيه تكامل للمعرفة, وربط بديع بين ميادينها المختلفة وكسر للحاجز الاصطناعي الذي يفصل بين فروعها المتعددة, فالقارىء يجد وثاقا قويا بين الفلسفة والرياضيات والفيزياء والكيمياء والتقنية والبيئة والفلك وعلم الاجتماع والسياسة والدين حتى صارت كلا واحدا لا يتجزأ. (فإذا انفصل العلم عن الفلسفة صار جسدا بلا روح, وإذا انعزلت الفلسفة عن العلم صارت بناء لا تسنده من الواقع دعائم أو لبنات), هكذا يقول الكاتب. إنه ـ في نظري ـ ينبه ويلوح إلى أولئك الذين تقوقعوا داخل تخصصاتهم الدقيقة مستترين بذلك الحاجز الصناعي, مكتفين بالقليل المحدود من المعرفة. والكتاب رحلات متعددة ممتعة, فهو رحلة في العلم والفلسفة من عهد فلاسفة اليونان إلى عهد (كانت) و(بلانك) و(شرودينقر) و(أينشتين) و(هوكنق), ففيه سرد لتاريخ العلم والفلسفة عبر العصور, من العصر الحجري إلى العصر الحديث مرورا بالعصور الوسطى, وفيه تتبع لظهور وأفول النظريات العلمية, وهو رحلة في التخوم البعيد السحيقة والكون الفسيح, وهو رحلة في أعماق المادة وذراتها, وهو فوق كل ذلك رحلة مع عقل مبدع ونفس يفوح منها الشذى. إنك تجد إبداعا في التصوير وتقريبا للمعنى في كل ما طرقه من غوامض ومجاهيل, ففي رحلته داخل الذرة يبدو الغموض الذي يلف حقيقة الإلكترون جليا لنا حين يصفه بأنه (هو الكائن المعلوم المجهول, الحاضر الغائب, الحقيقة والخيال, المادة والمعادلة. وفي مكان آخر (هو نسق من الوجود), فما أبدع التصوير, وفي توضيحه لمشكل اتصال الطاقة عن الفيزيائيين القدامى (وتفاصلها) عند المحدثين من أهل آلية الكم يبسط الصورة قائلا: (طلقات متوضعة وليست سائلا ينسكب من صنبور). وبذلك يكون هو أول من أصل مصطلح (التفاصل) في قاموسنا العربي العلمي, ونجد هذه الريادة سمة مميزة لأسلوب الدكتور راشد, فلقد أصّل في كتابه هذا المصطلحات العلمية العربية, واختارها ناطقة بالمعنى والمدرك العلمي المقصود بها, فقرب لنا المفاهيم والنظريات العلمية بكامل عمقها وأهداها لنا على طبق من ذهب. فعندما يربط بين أصغر الأشياء وأكبرها في الكون مدللا على ذلك (التناغم والانسجام المبثوث في أجزائه والمؤلف بين وحداته), يأصل لعدة مصطلحات علمية عربية جديدة. أسمعه يقول: (النواة وما يحيط بها من كهارب تدور في أفلاكها, مشدودة إلى مركز الدوران بفعل الجذب ومنبوذة بفعل الطرد, ليست سوى صورة مصغرة للمنظومة الشمسية). فأصّل لمصطلح (الكهارب) بدلا من (الإلكترونات), و(الأفلاك) بدلا من (المستويات والأغلفة), و(الشد) بدلا من (الجذب), و(النبذ) بدلا من (اللا ارتباط) و(الفعل) بدلا من (الأثر), و(المنظومة) بدلا من (المجموعة). ويهدينا مصطلح (الدفقات الضوئية) بدلا من (الفوتونات), و(الطاقة المتصلة) ليوضح بجلاء مكامن الاختلاف بين قوانين الفيزياء التقليدية وآلية الكم كما مر ذكره. ويقنعنا ببيانه البديع أن نقبل مصطلح (التعذر) بدلا من (الريبة), و(اللازمة) لتحل محل الحد والشرط, و(العجلة) بدلا من (معدل التغير), واقتنعت أن للمعادن (شرفا) و(حطة), وبدلا من التمركز نجده يطلق مصطلح (الموضعة), والمكان عنده (تحيز), واضمحلال النظرية والفكرة عنده (غيوم الفكرة) و(نتائج التجربة) عنده (الكشوف التجريبية). ولا يسمح لي المجال أن أشير لكل مواقع الإبداع اللغوي العلمي, فهي في كل صفحة من هذا الكتاب ما بين العلم والفلسفة وبرغم من أن الدكتور راشد ينتمي إلى العلماء التجريبيين تخصصا, أي من الذين يبحثون في خواص المادة والعلاقة بين وحداتها مدللا عمله بالتجربة, إلا أنه لا ينكر إمكان الحصول على المعرفة القائمة على النظر والعقل, ويعول كثيرا على الحدس وقوة العقل ويؤكد ذلك في قوله: (...فإن من أسرار المادة وأعماقها ما يقع داخل سور لا يخترقه سوى أشعة الفكر ويتعذر اجتيازه إلا بوثبات الخيال). ويأتي لنا بالدليل قائلاً: (إن جوانب من المعرفة صاغها الفكر كشفت عن الواقع). وبذلك يكون قد أكد على الوثاق المتين والتكامل بين العلم التجريبي والفلسفة. وبعد إبداعه المتكامل هذا ينبه إلى مخاطر تطبيقات العلم والكشوفات الحديثة ويقرع الأجراس منبها للخطر المحدق بأرضنا, ومعززا بالأرقام حقيقة (الطبقية الشعوبية) إن صح التعبير.
|