جمال العربية

جمال العربية

ويّح القوافي!
لابن الرومي

يبدو أن عبقرية ابن الرومي في الإبداع الشعري، وهي عبقرية كشفت عنها الدراسات الأدبية الحديثة، بعد أن ظل ذكره مطمورا خاملاً في مكتبة التراث العربي لا يذكر إلا مع ذكر شعراء الهجاء المقذعين، يبدو أن هذه العبقرية قد أصبحت من الوضوح والانكشاف واتفاق الرأي عليها بحيث لا تتطلب شرحا أو إفصاحا أو إبانة، لدرجة أن محقق ديوانه ـ الدكتور حسين نصار ـ يذكر في كلمته التي تتصدر الديوان أنه من العبث أن يحاول الإنسان تقديم أديب مثل أبى الحسن على بن العباس بن جريج الذي اشتهر بابن الرومي. (أيقول إنه ولد في سنة مائتين وإحدى وعشرين هجرية وتوفي في سنة مائتين وأربع وثمانية؟. أم يقول: شاعر الطبيعة في الأدب العربي؟ أو شاعر الهجاء الساخر؟ أو شاعر الحياة اليومية في عصره، أو شاعر الأوهام والأشباح؟ أو شاعر المزاج الحاد المتقلب؟ أو شاعر الإطالة والاستقصاء وتوليد المعاني؟ أم يقول مع العقاد: (العبقري النادر). كان شاعرا في جميع حياته، حياً في جميع شعره).

ثم يذكر الأستاذ المحقق ـ الدكتور حسين نصار ـ بعض الكتب التي كتبت عن ابن الرومي ومنحت الرجل صورة شائقة باقية مثل كتاب (ابن الرومي حياته من شعره) لعباس محمود العقاد، وابن الرومي: حياته وشعره لروفون جست، والمجلد الخامس من دراسات قصيرة في الأدب والفلسفة والنقد للدكتور عمر فروخ، و(ابن الرومي) لمحمد عبدالغني حسن، ولمدحت عكاشة ولحنا نمر، و(ابن الرومي في الصورة والوجود) للدكتور علي شلق؟. أيا ما كان الأمر، فابن الرومي نموذج دال على إهمال القدماء وإنصاف المحدثين، وهو إهمال لا يغفره اهتمامهم بغيره بل يزيد منه ويؤكده. لأن ابن الرومي كان أحق بالإنصاف والتقدير، ولأن عبقريته في الإبداع الشعري لم تكن خافية أو مستورة أو بعيدة عن معاصريه أو لاحقيه.

لكننا ونحن نتأمل ابن الرومي في هذا النموذج الشعري الجميل الذي نقدمه إلى القارىء عنوانا على جمال العربية، يطالعنا في ابن الرومي سمت لم يلتفت إليه بما يستحق الالتفات من دراسة وتأمل وتحليل. إن ابن الرومي يبدو في هذه القصيدة وفي غيرها من شعره شاهداً على عصره، وعلى التحولات الكبرى فيه. راصدا لما أصاب الكاتب والأديب والمبدع ـ وفي زمانه ـ من إهمال وسوء حال في مقابل من يسميهم بالتجار والسفلة والبهائم الذين يتبوأون أعلى المناصب ويستمتعون بالخيرات وأطايب الحياة ويعتلون صهوة المجتمع دون وجه حق. إن قلبه ينزف في مواجهة سلّم القيم الذي انقلب وتردي الأحوال الذي كاد يصبح قانونا وانعدام الموهبة أو القدرة الذي صار شرطا لتولي الأمور والمسئوليات الجسام.

وابن الرومي، الشاهد والراصد، يجد دواء نفسه في تلك السخرية اللاذعة، وفي ذلك التهكم المرير الذي ينفس به عن الإحساس المؤلم بالضعة والهوان والإهمال، وهو المستحق للتقدير والتكريم لو كان هناك من له بصيرة أو لديه حظ من وعي وحس وإدراك. لكنه الزمان الذي فسد، والأوضاع التي انقلبت والأمورالتي بلغت غايتها من السوء والتدني.

وفي هذا النص الشعري الفاتن لابن الرومي يطالعنا تساؤله المرير الساخر عن مصيره مع قوافيه وأشعاره. لقد أحكمها وسددها وثقفها وأقام مفادها وقوم سنادها، فما لها لا تجزيه إلا إيلاما ووخزاً وكأنه أرهفها لتظعن حظه وتصيبه في مقتل، وكأنه جلاها لتنقض عليه بدلا من أن تكون عونا له وسنداً.

وهو لا يخفي تلك النبرة الحزينة المنكسرة التي يطلقها بين ثنايا قصديته، يتأوه ويتأفف، ويستجمع كل ما لديه من زفرات وحسرات في قولته: لهفي على الدنيا، وهي قولة تتضمن حكمه الأخير على حصاد الرحلة وخيبة المسعى وعودته صفر اليدين أول الأمر فهو يسعى لبلوغها، ثم خلّفها من ورائه، وها هو ذا ينظر فيها ويتأمل. ما الذي أعطته خمسون عاما من المعاناة واللوعة والتجريب؟ وماذا يفيده الآن لو أنه عاش مائة عام هدّه نصفها وحطمه وجعله لا ينتظر خيرا بعد ولا أملا يأمله.

ترى، هل جاء شعر ابن الرومي في وقته، كاشفا عن زماننا، دالا على فساده وتدنيه، وشكوى المبدع الحقيقي فيه؟

إن الشعر الحيّ، الدائم الحيوية والتجدد، هو الذي يفيض علينا ـ زمانا بعد زمان وعصراً بعد عصر ـ من حمّياه المتوهجة ومن ناره المقدسة، ما يشعلنا وما يشغلنا بجماله وجلاله وصدق نفسه وعمق جلواته. وهذا هو حالنا مع شعر ابن الرومي، في هذا النص الشعري الجميل وفي غيره، في شكواه وفي سخريته وفي تندره، وفي غضبه أو يأسه وقنوطه.

إن هذا النص الجميل يكتمل بنص آخر لابن الرومي، يناجز فيه الزمان والوضع المتردي والأحوال المقلوبة، في جرأة وشجاعة واعتداد.

يقول ابن الرومي:

طار قوم بخفة الوزن حتى لحقوا رفعةً بقاب العُقاب
ورسا الراجحون من جلة الناس رُسوًّ الجبال ذات الهضاب
ومـا ذاك للئـام بفـخـرٍ لا، ولا ذاك للكرام بعاب

وفي قصيدة ابن الرومي التي نطالعها الآن مسيطرة بحكمة على الموسيقى، وتمكن من هذه القافية المزدوجة التي تجمع بين حرفي الفاء والتاء، وكأنها التزام لما لم يلزم، أو هي متابعة للمعري في لزومياته، حين كانت قافيته تنتظم ثلاثة حروف يلتزمها في بعض قصائد ديوانه اللزوميات، رغبة في التحدي، وإظهارا للقدرة والتمكن وزيادة في جرعة الموسيقى التي تحدثها القافية. وإذا كان المعري قد جعل شعاره في مقتبل عمره:

وإني وإن كنت الأخير زمانه لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل

فإن ابن الرومي يعلن ـ في جهر ووضوح ـ عن تمكن من فنه الشعري، وقدرته على ترويض قوافيه، وإحكام صنعته حين يقول:

ألم تكن هوجاً، فسددتها ألم تكن عوجاً فثقفتها؟
كم كلماتٍ حكت أبرادها وسطتها الحسن وطرّفتها
ما أحسنت إن كنت حسنتها ما ظرفت إن كنت ظرفتها

وبعض هذه القدرة الشعرية المتمكنة يكشف عنه هذا الولع بالتقابل ونحن نطالع: هوجا وعوجا وسددتها وثقفتها، ووسطتها وظرفتها، وفي هذه الصياغة الشعرية الشديدة السلاسة والبساطة والعفوية والتدفق، لكنها كما يقول البلاغيون السهل الممتنع، الذي لا يمكن تقليده ولا محاكاته، خاصة عندما يقول ابن الرومي:

لهفي على الدنيا، وحول لهفة تنصف منها إن تلهفتها
كم آهةٍ لي قد تأوهتها فيها، ومن أفٍ تأففتها

حتى يقول:

قبحا لها، قبحاً، على أنها أقبح شيء حين كشفتها

نحن هنا بإزاء شاعر يتدفق كالنبع السيال، لا عنت في إبداعه الشعري ولا مشقة، لا معاظلة ولا تكلف، وإنما هو كما كانوا يقولون عن غيره، يغرف من بحر، وليس كالآخر الذي ينحت من صخر!

ثم هذه القدرة على الاستقصاء وتوليد المعاني والأفكار تلك التي أشار إليها الدكتور حسين نصار في تقديمه للديوان، وهي قدرة لافتة مدهشة، لا تتأتى إلا لمن عمر وجدانه بمخزون هائل من التجارب الإنسانية والمواقف الحياتية، واتسع عقله وفكره لحصاد كبير من المعرفة والوعي بالحياة والأحياء. وبقدر ما يستقطر شعر ابن الرومي خلاصة ثقافة عصره، كما استقطب الشاعر نفسه ثقافة قومه اليونان، فإن انتماءه للعربية إبداعا ولغة وطرائق تعبير هو الذي حفظ له هذه المكانة الباذخة بين شعراء العربية الكبار، وجعل لشعره هذا الامتلاء الغني وهذا الحضور المتوهج.

وفي شعر ابن الرومي ما يعطفنا إليه، انجذابا وحنوا وتفهما. إن لواعج نفسه العارية تتكشف لنا بيتا بعد بيت وقصيدة بعد قصيدة ها هو ذا شاعر قريب منا، شاعر مثلنا، لا يغشنا ولا يزيف ولا يزور، لا يتعالى ولا يتصنع، لكنه يقوى بالمكاشفة ويكسب المتلقي بهذا القرب النفسي الآسر، وهذه الوجدانية الحارة المتدفقة، وهو يعري نفسه ورقة ورقة، ويكشف لنا هواجسه هاجسا هاجسا، ويأخذنا في مودة ويسر إلى قدس أقداس ذاته، وأكثرها إيغالا وبعدا عن العيون.

يقول ابن الرومي:

مدائح بالحق نمقتها

وليس بالباطل زخرفتها

أعتدها شكوى تشكيتها

إليك، لا زلفى تزلفتها

ولم أشرفك بها، بل أرى

بالحق أني بك شرفتها

ومن مساع لك ألفتها

لا من مساعي الناس لففتها

حتى نصل إلى قوله:

بحق من أعلاك فوق الورى

إحلافة بالحق أحلفتها

لا تخطئني منك في موقفي

سماء معروف توكفتها

أنت المرجى للتي رمتها

أنت المرجى للتي خفتها

كم بلغة ما دونها بلغة

قد نافرتني إذ تألفتها

فرحت لا أرجو ولا أبتغي

وتاقت النفس فكفكفتها!

أي تدفق وأية سلاسة وأي امتلاء؟!

إن شاعرية ابن الرومي التي تتكشف لنا من بين ثنايا هذا النص الجميل من شأنها أن تغرينا بطلب المزيد، وتأمل قصائده الباقية في ديوانه الشعري الضخم الذي صدر له ـ منذ أربعة وعشرين عاما ـ عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. في ستة مجلدات.

يقول ابن الرومي في قصيدته:

صبرا على أشياء كلفتها

أعقبتها الآن وسلفتها

ويح القوافي: مالها سفسفت

حظي كأني كنت سفسفتها

ألم تكن هوجا فسددتها؟

ألم تكن عوجا فثقفتها؟

كم كلمات حكت أبرادها

وسطتها الحسن وطرفتها

ما أحسنت إن كنت حسنتها

ما ظرفت إن كنت ظرفتها

أنحت على حظي بمبراتها

شكرا لأني كنت أرهفتها

فرققته حين رققتها

وهفهفته حين هفهفتها

وكثفت دون الغنى سدها

حتى كأني كنت كثفتها

أحلف بالله لقد أصبحت

في الرزق آفتني وما إفتها

لم أشكها قط بتقصيرة

فيها ولا من حيفة حفتها

حرمت في سني وفي ميعتي

قراى من دنيا تضيفتها

لهفي على الدنيا! وهل لهفة

تنصف منها إن تلهفتها؟

كم أهة لي قد تأوهتها

فيها، ومن أف تأففتها!

أغدو ولا حال تسنمتها

فيها، ولا حال تردفتها

أوسعتها صبرا على لؤمها

إذا تقصته تطرفتها

فيعجز الحيلة منزورها

إلا إذا ما أنا لطفتها

قبحا لها، قبحا، على أنها

أقبح شيء حين كشفتها

 

فاروق شوشة