التعددية السياسية من منظور إسلامي

مازال الوجه السياسي للسلام في حاجة إلى بيان أوضح خاصة في هذا العصر الذي تعقدت فيه كل مظاهر الحياة السياسية وتنوعت أساليبها. ولن تسد الفجوة بين أصول الفكر الإسلامي والفكر السياسي المعاصر إلا بمزيد من الاجتهاد ، خاصة أن الإسلام يحض على الحوار ويحترم تعدد الآراء، والمقال يطرح علينا هذه القضية بنوع من التفتح الذهني وبدعوة حارة للمناقشة.

التعددية تعني في جوهرها : التسليم بالاختلاف : التسليم به واقعا لا يسع عاقلا إنكاره، والتسليم به حقا للمختلفين لا يملك أحد- أو سلطة- حرمانهم منه ، وهي توصف بالموضوع الذي يكون الاختلاف حوله أو الذي ينحصر فيه نطاقها فتكون سياسية أو اقتصادية أو دينية أو عرقية أو لغوية أو غير ذلك.

والتعددية ( بمعنى الاختلاف ) في أنواع الخلق، وبين أفراد كل نوع من حقائق الإبداع الرباني المسلمة: وليقرأ من شاء قوله تعالى:

وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون. وهو الذي، أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وكير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون

أو قوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود. ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور.

والتعددية في نوع الإنسان، وانتمائه ومستوى أدائه لواجباته وممارسته لملكاته أجلى وأوضح، وليقرأ من أراد قوله تعالى:

ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين

أو قوله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل، لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير .

وفي هذه الآية يعبر القرآن بلفظي: أكرم وأتقى، وهما يدلان- لغة - على وجود التقي والكريم، أي يدلان على أن الاختلاف حقيقة واقعة، وأن التعدد في مراتب التقدير الرباني لا يعني قبول أهل مرتبة واحدة منها دون أهل سائر المراتب: أعني مراتب التقى والكرامة، المترتبة على صدف الإيمان ووضوح اليقين.

بيان متجدد

والتسليم بالتعددية البشرية تبعا للتسليم بحق الاختلاف، يقود بغير كبير جهد إلى التسليم بحق التعددية في المذهب السياسي. فلماذا يحتاج الأمر إلى بيان متجدد ، بل لماذا يبدو لكثير من المراقبين للفكر الإسلامي السياسي أنه فكر يرفض التعدد السياسي ويتبنى النظرة الواحدية أو الأحادية التي تنتهي في غالب الأحوال - إن لم نقل كلها - إلى أن تكون أداة لحكم استبدادي ظالم، ولطغيان دائم؟؟...

يحتاج الأمر إلى بيان متجدد، ويبدو الفكر الإسلامي السياسي للناس في غير صورته الحقيقية - في هذه المسألة وفي مسائل أخرى كثيرة - لأسباب ثلاثة:

أولها: أن البحث في النظم الإسلامية والفكر الإسلامي لايزال في مجمله مقيدا بتقليد كتابات الأقدمين، ينقل منها، ويصدر عنها، ويجعلها أصولا يقاس عليها ويعتبر بها.

وهذه الكتابات تعبر عن واقع عصور من كتبوها، وتصف هذا الواقع بما فهمه الكاتبون من حقيقته، وتحكم عليه بمقدار ما فهمه أصحابها من أصول الإسلام، أو ما فهموه من اجتهاد أسلافهم في فهم هذه الأصول.

وثانيها: أن البحث في النظم الإسلامية والفكر الإسلامي لايزال في مجمله يدور في فلك، وقائع التاريخ الإسلامي، أي تاريخ المسلمين. والباحثون الذين يعاملون من وقائع هذا التاريخ يتخذون- إلا قليلا منهم- طريقا من اثنين: طريق انتقاء أفضل عصور هذا التاريخ، وأزهى أيامه والوقوف عندها، وبسط العبرة المستمدة منها على تاريخ المسلمين كله. أو الوقوع على أسوأ حوادث هذا التاريخ، وأظلم أيامه ثم وصف هذا التاريخ كله بما كان في أيام الظلم وحوادث السوء.

وثالثها: أن ناشئة نشأت بين الدعاة إلى إصلاح لأوضاعنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتردية، يتخذ الإسلام أساسا له، ورجال هذه الناشئة- إلا قليلا منهم- لايعنون أنفسهم ببيان حقائق الموقف الإسلامي في شئون التنظيم السياسي لمجتمعنا، ويتجنبون التعامل مع قضايانا الملحة ، مكتفين بأنهم يدعون إلى عقيدة الأغلبية التي يدعونها، وقلما يعترض أحد على داع إلى عقيدته. ومكتفين بشعارات رفعها الرعيل الأول من الدعاة وهي صادقة في حقيقتها وجوهرها دون أن يبذلوا الجهد المطلوب للتعرف على معاني ترجمة هذه الشعارات إلى مسائل محددة يفهم بها الناس عنهم ما يقصدونه بشعاراتهم، وكثير من هؤلاء الدعاة يلتمسون لأنفسهم عذرا في هذا المسلك: أنهم مضيق عليهم أمنيا: فليس لهم حزب رسمي، وجماعاتهم المعتدلة المنهج تعمل بلا موافقة حكومية تحميها من العسف الذي يقع كثيرا بلا إنذار وربما بلا سبب، وجماعاتهم الغالية (المتطرفة) محل ملاحقة تبلغ حد العدوان، والقتل في الطريق العام، والإدانة بلا تحقيق ولا دفاع.

وهذه الأسباب الثلاثة تحتاج إلى وقفة، فالتقليد إن يكن شرا كله- أو جله- فهو في المجال السياسي يبلغ ذروة الشر وغايته. وكتابات الأقدمين التي يقلدها المعاصرون " نسبية " بكل ما في هذه الكلمة من معان، ولا تصلح بأي وجه من الوجوه أن تكون قيدا على الحركة السياسية الإسلامية المستمرة على مدى التاريخ، والباقية ما بقي في الأرض مسلمون.

وأعذار الدعاة إلى إصلاح مستند إلى الإسلام جوهرها صحيح، ولكنها لا تسوغ سكوتهم عن بيان ما يدعون الناس إليه، ولا تبيح لهم أن يقبلوا استمرار تهمة الغموض موجهة إلى الإسلام الذي يدعون إليه ويعملون له. وحجة عدم مسئولية الإسلام عما نحن فيه لا تخول للمسلم القعود عن فقه واقعه، وتنزيل أحكام الإسلام عليه، تقويما له لإقرار الصالح وإلغاء الفاسد، وبغير ذلك لا تتحدد الدعوة إلى إصلاح اجتماعي بأي حد، ويكون من حق المدعوين أن يتخوفوا من دعوة يظنونها ستهدم لهم حياتهم كلها، ولا يدرون ما تقيم لهم بدلا عنها!!

ولذلك احتاج موقف الفكر الإسلامي السياسي من التعددية السياسية إلى بيان متجدد، حتى لا يكون من أثر تلك الأسباب الثلاثة أن يفهم الناس أن الدعاة إلى إصلاح مستند إلى الإسلام يقفون ضد التعددية السياسية أو يساندون الطغيان أو يمهدون لاستبداد جديد- قديم، يلبس لباس الدين ويحتمي به!!

ولا يجوز للدعاة إلى إصلاح سياسي يستند إلى الإسلام أن تغيب عنهم حقيقة يشهد بها تاريخ البشرية في مختلف أديانها: إن أسوأ صور الظلم وأفدحها، وأبشع حالات الطغيان وأقساها، ما كان مستندا إلى نظرية دينية يساء فيها استخدام نصوص الدين الصحيحة بتأويلها على وفق أهواء الظالمين، أو يدس فيها على الدين ما ليس منه لتحقيق نزواتهم، والقضاء على خصومهم. وهذه الحقيقة تجعل "بيان حقيقة الموقف الإسلامي من التعددية السياسية، باعتبار حق الاختلاف حقا إنسانيا أصيلا، ألزم الآن منه في أي وقت مضى.

نظرة في الأصول

إن الطريق إلى أي عمل فكري إسلامي جاد في عصرنا- كما كان في كل عصر- هو النظر في الأصول الإسلامية وما توجبه على الناس، ثم اقتراح السبل المؤدية إلى تحقيق هذا الواجب وتجريبها: فلا صلح منها فهو صحيح، وما لم يؤد ما وضع له أبدلنا به غيره. ونحن في ذلك على قاعدة فقهية صحيحة: " كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل " (العز بن عبد السلام).

والنظر في الأصول على هذا النحو هو: الاجتهاد، وهو في الفقه محكوم باستيفاء شروطه (القدرة السليمة على ممارسته) التي فصلها- على خلاف في تعدادها وتقدير أهمية كل منها- علماؤنا الأصوليون، وهو في السياسة محكوم بتحقيق مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم وكفالة حقوقهم وحرياتهم وحفظ حرمات أنفسهم وأموالهم أساس جلب المصالح السياسية كلها، وطريق درء المفاسد جميعها.

والاجتهاد السياسي في تنظيم الدولة وإدارتها لم يتوقف على طول الزمن الإسلامي كله. غاية الأمر أنه حين نحيت الشريعة الإسلامية عن حكم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية (عن حكم الواقع) وترتب على ذلك أن جمد الجهد الفقهي المبدع، وكل الفقهاء عن ممارسة البيان الفقهي: كان السبيل الوحيد أمام الحكام هو ما وصفه ابن قيم الجوزية بأنهم " أحدثوا من أوضاع سياستهم فسادا عريضا " وكان ذلك نتيجة ظنهم " أن الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد " ولذلك كان اجتهاد ابن قيم الجوزية أنه " حيثما أسفر وجه العدل: فثم شرع الله ودينه " وكان اجتهاد آخرين (ابن عقيل الحنبلي) أن السياسة الإسلامية هي " مالا يخالف ما نطق به الشرع ". إن القائلين بأن المقبول في الإسلام سياسيا هو " ما نطق به الشرع " يقعون في أمرين: " الغلط " لأن قولهم لا يدل عليه دليل صحيح قط في القرآن ولا في السنة. و"تغليط الصحابة والتابعين " لأنهم مارسوا كل ما رأوه مؤديا إلى تحقيق مصالح الناس دون جمود.

المبادئ السياسية في الأصول الإسلامية

وإذا قررنا أن نجيب عن سؤالنا السابق فلنبدأ بتقرير أن المصادر الإسلامية لم ترسم للناس طريقا معينا لبلوغ الأهداف السياسية المقررة في القرآن الكريم والسنة النبوية:

1 - فالإسلام في القرآن والسنة لم يحدد نظاما معينا للحكم. ولكنه حدد القيم الإسلامية التي يجب أن تستمسك بها الأمة، وتحاكم الحاكمين إليها.

وهذه القيم هي التي نسميها " القواعد العامة" و " الأمور الكلية " و أمثال ذلك من عبارات، وذلك في المجال السياسي متسق مع طبيعة التشريعات الإسلامية كلها في اتسامها بالمرونة الكاملة المستلزمة صلاحيتها للتطبيق عن طريق التخريج على أحكامها والبناء على أساسها. ومن أجمل التعبيرات الفقهية عن هذه الحقيقة قول الإمام الجويني: " معظم مسائل الإمامة عرية عن مسالك القطع خلية عن مدارك اليقين ".

2 - وإذا كان اختيار الحاكم هو حجر الأساس في تنظيم الدولة في الوقت الذي قامت فيه دولة الإسلام الأولى (ولعله حجر أساس حتى اليوم) فإن الإسلام اكتفى بتقرير أن الشورى هي طريق هذا الاختيار. فالأصل أن الحاكم يجب أن يختار بإرادة الأمة الحرة، وهكذا جرى اختيار الأربعة الخلفاء الراشدين، ولا يوجد طريق معين لتحقيق هذا الاختيار، فكل زمن يخترع طرقه.

ولعل الأسلوب الأفضل في زمننا هو تقرير حق الشعب في اختيار رئيس الدولة ونوابه بالانتخاب الحر المباشر، وهو حق لجميع المواطنين. ويجب أن تكون التولية لمدة يحددها الدستور، وأن يكون لهذه المدة حد أقصى لا يعاد بعدها انتخاب الشخص نفسه. ولا يجوز أن تتضمن قواعد تنظيم ممارسة حق الانتخاب تقييد هذا الحق أو حرمان فئة معينة منه أو حصر الحق في الترشيح في أفراد بعينهم دون سواهم.

3 - والحرية قيمة إسلامية ملزمة. كفلها الإسلام للإنسان منذ كان، حتى عدت فطرة مما فطر الله الناس عليها، تؤكدها سيرة رسل الله جميعا وتثبتها نصوص القرآن والسنة. والهجرة واجبة حماية للحرية وتقديرا لأهميتها حتى قال العلماء إن الهجرة من الأرض التي يظلم المسلم فيها ولا يملك رد الظلم : لا تنقطع حتى تطلع الشمس من مغربها. والحرية السياسية في الإسلام فرع لأصل عام هو حرية الاختيار، ففي الحديث " لا يكن أحدكم إمعة يقول أنا مع الناس: إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت.. " والجهر بالرأي في الإسلام واجب وليس رخصة والواجب عند الأصوليين كما يقول الإمام الغزالي: " ما طلب على وجه اللزوم فعله بحيث يأثم تاركه ".

4 - والمساواة بين الناس في تطبيق القانون وفي ممارسة الحقوق والحريات العامة أصل إسلامي مطرد لا يجوز العدوان عليه، ولا استثناء فيه.

5 - والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان شرعيان تقوم بهما نظم الإسلام كافة، وهما واجبان على الجماعة ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وعلى أدائها قامت خيريتها: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر

6 - والحكام مسئولون أمام الأمة عن عملهم في رعاية شئونها، وهي مسئولية قررها فعل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، وليس لأحد من الحكام بعده أن يدعي حصانة لم تكن للرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يمكن في مجتمع اليوم تحقيق هذه القيم السياسية دون أن نقرر أن التعددية السياسية ضرورة لحمايتها وممارستها وكفالة الحقوق المتصلة بها؟.

وهكذا لا يجد الناظر في أصول الإسلام (مصادره) إلا مثل هذه القيم الكلية التي توجبها نصوص يبلغ عموم ألفاظها مبلغا لا يكاد يقيد الأمة بشيء في سبيل تنظيم وضعها موضع التنفيذ.

وتبقى بعد ذلك الوسائل التي تتخذها الأمة لتحفظ لنفسها حقها في العيش تحت لواء هذه القيم الإسلامية، ولتحول بين الحاكمين وبين الاستبداد والطغيان، سواء أم كان هذا الطغيان باسم الدين أم كان بأي اسم آخر لمسمى سواه.

والوسائل- بداهة وضرورة- تختلف من عصر إلى عصر ومن قوم إلى قوم، ولا تثريب على أهل بلد إسلامي إن رأوا اتخاذ ما لا يحتاج إليه أهل بلد آخر، أو ابتدعوا ما لم يسبقهم إليه سابق، أو اقتبسوا من تنظيم غيرهم ما يحفظ لهم حقوقهم ويصون عليهم حرياتهم وحرماتهم.

ومن الكلمات المضيئة لواحد من كبار علماء الإسلام، في عصوره كلها، قول ابن قيم الجوزية: " وتقسيم بعضهم ( بعض العلماء ) طرق الحكم إلى شريعة وسياسة... كتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة وحقيقة، وكتقسيم آخرين الدين إلى عقل ونقل... وكل ذلك تقسيم باطل.

بل السياسة، والحقيقة، والطريقة، والعقل، كل ذلك ينقسم إلى قسمين، صحيح وفاسد. فالصحيح قسم من أقسام الشريعة، لا قسيم لها، والفاسد ضدها ومنافيها، وهذا الأصل من هم الأصول وأنفعها...".

شبهتان مردودتان

والمشتغلون بالفكر السياسي الإسلامي، المهتمون به، يواجهون شبهتين تتداولهما بعض تعبيرات الإسلاميين في مسألة التعددية السياسية - أو الحزبية، بالتعبير الأكثر شيوعا - وهما شبهتان مردودتان لا أثر لأيتهما في صحة ما قررناه.

الشبهة الأولى: هي قول بعض الباحثين إن الإسلام لا يعرف الحزبية. وهي حجة لا معنى لها، إذ لا دلالة في العدم. أعني أن عدم معرفة "الإسلام " شيئا ما تعني أمرين: إما عدم ورود نص مقرر له في أصول الإسلام، وإما أن المسلمين لم يمارسوه في تاريخهم.

فإذا كان المراد هو المعنى الأول فإن سكوت النصوص يعني إباحة المسكوت عنه، ما لم يكن من الأمور التي لا يستقل العقل بإدراكها (كالعبادات) فعندئذ يكون سكوت النصوص دليلا على عدم مشروعيتها.

وبديهي أن مسألة التعددية السياسية ليست من نوع مالا يستقل العقل بإدراك وجه المصلحة فيه، وليست من نوع العبادات والكفارات والمقدرات وما جرى مجراها حتى يكون الوقوف عندما صرحت به النصوص هو الواجب فيها، بل هي من مسائل المصالح المتغيرة التي مبدؤها ومنتهاها إلى ما يقرره العقل البشري.

وإذا كان المراد هو المعنى الثاني- أعني أن المسلمين لم يمارسوا الحزبية السياسية في تاريخهم- فإن ذلك أيضا لا دلالة فيه إن صح، وهو غير صحيح.

لا دلالة فيه إن صح لأن السكوت التاريخي لا يفيد حكما لا بالإباحة ولا بالمنع، وكم من أمور قررها الصحابة- مع قرب عهدهم برسول الله صلى الله عليه وسلم - ولم يكن لها في عهده سابقة؟! فما بالنا بحال المسلمين اليوم بعد كل الذي أصابته البشرية - أو أصابها - من تطور وتغير؟

وهو غير صحيح لأن تاريخ الإسلام عرف فرقا سياسية عدة كالخوارج والشيعة والمعتزلة، وكل فرقة خرجت منها فرق متعددة، ولم يقل أحد إنهم بتحزبهم السياسي - أعني بمحض هذا التحزب - قد خرجوا على الإسلام أو خالفوه.

بل إن صدر الإسلام قد اتسع لعشرات المذاهب العقدية والمدارس الفقهية، ولم يكفر أحد- من أهل العلم الصحيح - أحدا لمخالفته في المذهب العقدي أو الفقهي، فكيف لا يتسع صدر الإسلام لاختلاف سياسي ؟!، حتى مسألة عدم الخلاف في الأصول تنتهي عند التحقيق إلى عدم الاختلاف في أصل استلزام الإيمان بأركان الإسلام. ثم تتسع بعد ذلك بقبول الاختلاف في جميع التفاصيل بما فيها تفاصيل ممارسة الشعائر الظاهرة لهذه الأركان نفسها، وهو اختلاف أقرته الأمة منذ كانت، ولا تزال تقره وسيبقى مستقرا حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

موقف الإسلام من الأحزاب

والشبهة الثانية : أن القرآن الكريم ذم الحزبية والفرقة والتشيع، في مثل قوله تعالى فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزت بما لديهم فرحون وقوله سبحانه: فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم وقوله: كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم... وقوله تعالى: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء...

والواقع أن هذه الشبهة مجرد لعب بألفاظ القرآن الكريم، لأن القرآن نفسه قد ذكر الأحزاب على سبيل المدح، كما ذكرها في معرض الذم. فيه ذكرت فيه الأحزاب مدحا لها: قول الله تبارك وتعالى: ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون وقوله سبحانه: ...أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون وقوله: ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا

فقصر الاستناد والاستدلال على استخدامات القرآن الكريم اللفظ الحزبي في معرض الذم أمر لا يسوغ في منطق العلم ولا تستقيم النتائج التي تترتب عليه في صحيح الاستدلال.

ولهذه الشبهة وجه آخر لا يقل تهافتا عن وجهها الأول، ذلك أن بعض الإسلاميين العصريين يستدلون بالآيات التي ذكرت فيها الأمة موصوفة بأنها أمة واحدة على أنها تفيد عدم إباحة الإسلام للحزبية السياسية. وذلك مثل قول الله تعالى: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون والمراد في هذه الآية، وفي جميع الآيات الأخرى الجارية مجراها، وحدة الدين المتمثلة في إخلاص العبودية لله وحده وعدم إشراك أحد معه أو من دونه. ومن ثم ففي الاستدلال بمثل هذه الآية على الوحدة السياسية في مقابل إباحة التعددية السياسية مغالطة صريحة لآيات القرآن الكريم فوق ما تحتمل.

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن موقف الإسلام من الأحزاب فأجاب إن الأحزاب التي أهلها مجتمعون " على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. وإن كانوا زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق أو الباطل فهذا من التفرق الذي ذمه الله ورسوله....".

الأحزاب ضرورة لتقدم المجتمعات

وفي رأينا أنه حتى لو لم يقل أحد هذا القول من قبل، فإن الاجتهاد المعاصر يجب أن ينتهي إليه ويقول به. ولذلك قلنا قديما: إن الأحزاب التي تدعو إلى خير وحق ويؤدي وجودها إلى تحقيق مصالح الناس تدخل في نطاق قوله تعالى عن المؤمنين: .. أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون والأحزاب التي تقوم على محادة الله ورسوله تدخل في وصف الله سبحانه وتعالى للضالين بأنهم " حزب الشيطان " وكان من رأينا - ولايزال- " أنه لا تثريب اليوم على دولة إسلامية إن هي سمحت بتعدد الأحزاب فيها. وأنها يجوز لها- بل يجب عليها- أن تشترط على هذه الأحزاب الالتزام بقيم الإسلام وأحكامه ثم تدعها بعد ذلك وما تدعو إليه من برامج سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها. وليس في هذا ما يخالف أحكام الإسلام أو نصوصه القطعية ".

بل إن من رأينا أن وجود الأحزاب السياسية في الظروف الحالية للمجتمعات الإسلامية ضرورة لتقدمها، ولحرية الرأي فيها، ولضمان عدم استبداد الحاكمين بالمحكومين، وهو استبداد واقع في جل هذه المجتمعات أو كلها.

وفقه القواعد الأصولية الإسلامية يقوم، بين ما يقوم عليه، على قاعدة عظيمة: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " فهل يمكن أن تقوم قائمة لنظام سياسي إسلامي في العصر الحاضر وهو ينكر على الناس اختلاف الرأي- وهو فطرة- أو وهو ينكر على الناس حرية التعبير عن الرأي وهو حق أزلي- أو وهو ينكر على الناس التجمع لبيان ما يرونه حقا- أو يعتقدونه باطلا- وهو أمر رباني؟!.

إن الصحيح هو الجواب بالنفي عن كل هذه الأسئلة. ويكون منطق المصلحة السياسية، ومنطق القواعد الفقهية، والقراءة الصحيحة للنصوص وللتاريخ، يكون ذلك كله شاهدا لضرورة التعددية السياسية من المنظور الإسلامي. وهذا الرأي الذي قررناه يجب أن يكون موضع عناية خاصة من مفكري الحركة الإسلامية المعاصرة، والمشتغلين منهم بالعمل السياسي خاصة.

وإذا كان يشترط فيما يقوم من أحزاب في الدولة القائمة على أساس الإسلام أن تكون هذه الأحزاب غير مؤسسة على أصول مناقضة لأصول الإسلام أو مناهضة له، فإن الأحزاب التي تقوم في مرحلة " الدعوة " لا يمكن بداهة أن يشترط فيها ذلك، لأن قيامها وممارسة عملها قبل وجود دولة إسلامية لن يكون- بداهة- قائما على مشروعية إسلامية عليا كمشروعية النظام العام الإسلامي الذي يقوم عليه ويحميه وجود الدولة الإسلامية.

أعني بذلك أنه ليس للإسلاميين أن يعترضوا على الأحزاب القائمة: وجودها وبرامجها وما تدعو إليه بأنها غير إسلامية، وإنما عليهم أن قدموا بديل هذه البرامج وتلك الدعوات ليكون قبول الناس لهم وانتماؤهم إلى ما يدعونهم إليه وهو نفسه الرد العملي للأمة على من يقودونها أو يحاولون قيادتها في طريق لا يهتدى بنور الله فيه، ثم حين تقوم دولة تتخذ من شريعة الإسلام أساسا للحكم فيها فإن الفيصل بين الحزب الذي يقوم والحزب الذي لا يقوم سوف يكون هو اختيار الأمة ممثلا في أصوات ناخبيها، لا رأي الصفوة ممثلا في قياداتها السياسية أو حكامها في مرحلة من مراحل حياة الدولة الإسلامية.