واحة العربي

 واحة العربي

اللصـوصيـة
عالم الاستيلاء على الأفكار والقصص
والأموال وتكنولوجيا التزوير

كان من المفروض أن أصبح لصا، لكن ظروفي ساءت فأصبحت كاتبا، واسترخت هذه (الاعترافة) في مدخل واحد من كتبي لتثير حولي ـ وضدي ـ جدلا، مع أنه لا يوجد على ظهر الأرض من لم يكن لصا ذات مرة، ولاسيما في العصر الحديث الذي ابتكر وسائل جديدة لأي نشاط إنساني، ومع أن المعنى الابتدائي، أو التعريف الأولي للصوصية هو الاستيلاء على أشياء الآخرين دون رضاهم، أو في غفلة منهم، الا أن العصر الحديث توسع في المعنى حتى ظهر أنواع من اللصوص يمارسون ذلك الأمر بالرضى ودون أية غفلة: لصوص العواطف وابتزاز المشاعر، مثلا، في العشق، وفي العلاقات الأبوية، وفي صياغة الأغاني استعمالا لحالات لا يعيشها أصحاب الأغاني، وفي حالات كثيرة يستعير ذوو الشأن تجارب الآخرين لتبدو وكأنها تجاربهم الخاصة، ونادرا ما يردونها لأصحابها، ذات مرة قصت النجمة المعروفة فاتن حمامة ـ في حوار صحفي ـ حكاية حبها الأول الذي نشب مبكرا بينها وبين صبي الجيران، والذي كانت تقف أمامه بالساعات، هي في شرفتها، وهو في نافذته، ثم اكتشفت بعد ذلك أن غرامها كان مع (قلة) مياه الجيران، والتمحيص السريع سيريق نوعا من التلفيق على هذه الحكاية المثيرة للمرح، أهمها جمود القلة وثباتها دون حركة فترة طويلة، لكن هذه (الأملوحة) مستولى عليها من قصة مبكرة لأمين يوسف غراب، وقد انفصلت بعد ذلك ـ أيضا ـ ليرويها أديب كان وكيلا لوزارة الثقافة المصرية أيام يوسف السباعي، وقد ظهر أنه أديب بعد أن تولى المنصب مباشرة، وكثير من الهياكل الأساسية للأعمال الأدبية الشامخة المعروفة مستعارة سراً من آخرين، هيكل الإخوة كارامازوف لديستوفسكي يقف وراء الجزء الأول من ثلاثية نجيب محفوظ: بين القصرين، فالسيد رب البيت الشهير يجمع بين نوعين متناقضين من الحياة: الحزم والسطوة والتدين والمحافظة على البيت والدكان والشرع، ثم التحلل والنزق والتلهي بالسهرات الفاجرة مع الراقصات ليلا بعيدا عن البيت والدكان والشرع، فماذا كان الأب كارامازوف غير ذلك؟ وعليك أن تقارن بين اتجاهات الأبناء المحدودة عند نجيب محفوظ، والمتعددة عند ديستوفسكي، هناك أيضا رواية البيت والعالم لطاغور الهندي التي تنام وراء ميرامار، مرارة الأرز ـ فيلم إيطالي ظهر أوائل الخمسينيات ومثلته سلفانا مانجانو، قارنه برواية الحرام ـ الجميلة وال مؤثرة ـ ليوسف إدريس، سوف تجد، كمثال للسلب غير المرئي، عنوانا فرعيا في الرواية القصيرة (حادث نصف المتر) لصبري موسى نصه، من التاريخ السري لرجل عادي، وقد أوحى لي هذا العنوان أن أكتب رواية كاملة عن شخص أقل من عادي، واستأثرت بالعنوان الفرعي ليصبح عنوانا أصليا: من التاريخ السري لنعمان عبدالحافظ، انظر لروايات الصديق صنع الله ابراهيم: تلك الرائحة ـ واللجنة، وآمل أن تكون قد اطلعت قبل ذلك ـ أو بعد ذلك ـ على أعمال الزميل فرانز كافكا، رواية الأرض الشهيرة لعبدالرحمن الشرقاوي تأتي من رحم (فونتمارا) للروائي الإيطالي إينادزيوسيلوني، ولو كنت ذا إلمام بتفاصيل النص الروائي أو المسرحي في البلاد العربية، لنجحت في الوصول إلى أمثلة متعددة لهذه الاستعارات التي لا يردها أحد لأصحابها ـ إلا في النادر، لكن هذا لا تتحقق فيه اللصوصية بالمعني الذي نرومه بالطبع، ولاسيما أن الأمور تتم بحسن النوايا، ذات مرة دعاني أصدقاء في سوهاج للمشاركة في ندوة حول مجموعة قصصية لواحد منهم تربطني به علاقة ود، ولأن المسافة من العاصمة إلى سوهاج تتجاوز الساعات الست في القطار السريع، فقد قررت أن أقضيها في قراءة المجموعة، كان الكاتب جميلا وأسلوبه مريحا، قرب نهاية المجموعة كانت ثمة قصة ما كدت أبدأ فيها حتى اضطربت، وبدا الاضطراب مؤثرا في هدوئي، قصتي، نعم هذه قصتي، لم تكن منقولة (نقل مسطرة)، لكن أحداثهما متطابقة، وكانت هذه القصة قد احتوتها مجموعتي (القصص الأخرى)، وماكدت أصل سوهاج حتى سألت عن نسخة من مجموعتي القصصية هذه، وأعطيت المؤلف قصتي المتطابقة مع قصته ليقرأها، قال: إنها هي هي، لكنه أقسم أنه لم يقرأ لي هذه القصة، وعندما اطلع على تاريخ نشرها لأول مرة في الصحف، قال بالحرف الواحد إنه ـ في تلك الأيام ـ كان مجندا بالجيش، ولم يكن يكتب، ولم يكن أيضا يعرف شيئا عني، كان الموقف قد اضطرب بيني وبينه، الواقع الظاهر ينفي عنه الاستيلاء، لكن الأمر كان واضحا، لقد قرأ قصتي هذه ـ في استرخاء، وتحوصلت داخل مخه في هدوء، لكنه ـ بعد سنوات ـ حين بدأ يكتب، أخذت القصة تتحرك من قاع المخ طالبة الخروج، وعندما خرجت استقبلها ـ هذا الذي أصبح ـ كاتبا ـ بمعزل عني دون أن يدرك أصول قيامها.

وعلماء النفس ـ ومعهم المتخصصون في تحليل الجريمة ـ يعرفون أن كثيرا من اللصوص يستمتعون باللصوصية المجردة دون اهتمام كبير بالعائد منها (داء السرقة)، لنا قريب في قريتنا كان يستمتع بالاستيلاء ـ في منتصف الليل ـ على كيزان الذرة أو سنابل القمح، ثم، وبعد كل الجهد المبذول، يلقيها في الطريق عند عودته، وثمة ممثلة شهيرة في هوليوود كانت مصابة بهذا الداء الذي وصل إلى حد إلقاء القبض عليها أثناء اخفائها كيس شرائح بطاطس تافه القيمة، كما أن حالات لصوص الكتب معروفة: سواء من مكتبات البيع أو مكتبات الاطلاع العام، ومعظم هذه الحالات لأناس بعيدين عن حمى الثقافة، وكانت روايات اللصوصية ذات شأن كبير في القرون الماضية حتى النصف الأول من القرن العشرين، وخصوصا قصص هؤلاء الذين يسرقون من أجل الفقراء وعلى رأسهم: روبن هود، وهو شخصية خيالية من القرون الوسطى.

إنني أخطأت حين فكرت في موضوع اللصوصية، فقد تذكرت أمورا ترهقني، وترهق غيري إذا ما كتبتها، ويكفينا الآن مشهد (اللص اليمين) الذي يقال إنه صلب على يمين السيد المسيح، ووعده السيد المسيح بأنه سيكون معه في الجنة يوم وصوله إليها، عليه السلام.