مجلس شعبي استشاري خليجي لماذا؟ وكيف؟

مجلس شعبي استشاري خليجي لماذا؟ وكيف؟

حديث الشهر

لقد تجادل العرب فيما تجادلوا فيه حول أمورهم السياسية في نصف القرن الماضي وأخذ منهم موضوع الوحدة العربية الكثير, وكانت الاجتهادات تبحث عن صيغة معينة لتحقيق شيء من الوحدة العربية التي تعتقد معظم الأدبيات السياسة العربية بوجوبها كشرط مسبق لوضع عربي دولي وداخلي أفضل, وتختلف الاجتهادات حول شمولية الوحدة أو اقتصارها التدريجي على مراحل وفي جوانب بعينها. فمثلا قالت الأحزاب المؤمنة بوحدة الهلال الخصيب بوحدة الشام التاريخية, وقالت أدبيات أخرى بوحدة الشمال العربي الأفريقي, وتحققت وحدة قصيرة الأجل بين مصر وسوريا في نهاية الخمسينيات من هذا القرن, كما تمت وحدة على الورق بين بلاد مثل السودان ومصر وليبيا. وكانت هذه الوحدات العربية تظهر تحت إلحاح الحاجة إليها في فترات تاريخية, وسرعان ما تنفك عراها بعد حين, وعندما ظهر مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي يضم كلا من "المملكة العربية السعودية، دولة الإمارات العربية المتحدة، دولة البحرين، سلطنة عمان، دولة قطر، دولة الكويت" في مايو سنة 1981 انقسم المراقبون بين متفائل ومتشائم, حول طول نفس هذا النوع من العلاقات التنسيقية الوثيقة, ولا يزال البعض يناقش أسباب قيام مجلس التعاون: هل هي أسباب أمنية مؤقتة, أم هي أسباب استراتيجية تضم بجانب البعد الأمني الأبعاد الأخرى.. السياسي والاقتصادي وحتى الأيديولوجي؟

المشاهد أن هذا المجلس استطاع حتى الآن أن يصمد أمام كل عوامل التفكك التي عملت ومازالت تعمل في آليات السياسة العربية, حتى مجلسا التعاون العربيان اللذان أرادا أن يماثلا تجربة مجلس التعاون الخليجي وأقصد بهما مجلسي التعاون العربي الرباعي والخماسي, اللذين أُعلنا تباعا وفي وقت متقارب وهما مجلس التعاون العربي "العراق, مصر, الاردن, اليمن" وأعلن في 16 فبراير 89، ومجلس التعاون المغاربي والذي ضم كلا من "المغرب, تونس, الجزائر, ليبيا, موريتانيا" وأعلن في 17 فبراير من نفس العام "بين توقيت الإعلانين يوم واحد فقط". هذان المجلسان لم يصمدا أمام عوامل التفكك العربي وهي كثيرة, فانهارا بعد حين, في الوقت الذي ظل مجلس التعاون الخليجي حيا يرزق, ولكن ليس من دون تقصيرات.

إن الغموض في مفاهيم الوحدة والتعاون أو التعاضد أو التكامل, قد سبب ولايزال, الكثير من المعوقات في بناء هذا التعاون الخليجي, فالبعض يعتقد أنه شكل من أشكال الوحدة ويرجو منه ما يرجو من الوحدة الكاملة, وأي نقص في الأداء يعتقده هذا البعض مسحوبا من ذلك الرصيد, والبعض يعتبره مجرد تعاون ونصوص على الورق وبالتالي فإنه لا يبذل الفعل أو الجهد ولا الابتكار لتطوير ما هو موجود.

من الملاحظ أن فكرة قيام مجلس التعاون في بداية الثمانينيات قد طرحت كليا الفكرة اليوتوبية السابقة والقائلة بالوحدة العربية الشاملة الكاملة, وأصبح مقبولا على الصعيد النظري على الأقل قيام تعاون بين دول عربية تشعر بأن هناك الكثير من العناصر التي تجمعها. طُرحت هذه الأفكار في تجمعات المثقفين, أولا عبر بعض الدراسات التي تناولت شجون الوحدة وشئونها, ولكن هذه الأفكار كان ينظر إليها بحذر. وأذكر أنني عندما قمت شخصيا بانشاء مجلة "دراسات الخليج والجزيرة العربية" في سنة 1975 أسّر لي بعض الزملاء العرب في جامعة الكويت آنذاك قائلين: لماذا هذا التحديد الجغرافي؟ وقتها كنت لم أزل أعتقد أن دراسة مشكلات الإقليم لا تتناقض مع الدراسات الأوسع, ولن نتعرف بدقة على الأكبر إن لم نعرف الأصغر, ولقد انقلب التوجس إلى ترحاب واسع بتلك المجلة الرائدة التي مازالت تقوم بدورها, دليلاً على صحة التوجه.

تجارب فاشلة

لقد كان التعامل مع الواقع وتطويره, حسب المعطيات السياسية والاجتماعية هو هاجس القائمين على مجلس التعاون, ولقد شهد المواطن العربي في العقود الخمسة الأخيرة ـ على الأقل ـ سلسلة من التجارب الفاشلة لمحاولة الجمع والتأليف بين دول عربية كان طابعها الأعم مبادرات فردية وظرفية وقرارات عفوية, لهذه الأسباب كانت ظاهرة التعاون أو التكامل قد اتسمت بغموض معرفي مكسو بكساء أيديولوجي اختلط فيه "وهم السيادة على الواقع" مع "حقيقة عسر السيادة عليه".

الموقف السلبي من أشكال الإعلانات الجماهيرية حول الوحدة والتكامل والأهداف التي قيل إنها سوف تحققها جعلت الجماهير العربية تنفض عن هذه الإعلانات لكثرة ما أصابها من إحباط, خاصة عندما تفشل هذه الأشكال في أقل من لمح البصر, وتترك إحساسا نفسيا غامرا بالمرارة وشعورا بفقد النخبة سيطرتها على الأحداث.

قال كثيرون إن مجلس التعاون قام ليبقى, وهو في الواقع كما قلت سلفا قد واجه تحديات جمة حتى الآن, وقد بقي مجلس التعاون إلى اليوم لأسباب عديدة منها على سبيل المثال لا الحصر حرص القيادات الخليجية على الاستمرار مهما كانت العقبات, وفهمها لأهمية التعاضد أمام تحديات خارجية وداخلية كبرى, كما كان من بين تلك العوامل اهتمام النخب الخليجية, وكذا الشارع الخليجي, بأهمية صيانة ما تحقق حتى الآن وتطويره, وكلما لمس الناس جدية في تطوير المشروع الخليجي ازداد تعضيدهم له ومؤازرتهم لمشروعه, لقد كانت هناك جدية في الخليج وعمل دءوب لإيصال منافع التعاون للناس العاديين, ولعلنا نحن الكويتيين نعرف أكثر من غيرنا منافع هذا المجلس عندما احتضنت دوله وشعوبه شعبنا الكويتي في وقت الظلمات بعد الاعتداء الغادر من النظام العراقي على شعب الكويت, وقتها تبين للجمهور الكبير أن كل بيت في الخليج هو بيته, وهذا الشعور العام هو الذي جعل تجربة المجلس تنجح في أصولها, بداية من التقبل النفسي لدى الجمهور, لأن هناك شعوراً غامرا بأن الجزء هو قسم من طموح الكل.

ومع المشهود من إنجازات مجلس التعاون فلا يستطيع العاقل والحكيم إلا أن يرى أن هناك نقصا في التكامل الخليجي يشعر به المواطن ويتحسسه, فالمصالح بين الدول الخليجية مازالت غير مرسلة, وهناك من العقبات البيروقراطية ما ينوء به أي مشروع مشترك, كما أن حرية السوق لا تزال بين دول المجلس يعترضها الكثير من العقبات وما انفك المجلس منشغلا بالشئون السياسية المشتركة وحتى العربية والدولية, أي الانشغال بالأمن الإقليمي بعيدا عن شؤون الاقتصاد والاجتماع, وبرغم أهمية قضايا الأمن الإقليمي فإن تحقيق مصالح الناس مهما كانت متواضعة يجعل منهم سندا وعضدا في تطويرها. لقد تحقق الكثير في خطوات المجلس على العديد من الأصعدة ولكن هذه الإنجازات إما غير معروفة على الصعيد الشعبي أو غير كافية في رأي قطاعات أوسع من الناس.

العقبة الكأداء أمام تطوير المجلس هي التنازل الجزئي لما عرف في الأدبيات السياسية بـ "سيادة الدولة" فمازالت بعض الدول الخليجية بينها وبين جاراتها مشكلات الحدود المشتركة, وقد وجدنا نحن العرب أن هذه المشكلات بالذات تسبب من المضاعفات ما لا يسببه أي عامل آخر, كما أن هناك اجتهادات مختلفة في بعض الشؤون السياسية الإقليمية, ويبدو للمراقب أن هذا الاختلاف هو في التفسير وفي القدرة على الممارسة وليس اختلافا جذريا في التوجهات, وأدبيات مجلس التعاون التي أعلنت منذ 26 مايو سنة 81 إلى اليوم تقول لنا إن المطلوب هو الاستقرار والأمن في الخليج, وهو ليس مطلبا لذاته بل لتمكين هذه الدول من العمل التنموي, كما أن هذا الاستقرار مرتبط ـ كما قال البيان الختامي للقمة الأولى في أبوظبي ـ بـ "تحقيق السلام في الشرق الأوسط.. وبتأمين الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.." فأحد التحديات الرئيسية التي تواجه المجلس اليوم هو تحقيق التنمية المستديمة لشعوب المنطقة.

دروس بليغة

في السنوات السبع الأخيرة التي مرت على المجلس منذ تحرير الكويت من الاحتلال العراقي كانت هناك دروس بليغة وجدنا الكثير من الإشارات حولها حتى قبل حدوثها, وإن لم يكن أحد يتوقع حدوثها بالشكل الذي تمت به, لقد كان هناك الكثير من التحذير حول الطموحات غير العقلانية للنظام العراقي ومحاولاته للهيمنة, والتوجه لحرمان الشعب العراقي من المتطلبات الأساسية خاصة الحريات العامة والعيش الكريم في سبيل شعارات لم تثبت قط, وكانت هذه الإشارات كثيرا ما ترد في البيانات الختامية لقمم مجلس التعاون, وبعد التحرير وجدنا أن هناك العديد من الخطوات السياسية التي تمت في البلدان الخليجية, هناك مجلس الشورى السعودي الذي بدأ دورته الثانية في يوليو 97 وقد توسع هذا المجلس في هذه الدورة مُزيدا الستين عضوا الذين بدأ بهم إلى تسعين دليلا على شيئين: الأول إيمان القيادة السعودية بفكرة الشورى والمشاركة, والثاني نجاح المجلس ذاته بشخوصه وأعماله. كذلك خطت سلطنة عمان خطوات كبيرة في هذا الشأن, فقد أصدرت قانون تنظيم السلطنة وطورت من مجلس الشورى العماني بانضمام سيدتين إلى هذا المجلس, كذلك البحرين, التي كان لها تجربة في الانتخاب المباشر, باشرت في تعيين مجلس شورى وسعت من سلطاته أخيرا, أما قطر فبجانب مجلس الشورى القطري هناك تصريحات من القيادة القطرية بتوسيع الشورى أولا بانتخابات للبلدية مباشرة وحرة, وثانيا بوعد بانتخابات مباشرة لمجلس تشريعي.

مشاركة شعبية

إذن فقد شهدت التسعينيات تطورا حقيقيا في المشاركات الشعبية التي كانت الكويت رائدة فيها, لذلك يأتي اقتراح سمو أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح إنشاء مجلس شعبي استشاري لمجلس التعاون الخليجي الذي قدمه في القمة الخليجية الماضية السابعة عشرة والتي عقدت بالدوحة في ديسمبر الماضي تأكيدا على أهمية المشاركة الشعبية وضرورة توسيعها وتعميقها خليجيا وبشكل جامع. وهو اقتراح لابد ان الكثيرين من أبناء الخليج يودون أن يرى النور في الدورة الجديدة, وهو ما بشر بتحقيقه الشيخ جميل إبراهيم الحجيلان الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي استجابة لدعوة سمو الأمير الشيخ جابر الأحمد الصباح ونشر نقلاً عن الأمين العام للمجلس في جرائد الاثنين 1 سبتمبر 1997, فإنشاء مجلس استشاري لمجلس التعاون يعد بمثابة الإضافة المرادة والمطلوبة والتفكير الابتكاري لتطوير وتفعيل عمل المجلس بعد كل ما مر عليه من السنين والتجارب, هذا الاقتراح يمكن أن يأخذ عدة صيغ, أرى في البداية أن يحدد زمنه بدورة واحدة وهي مجمل السنوات التي تأخذها فترة الانعقاد الدوري بين الدول كاملة "ست سنوات" ويعاد النظر فيه أشخاصا واختصاصات بعد كل ست سنوات مرة, وأن يضم أشخاصا من ذوي الخبرات المختلفة موزعين تبعا لمهام متخصصة للعمل المقترح، وثمة اتجاه ليكونوا خمسة من كل بلد من بلدان مجلس التعاون الخليجي الستة على أن يعقدوا مجتمعين أربعة اجتماعات في العام الواح، ويعمل أفراد المجلس في غير وقت الاجتماعات في لجان متخصصة ست: أمنية، وسياسية، واجتماعية، وتربوية "ثقافية"، وصحية، واقتصادية "تجارة وصناعة"، حتى يمكن للمجلس الشعبي الاستشاري الخليجي تجديد اختصاصاته وتطويرها وتجديد دمائه بتجديد العاملين به كل ست سنوات. كما أرى انه في المرة الاولى يستحسن ان يترك لكل دولة تعيين الأشخاص الذين ترى انهم على قدرة ودراية بأعمال المجلس, ويكون عدد الأعضاء بالتساوي لصعوبات تحديد عدد السكان في بعض الدول الخليجية, وحتى ينسجم هذا التساوي مع روح المجلس بأن الدول الاعضاء فيه متساوية القدر والأهمية, ويمكن النظر في طريقة التعيين فيما بعد وباتاحة امكانية المراجعة إن ارادت الدولة المعنية ذلك, على أن توضع الاختصاصات وتحدد للجان هذا المجلس قبل تعيين أعضائه, وقد يدخل في أعماله متابعة قرارات القمة والنظر في القوانين السارية في الدول والمعوقة لمسيرة المجلس واقتراح تغييرها أو تبديل بعض نصوصها حتى تنسجم مع الدول الأخرى, خاصة تلك القوانين والتشريعات التي تتعارض مع تطوير مسيرة المجلس, ويمكن لمجلس كهذا أن يكون له رأي في الاتفاقات الجماعية التي يمكن أن تعقدها الدولة مع بعض الدول الخارجية, وقد تتبعه مؤسسة دراسات فاعلة لتقديم الدراسات التي يريد أن يحصل عليها لتكوين رأي ما في قضية ما تهم شعوب المجلس.

قضايا حيوية

الفكرة الرئيسية من المجلس الاستشاري كما افهمه, ليست فقط تقديم المشورة إلى مؤسسة القمة أو المجلس الوزاري المكون من وزراء الخارجية, الهدف أكبر من ذلك بكثير وهو إشراك الناس "الشعب" في أمر المجلس الذي يتطلعون إلى انجازاته في حياتهم القادمة.

هناك قضايا نقل التقنية مثلا, وهناك تبادل الخبرة في الخصخصة وتشجيع السياحة الداخلية وتبادل المعلومات, وتنسيق التعليم ومناهجه, وهناك تسهيل الاتصالات "التعرفة التلفونية الموحدة كدولة داخلية" وذلك كله من بين أمور أخرى يساعدها على الحراك الاجتماعي والاتصال البشري الذي يؤكد اللحمة الشعبية ويبنيها على أسس متينة.

لم يعد هناك شك في أن العصر القادم هو عصر التكتلات الكبيرة, ولم يعد هناك شك في أن الجغرافيا هي التي تحدد علاقات الشعوب في كثير من جوانبها سواء أرادت هذه الشعوب أن تواجه تلك التحديدات أم أنكرتها. ودول الخليج العربية المنضمة لمجلس التعاون هي دول بكل المقاييس صغيرة إن قورنت بالدول التي حولها مثل إيران أو الهند أو تركيا أو حتى العراق, وهي إن أخذت فرادى صارت مهددة من الخارج وإذا أضفنا إلى ذلك أنها نسبيا دول غنية بسبب وجود النفط والغاز تحت أرضها, فيكون أمامها أن تسلك مسارا من اثنين: أولهما, أن تبحث كل دولة ـ منفردة ـ عن حصانة أمنية لنفسها مع دول خارجية وتغرد خارج سربها الخليجي على ما في ذلك من مخاطرة بالاستقلال الوطني وعدم ثبات التحالفات الخارجية, ولنا في التاريخ الحديث عبرة, فعندما تغيرت التحالفات الصينية ـ الأميركية لم يعد لتايوان لا مقعد مجلس الامن, ولا الامن الدائم الذي اعتقدت به. أما الطريق الثاني, والأسلم, فهو الدخول في سلم وتعاون بيني داخل الإقليم الخليجي والذي يبدأ بالدول المتقاربة كدول مجلس التعاون والتي يمكنها هذا التحالف من تحالف أوثق وأكبر مع دول أخرى خارجية, فواحدة من أهم أزمات الامن القومي العربي التي عطلت المصالح العربية العليا هي غياب الارادة الموحدة, هذا ما وجدناه في القضية الفلسطينية وما وجدناه في الاحتلال الغادر لدولة الكويت, والبديل هو ايجاد هذه "الارادة" الفعالة, وتغليب المصالح العامة وطويلة الاجل على المصالح الخاصة وقصيرة الاجل.

سياسات معتدلة

ما يميز سياسات مجلس التعاون هو الاعتدال في القضايا الدولية والاقليمية, في الوقت الذي تعاني فيه دول الجوار من الوحشة الدبلوماسية على الصعيد الدولي, لذلك فان دول الجوار كثيرا ما تلقي مسئولية فشلها وعزلتها الدبلوماسية الدولية على دول الجوار الأصغر, وفي السباق إلى العولمة واتصال المصالح فان العزلة تولد مزيدا من لوم الآخر والمغامرة التي قد تؤدي إلى العدوان والتي يجب أن يتحسب لها مجلس التعاون.

قيمة الاقتراح المقدم من سمو أمير الكويت هي أن يشارك الناس في معرفة وتوجيه أمورهم العامة, وهي أمور سريعة التغير ومقدمة على عصر جديد لم نألفه من قبل, وهنا أهمية النظرة المستقبلية والبصيرة الحاذقة, فلو نظرنا إلى الهرم السكاني فقط في الخليج لوجدنا أن المستقبل غير الماضي, فدول الخليج يشكل البالغون فيها خمس عشرة سنة الأغلبية النسبية "45%" من عدد أبناء الخليج "تقدير 95", وتتميز هذه الفئة العمرية بالفتوة وبحاجتها المطلقة لفترة للاعتماد على الإعالة من الآخرين, كما أن عدد النساء اللاتي سيدخلن المجموعة العمرية في سن الإنجاب في بداية القرن القادم سيكون كبيراً, مما يعني استمرار صفة الفتوة في شعوب مجلس التعاون, الامر الذي يتطلب أن يوجد لهم سياسات مختلفة في الإسكان والتعليم والتشغيل عما كانت حتى الآن, لذلك فإن أفكارا جديدة وشعبية صارت مطلوبة بإلحاح على هذا المستوى.

ونكاد نحصل على متغيرات عديدة في كل مجال ننظر إليه من المجالات العامة في دول الخليج سواء في الأمن أو التعليم أو الاقتصاد أو الإعلام أو السياسات الداخلية, كلها تحتاج إلى فكر مساهم وتصورات طازجة مبنية على الأرقام والحقائق والمصالح.

إن أهمية مجلس استشاري شعبي خليجي هذا شأنه يحقق في رأيي مهمات مطلوبة وغير متاح القيام بها على المستوى الرسمي, فممثلو الأطر الرسمية محكومون بسياسات - سواء على مستوى التفكير أو التخطيط أو التنفيذ - بينما المطلوب هو كيان يبحث عن طموحات الناس وأحلامهم ومطالبهم, وهذه يصعب على الرسميين الدخول في مناقشتها وبحثها وتدقيقها مباشرة, بينما أعضاء مجلس استشاري شعبي يمكنهم جمع مادتهم من الجمهور مباشرة دون حواجز تحتمها الرسميات, إضافة إلى أن الطابع التمثيلي الشعبي يوفر لأعضاء كهذا مجلس فرصة واسعة لدراسة علمية, حرة من اسقاطات الالتزام السياسي الرسمي, تعكس صورة أكثر عمقاً للمطالبات الشعبية. هذه هي المهمة الأولى والتي ستنبع منها وتستتبعها مهمات تالية بطبيعة الحال. فإذا كانت مهمة سبر الأغوار الشعبية ـ إن صح التعبير ـ هي أولى مهمات المجلس الاستشاري الشعبي الخليجي, فإن المهمة التالية هي التدقيق العلمي للممكن والمتاح والحقيقي من هذه الأغوار أو الأعماق الشعبية.

صياغة المطالب الشعبية

تلي ذلك مهمة صياغة هذه المطالبات الشعبية المدروسة ووضعها تحت أيدي القيادات في مجلس التعاون الخليجي. وهذا يستتبعه, كلما أمكن, وبالضرورة تقديم اقتراحات لتنفيذ وتحقيق المتاح والملح من المطالب والملاحظات الشعبية.

ولنسم هذه المهمات كلها "الاتجاه الصاعد من القاعدة إلى القمة". وهذا يستتبع بداهة وجود مهمات أخرى في الاتجاه الآخر.

مهمات الاتجاه الآخر من "القمة الى القاعدة" يعني أن أولى المهمات هي تدارس المطالب المدروسة او التطلعات الشعبية المدروسة في ضوء الممكن لدى القيادات, هذا الممكن الذي تحكمه سياسات واستراتيجيات محلية واقليمية ودولية قد تكون خافية, او على الاقل غير محسوبة لدى القاعدة المحكومة بمطالبها وتطلعاتها مجردة من أية حسابات اخرى على الارجح.

المهمة البديهية التالية في هذا الاتجاه هي نقل الرؤية المتوافرة من بحث المأمول شعبيا والممكن رسميا, ومبررات هذه الرؤية الى الجمهور الخليجي بالمقادير والصور التي تناسب كل مقام.. ابتداء من اللقاءات الشخصية وحتى النشر الواسع والاعلام.

مهمات الاتجاهين اللذين أشرت اليهما تستتبعهما بالضرورة أجهزة مساعدة لتنفيذ هذه المهمات, فلابد من مجلس دراسات وأبحاث من متخصصين على مستوى علمي جيد يشمل علوم الاجتماع, والسياسة, وعلم النفس الاجتماعي والسياسي, والاقتصاد, وكل ما يغطي عمليات رصد النبض الشعبي ودرسه ونقله لمتخذي القرار في مجلس التعاون الخليجي. أما نقل الرؤية المستخلصة من تفاعل الشعبي مع الرسمي وإيضاحها, فهذا يقتضي وجود جهاز له مهمات إعلامية متشعبة ومدروسة وذات قرار ملموس وغير معوق بيروقراطيا في توجيه خطابها الاعلامي, لانه والحال كذلك سيكون خطابا تفاعليا بين القاعدة والقمة الخليجية وخاليا من أهواء الميول السياسية والتكتلات القبلية والعشائرية والعقائدية أو الشبيهة بذلك كله التي تحكم بعض صور التمثيل الشعبي حتى في ظل مساحات ديمقراطية واسعة أو لا بأس بها.

تعميق الثقة

ومن المهم لهذا المجلس الشعبي الاستشاري ـ بداهة ـ لتعميق الثقة بينه وبين الأوساط الشعبية من ناحية, والتقدير بينه وبين متخذي القرار من ناحية أخرى, أن يتمتع بحصانة تتيح له حرية الحركة أو على الأقل توسيع هامش الحركة في البحث والتقصي والدرس والحصول على المعلومات وجدية النظر إلى دوره أخذاً وعطاء حتى لا يتحول إلى اضافة بلا دور, وهذه الجدية لا تفعِّل أداء هذا المجلس وحده.. بل أظنها قادرة على دفع أداء مجلس التعاون الخليجي ذاته إلى آفاق أبعد وأنجح وأكثر فهما وقبولا ومؤازرة من الأوساط الخليجية الشعبية في جميع أقطار الخليج.

 

محمد الرميحي