ستة عشر عاما من عمر مجلس التعاون مقومات البقاء والعطاء

ستة عشر عاما من عمر مجلس التعاون مقومات البقاء والعطاء

بعد مضي ما يربو على ستة عشر عاما من العمل الخليجي المشترك في إطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية, فإن أحد التساؤلات التي كثيرا ما تثار حوله هو كيف تسنى لهذا المجلس البقاء والعطاء وتجاوز العديد من التحديات والمصاعب التي أفشلت تجارب عربية مماثلة.

لا يقتصر الأمر على الاستمرار الشكلي, بل إن سجل المجلس يتحدث عن قائمة طويلة من المنجزات في جميع المجالات. وربما كان الإنجاز دون مستوى الطموح, إلا أن ذلك أمر طبيعي في عملية متواصلة من الأخذ والعطاء والمراجعة وإعادة التقويم, وهو ما يدركه كل من خبر ومارس العمل الجماعي. ولا يقلل ذلك من شأن الواقع الخليجي الجديد الذي ارتسمت ملامحه على جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية نتيجة قرارات وسنوات العمل المشترك.

لقد دخلت منطقة الخليج العربي مرحلة جديدة من تاريخها المعاصر في الخامس والعشرين من مايو 1981 حين قرر أصحاب الجلالة والسمو قادة كل من: دولة الامارات العربية المتحدة ودولة البحرين والمملكة العربية السعودية وسلطنة عمان ودولة قطر ودولة الكويت إقامة مجلس للتعاون يؤطر العلاقات الوثيقة والروابط الاجتماعية والتاريخية بين دولهم وشعوبهم بما يؤمن الاستقرار للمنطقة والازدهار لشعوبها. وجاءت المنطلقات واضحة في ديباجة النظام الأساسي التي أكدت على العلاقات الخاصة التي تربط بين الدول الست والسمات المشتركة والأنظمة المتشابهة, والإيمان بالمصير المشترك ووحدة الهدف.

لقد أدركت دول المجلس أن معطيات التعاون فيما بينها, الاجتماعية والثقافية والدينية والتاريخية والجغرافية, توفر متطلبات إرساء إطار شامل للترابط والتكامل والتوحد, وأن هناك من التحديات الاقتصادية والأمنية ما يوجب عليها تبني منهاج للعمل المشترك يكفل لها تنمية مستديمة وأمنا مستقرا. فالمجلس, بإيجاز, تطوير وتطور طبيعي للروابط والعلاقات المميزة بين شعوبه ودوله. وهو تجاوب منطقي مع تحديات تنويع القاعدة الاقتصادية في دول تعتمد على عائدات النفط, والغاز كمصدر أساسي للدخل, واقتصادات تلاحقها هموم تقلبات الأسعار ومرحلة ما بعد النفط. كما أن قيام المجلس يمثل استجابة دوله لتحديات ماثلة ومحتملة على أمنها ووحدة أراضيها وثرواتها الطبيعية, ورداً عمليا على دعاوى فراغ القوى التي كانت تكررها بعض الأوساط السياسية قبل قيام المجلس, حيث أصبح المجلس يمثل إحدى الركائز الأساسية في معادلة التوازن الإقليمي.

فكرة المجلس والنضج السياسي

وتمثل فكرة مجلس التعاون درجة عالية من النضج السياسي واستيعابا عميقا لمسار العلاقات بين الدول والشعوب نحو التكتل والتوحد وإقامة التجمعات الإقليمية, حيث لا مكان مريحا للكيانات الضعيفة. فهو في هذا السياق, إعداد وتحصين للمنطقة أمام تيار التجمعات التجارية الذي يجتاح العالم, خاصة منذ مطلع الثمانينيات.

وفي ضوء تجربة العمل العربي المشترك, فإن صيغة التعاون التي يطرحها المجلس, والتي قصرت عضويته على الدول الست, تمثل الخيار العملي والمنطقي. وكما يقال فإن ما لا يدرك جله لا يترك كله. وضمن هذا السياق, فإن العمل الجماعي الخليجي منسجم مع ميثاق الجامعة العربية, وداعم لأهدافها في تحقيق تقارب أوثق, وروابط أقوى فيما بين الدول العربية, وما من شك في أن ثمار هذا التعاون هي سند ورصيد للأمة العربية, ورافد للعمل العربي المشترك, بل دافع لإنعاشه والنهوض به, وهو ما أكدته ديباجة النظام الأساسي للمجلس حينما أشارت إلى أن إنشاء مجلس التعاون انطلق من قناعة الدول الأعضاء "بأن التنسيق والتعاون والتكامل فيما بينها إنما يخدم الأهداف السامية للأمة العربية". وأن هذا المجلس, الخليجي المنشأ والتركيبة, عربي الهوية والإنتماء, إسلامي الجوهر والتوجه, عالمي الأهمية والارتباط. وإن دوله جزء من الوطن العربي الكبير, والعلاقة بين الجزء والكل في هذه الحالة علاقة عضوية قدرية, وليست خياراً مطروحاً للنقاش, أو القرار السياسي.

وبحكمة من استوعب التجارب الوحدوية والاندماجية العربية السابقة, ارتأى قادة دول المجلس في حينه عدم تقييد المجلس بصيغة نظرية محددة, بل جاءت صياغة الأهداف بشيء من العمومية المرنة من قبيل الإشارة إلى تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادين وصولا إلى وحدتها, دونما توضيح للمقصود بـ "الوحدة المنشودة", والتي جاءت الإشارة إليها باقتضاب متعمد وصائب في الوقت ذاته. وفي هذه الصياغة اللفظية والصيغة التعاونية تكمن بعض من عناصر القوة والديمومة في مجلس التعاون.

على أن أهم عناصر القوة فيه هي أن المجلس يستمد عافيته من استناده إلى قاعدة شعبية متجانسة ثقافيا, واجتماعيا, ودينيا, وصلات أسرية بين شعوبه, وقمة يجمعها المنظور السياسي والاقتصادي الواحد. وهما من المقومات الأساسية التي كفلت لمسيرة مجلس التعاون الانطلاقة السلسة والاستمرار. وقد تعززت عناصر المتانة والديمومة هذه باعتماد المجلس, منذ البداية, منهاجا يستند إلى التدرج والتأني في المسيرة التعاونية بحيث تعطي الدول الأعضاء الفرصة كاملة لتكوين القناعات, كي تمضي مسيرة العمل المشترك نحو اهدافها بخطوات مدروسة وواثقة, وإن بدت بطيئة أحيانا. وبفضل هذا المنهج المتميز والأرضية الصلبة التي يرتكز عليها العمل المشترك, تمكن المجلس من الصمود وتجاوز تحديات ومصاعب تقوضت أمامها تجارب وحدوية عربية أخرى, كنا نتمنى لها النجاح لتكون سندا للعمل العربي المشترك ودعائم تعزز صرح البيت العربي. وقد لا يكون من المبالغة القول إن أسلوب التدرج والتأني في مسيرة مجلس التعاون بقدر ما هو درس مستوعب من التجربة العربية في العمل المشترك, فإنه من جانب آخر تعبير وانعكاس للشخصية العربية الخليجية التي تتميز عموما بالاعتدال والمحافظة والواقعية فكراً ومسلكاً.

ويكفي العملية التعاونية الخليجية رصيدا وفخرا انقضاء ما يربو على عقد ونصف منذ انطلاقتها, وانتظام اجتماعاتها, لاسيما القمة الخليجية السنوية التي أصبحت حدثا مهما مرتقبا في نهاية كل عام لمراجعة أعمال ونشاطات اللجان والتوجيه بما يعزز منجزات العمل المشترك التي شملت جميع الجوانب.

صمود وإنجازات

والواقع هو أن الكثيرين لم يتوقعوا للمجلس أن يصمد طوال السنوات الماضية وأن يحقق قائمة طويلة من الإنجازات التي لا يمكن إنكار أهميتها, كما لا يمكن إنكار أن تلك السنوات والإنجازات خلقت واقعا جديدا لا يمكن تجاهله. لقد راهن أولئك على فشل التجربة بناء على تجارب سابقة في العمل الاندماجي والوحدوي العربي, وهو ما تعودنا في المجلس أن نسمعه حين تواجه دول المجلس تحديات خارجية كبيرة مثل العدوان الظالم على دولة الكويت, أو الاختلافات الطارئة حول كيفية تحقيق الأهداف المرسومة لبعض جوانب السياسة الخارجية, والتي هي في واقع الأمر اجتهادات في الوسائل في إطار اتفاق على الغايات والأهداف, أو حينما تبرز الخلافات الحدودية التي سويّ معظمها, ويصر المتشائمون على إغماض أعينهم عن النجاحات التي حققتها دول المجلس في هذا المجال والتي هي بالغة الأهمية والحساسية, أو حينما يتحول تأجيل إقرار التعرفة الجمركية أو تأخير تطبيق الانتقال بالبطاقة في أذهان وأقلام البعض إلى كارثة تهدد بقاء المجلس, فهؤلاء لم يستوعبوا الطبيعة المتميزة للمسيرة وعناصر القوة والحيوية فيها.

هذا لا يعني أن العملية التعاونية خالية من أوجه القصور, ولكنها جوانب قابلة للتصحيح والتطوير والاستكمال. كذلك لم يزعم أحد أن العملية التكاملية تسير دائما ضمن رسم بياني تصاعدي, بل هي عملية تخضع دائما للمراجعة والتقويم والتجديد.

لقد أصبح المجلس, رغم التفاوت الذي نقر به بين الطموحات والإنجازات, مكسبا لا يمكن التخلي عنه وإنجازا لا يمكن إلغاؤه, وانتماء ترفده مشاعر في وجدان أهل الخليج, الذين تحولت وتطورت روابطهم الأخوية العفوية إلى شعور بالانتماء إلى هذا التجمع العربي الخليجي, وهوية عربية خليجية أثبتتها شتى صور التلاحم والتضامن المختلفة كالتي سجلها التاريخ باعتزاز لأبناء دول المجلس في وقفتهم الشجاعة المساندة لأشقائهم أهل الكويت حينما ارتكب نظام العراق عدوانه الآثم في الثاني من أغسطس 1990. فالمجلس, إذن كما قال عنه قادته, وجد ليبقى. فهو السياج الحصين لتأمين الاستقرار وهو الضرورة المستقبلية لتوفير متطلبات تحقيق تنمية مستقرة ومستمرة لدول وشعوب مجلس التعاون. وهو قبل هذا وذاك, مطلب شعبي لا يمكن تجاهله. فأهل الخليج يطالبون وبصوت مسموع, بدعم المسيرة وتسريع وتيرتها وتحقيق جميع متطلبات المواطنة الخليجية وما يؤمن تحصين البيت الخليجي ضد المخاطر القائمة والمحتملة ومسببات عدم الاستقرار.

مظاهر الوحدة والاستمرار

من الناحية السياسية, تمثل دول مجلس التعاون تركيبة سياسية متجانسة فكرا, ومنظورا, تجمعها التجربة التاريخية, ويربطها الموقع الجغرافي والحدود المشتركة, وهي عوامل اسهمت, إلى جانب غيرها, في توليد رؤية متقاربة, إن لم تكن متطابقة للعالم الخارجي. وتعززت تلك العوامل بإجماع دول المجلس على تبني مبادئ سامية في التعامل الدولي أساسها ميثاق الأمم المتحدة, والالتزام بقواعد السلوك الدولي, واحترام التزاماتها العربية والدولية, وقد انعكست تلك المبادئ في أهداف عريضة للسياسة الخارجية تتلخص في توثيق الروابط والتضامن في الإطارين العربي والإسلامي, وتطوير علاقات دولية قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة, ودعم الاستقرار الإقليمي, والسلام العالميين وتعزيز مساحة الاعتدال السياسي, والمساهمة في تخفيف التوتر وحل الخلافات لاسيما في الإطار العربي, ولدول المجلس رصيد حافل في ذلك.

وفي أوقات السلم, وفر مجلس التعاون آليات وقنوات للتشاور وتنسيق السياسات والتحركات إقليميا ودوليا, أما في أوقات الأزمات فلقد تمكنت دول المجلس, كما في الظروف العادية, من بلورة مواقف موحدة ومتماسكة دللت على أن ترابط الأمن الخليجي واقع وقناعة. والتحدي الأمني الأكثر خطورة كان الغزو الآثم لدولة الكويت من قبل نظام العراق في الثاني من أغسطس 1990 حيث أثبت العمل الخليجي المشترك جديته وجدواه, عند انطلاق التحرك الجماعي عسكريا وسياسيا واقتصاديا وإعلاميا منذ الساعات الأولى لمواجهة هذا العدوان الظالم, وتأكدت فاعلية المجلس ورصيده الدولي من العلاقات والمصداقية حينما تمكنت دول المجلس من حشد رأي عام دولي رافض للعدوان ومساند لقرارات الشرعية الدولية, وليس أدل على ذلك من النجاح المؤكد من مشاركة أكثر من ثلاثين دولة في الحشد العسكري الضخم الذي ساهم في عملية تحرير الكويت, والدعم المالي الذي وفره عدد من الدول الصناعية الغنية لمواجهة تبعات العدوان وعملية عاصفة الصحراء. ولولا صلابة الإرادة السياسية الجماعية وتماسكها, والدبلوماسية الحصيفة المنسقة, والمساهمة العسكرية والمالية غير المحدودة من دول مجلس التعاون, ووقفتها الشجاعة والتاريخية للتصدي لنظام أفقدته القوة صوابه, لما أمكن وقف زحف قوات نظام العدوان, ناهيك عن تحرير أراضي دولة الكويت وإعادة الشرعية إليها.

في الإطار العربي, فان دول مجلس التعاون تحظى بمكانة متميزة مستمدة من سجل مشرف في الالتزام بالمواثيق العربية وتسخير جميع الإمكانات للدفاع عن القضايا العربية ودعم جهود التنمية في العالم العربي. كما أنها تتمتع, من خلال إعلان دمشق, بقدرة على المساهمة بفاعلية في وضع قواعد سليمة للتعامل والتعاون العربي وفق مبادئ الإعلان التي أكدت, من بين أمور أخرى, على الالتزام باحترام وحدة الأراضي والسلامة الإقليمية والمساواة في السيادة وعدم جواز اكتساب الأراضي بالقوة, وعدم التدخل في الشئون الداخلية واحترام مبدأ سيادة كل دولة عربية على مواردها الطبيعية.

أما على المستوى الدولي, فإن المجلس قد فرض نفسه سياسيا واقتصاديا كتجمع فاعل, لما تتمتع به دوله الأعضاء من وزن سياسي وأهمية استراتيجية وثقل اقتصادي, ولما لها من رصيد من الاعتدال السياسي والمسئولية الاقتصادية في محيط من عدم الاستقرار والتطرف العقائدي والارتباك الاقتصادي. كما أصبح المجلس يشكل قوة تفاوضية, وقد دخلت دوله كمجموعة في محادثات اقتصادية مع الولايات المتحدة واليابان ومفاوضات تجارية مع الاتحاد الأوربي الذي يرتبط بالمجلس باتفاقية إطارية تم التوصل إليها في يونيو 1988, الأمر الذي ينقلنا إلى الحديث عن العمل الاقتصادي المشترك, حيث أرسى المجلس خلال الستة عشر عاماً المنصرمة من عمره برنامج العمل الاقتصادي, الذي حددت خطوطه العريضة بنود الاتفاقية الاقتصادية الموحدة التي أقرها المجلس الأعلى في دورته الثانية المنعقدة في نوفمبر 1981. وتؤمن الاتفاقية في آخر المطاف إقامة وحدة خليجية اقتصادية, حيث نصت ديباجتها على أن هدف الاتفاقية تنمية وتوسيع وتدعيم الروابط الاقتصادية فيما بين الدول الأعضاء وتنسيق وتوحيد سياساتها الاقتصادية والمالية والنقدية والتشريعات التجارية والصناعية والنظم الجمركية المطبقة فيها.

وبعد ستة عشر عاماً من العمل الخليجي المشترك فإن هناك واقعاً اقتصاديا جديدا جوهره التشابك المستمر والمتصاعد للمصالح الاقتصادية الخليجية على المستويين الأهلي والحكومي وهو نواة ومنطلق للسوق الخليجية المشتركة الآخذة في التشكل والتطور تدريجيا بفعل قرارات وأنظمة تبناها مجلس التعاون. وعلى سبيل المثال, لا الحصر, فلقد أدت قرارات تحقيق المواطنة الاقتصادية أو المساواة في المعاملة فيما بين مواطني دول المجلس من حرفيين ومهنيين ورجال أعمال وطلاب وغيرهم معاملة مواطني الدول التي يوجدون فيها, وكذلك انتقال السلع الوطنية فيما بين دول المجلس دون قيود أو رسوم ومعاملتها كسلع وطنية, ومنح القروض الصناعية للمستثمرين من مواطني الدول الأعضاء, وغيرها من القرارات, إلى إيجاد واقع اقتصادي تنفرد به دول مجلس التعاون ولا مثيل له في أي تجمع عربي آخر.

لغة الأرقام

وبلغة الأرقام فإن من مظاهر هذا الواقع الجديد, أن بلغ عدد التراخيص الممنوحة لمواطني دول المجلس لممارسة الأنشطة الاقتصادية والمهنية والحرف في غير دولهم حوالي 4600 ترخيص, كما بلغ عدد القروض الممنوحة لمواطني دول المجلس لإقامة مشاريع صناعية بدول المجلس الأخرى 116 قرضاً حتى عام 1994 بمبلغ إجمالي يتجاوز 1387مليون دولار. كذلك بلغ عدد الشركات المساهمة بدول المجلس المسموح بتداول أسهمها من قبل مواطني المجلس 254 شركة برأسمال قدره 25.7مليار دولار, منها 83 شركة صناعية, و30 شركة خدمات, و29 شركة عقارية, و10 شركات تجارية و9 شركات تأمين. يضاف إلى ذلك, أن المجلس قد أنشأ عددا من المؤسسات المشتركة في المجال الاقتصادي, نورد منها على سبيل المثال مؤسسة الخليج للاستثمار ومقرها الكويت, والتي ساهمت في التنمية الصناعية بدول المجلس, حيث شاركت في تمويل عشرين مشروعاً إنتاجيا في مختلف دول المجلس وبلغت استثماراتها في هذه المشاريع 2.7 مليار دولار. وهيئة المواصفات والمقاييس لدول المجلس ومقرها الرياض وقد سعت لتوحيد المواصفات في دول المجلس حيث تم بالفعل اعتماد 642 مواصفة خليجية, وغير ذلك من المؤسسات المشتركة مثل مركز التحكيم التجاري, إضافة إلى الاستراتيجيات والسياسات العامة والأنظمة التي أسهمت في تقريب وتوحيد السياسات الاقتصادية ودعم التكامل والترابط فيما بين الدول الأعضاء.

إن المسيرة في الجانب الاقتصادي, بشكل خاص, تكتسب حيوية وقوة دفع ذاتية بفعل اتجاه دول المجلس نحو تنويع القاعدة الإنتاجية, وتزايد المشاريع المشتركة التي يقوم بها القطاع الخاص, وهي تفاعلات إيجابية يومية تدفع بالمسيرة قدما إلى الأمام عبر ما يتولد عنها من مصالح متداخلة تستفيد من قرارات وأنظمة مجلس التعاون التي هيأت الأرضية الملائمة لذلك. وضمن هذا السياق يمكن القول إن مسيرة مجلس التعاون, التي حظيت دائما بدعم ومؤازرة شعبية, قد أوجدت لها جمهوراً من المتحمسين ممن تتخطى مصالحهم الاقتصادية والتجارية والمعيشية الحدود السياسية فيما بين الدول الأعضاء. ويأتي الصناعيون في مقدمة المستفيدين من قرارات العمل المشترك حيث يضع أصحاب المصانع في دول المجلس السوق الخليجية في تقديراتهم حين إنشاء المصانع أو توسعة منشآتهم الصناعية القائمة, الأمر الذي يمكنهم من التغلب على مشكلة محدودية الأسواق المحلية. ومع الاتجاه العام والمتسارع نحو التصنيع في دول المجلس فإن الروابط المصلحية آخذة هي الأخرى في التوثق والتشعب. ولا يقتصر الأمر على فئة الصناعيين, بل إن هناك أعدادا متزايدة من التجار والمستثمرين والحرفيين أصبحوا يمارسون أنشطتهم الاقتصادية والمهنية عبر حدود دول المجلس.

كما يضاف إلى الفئات الاقتصادية المشار إليها, أعداد كبيرة من مواطني دول المجلس المقيمين في دول أعضاء أخرى ممن يسرت لهم قرارات العمل المشترك خلال الأعوام الماضية الإقامة الكريمة دونما قيود, وتملك العقار للسكن, والدراسة في المدارس الحكومية, والعلاج في المستوصفات والمستشفيات العامة, بالإضافة إلى ممارسة قائمة طويلة من النشاطات الاقتصادية التي أقرها المجلس الأعلى.

تحديات وتطلعات

إن العملية التعاونية في إطار المجلس لا تخلو, ولا يمكن أن نتوقع لها أن تخلو, من المعوقات والتحديات التي تلقي بظلالها على المسيرة, وتحدد وتيرتها, وحتى سلم أولوياتها, وجدول أعمالها أحيانا, من حيث ضرورة تذليل تلك العقبات والاستجابة لها. والعبرة هي في قدرة المجلس على إزالة تلك العراقيل والتفاعل بإيجابية مع التحديات, وفق الإمكانات والظروف. وخلال السنوات الماضية أثبتت قيادات دول المجلس أن لديها من الإرادة السياسية والرؤية ما يكفل لها التغلب على تلك المعوقات والتحديات.

بداية, وفي ضوء التطورات التي شهدتها الأعوام القليلة الماضية, لابد من القول إن من أهم التحديات التي يواجهها العمل المشترك, إن لم يكن أهمها على الإطلاق, تحصين البيت الخليجي داخليا بازالة كل مسببات الاختلاف, وفي مقدمتها حل قضايا الحدود العالقة, حيث أثبتت الأحداث أن تركها لعامل الزمن وعدم مواجهتها قد زادها تعقيدا وعرض مسيرة العمل المشترك لضغوط كبيرة أثرت سلبا عليها وعلى العلاقات فيما بين الدول الأعضاء. ولعل آخر إفرازات مسائل الحدود هو غياب دولة البحرين عن قمة الدوحة الأخيرة, الأمر الذي يؤكد أهمية تسريع ومضاعفة الجهود وتوظيف جميع الإمكانات للوصول إلى حل مرض لتلك المشكلة. ونحن على ثقة من أن هذا الخلاف الحدودي بين الأشقاء سيجد طريقه إلى الحل.

وتظل التحديات الأمنية تحتل أولوية غير مرغوبة على جدول أعمال مجلس التعاون, فالبيئة الإقليمية لا تدعو للاطمئنان, ولايزال التحدي الأمني هاجس المجلس ودوله التي تدرك أن المخاطر لاتزال محدقة بهذه المنطقة وأن عوامل عدم الاستقرار تحيط بها. وتدرك دول المجلس أيضا من واقع تجربتها مع الحرب العراقية ـ الإيرانية وحرب الناقلات وعدوان النظام العراقي على دولة الكويت وأعمال الإرهاب والتخريب التي حدثت في بعض دول المجلس أن مصادر التهديد العسكري والأمني مازالت قائمة. وعلى ذلك, فإن الترتيبات الأمنية في المنطقة, لاسيما منذ الثاني من أغسطس 1990, قد احتلت أولوية قصوى على جدول أعمال مجلس التعاون واستنفدت الكثير من الطاقات والأموال والوقت, وفرض توفير الأمن والاستقرار نفسه على اجتماعات مجلس التعاون.

إن الترتيبات الأمنية, بأبعادها المحلية والدولية, والتي اتخذتها دول مجلس التعاون منذ العدوان على دولة الكويت, قد أرست قواعد راسخة للاستقرار الإقليمي. وتعمل دول المجلس لتطوير قدراتها الدفاعية وفق منظور مشترك واستراتيجية موحدة تؤمن قوة رادعة ذات مصداقية تسندها إرادة سياسية واضحة جوهرها أن أمن دول المجلس كل لا يتجزأ وأن المساس بأي منها هو عدوان على كل الدول الأعضاء.

اقتصاديا, يعتبر موضوع توحيد التعرفة الجمركية أحد أبرز الصعوبات التي واجهت مجلس التعاون في هذا المجال الحيوي منذ انطلاقة المسيرة, ورغم تفاؤلنا بقدرة دول المجلس على تجاوز إشكاليات توحيد التعرفة, فإن الموضوع أصبح يشكل هما اقتصاديا خليجيا لابد من تجاوزه للانتقال بمجلس التعاون إلى مرحلة أكثر تقدما نحو تحقيق السوق الخليجية الموحدة. وفي قمة الدوحة الأخيرة, قرر أصحاب الجلالة والسمو قادة دول المجلس توحيد التعرفة الجمركية وإقامة اتحاد جمركي, كما أقروا عددا من الإجراءات الهادفة لاستكمال إقامة السوق الخليجية المشتركة, بما في ذلك استكمال تصنيف السلع للأغراض الجمركية إلى ثلاث فئات: معفاة, وأساسية, وبقية السلع. كما وجهت القمة وزراء المالية والاقتصاد بمتابعة بحث الإجراءات اللازمة لإقامة الاتحاد الجمركي بين دول المجلس, ورفع تقرير حول ذلك إلى المجلس الأعلى في دورته القادمة. وتلك قرارات حكيمة وإيجابية تدفع موضوع توحيد التعرفة الجمركية خطوات إلى الأمام نحو الإنجاز.

إن تعميق وتوثيق الروابط والصلات وأوجه التعاون القائمة بين شعوب دول مجلس التعاون في مختلف المجالات هو أحد الأهداف العامة التي أكد عليها النظام الأساسي للمجلس. ويتوجب علينا خلال المرحلة القادمة البحث عن قنوات ومجالات جديدة لتعزيز شبكة المصالح والعلاقات على المستوى الشعبي, ونستذكر هنا بتقدير بالغ ما أكده صاحب السمو أمير دولة قطر في كلمته الضافية التي افتتح بها أعمال الدورة السابعة عشرة للمجلس الأعلى التي عقدت في الدوحة, من أنه دون المشاركة الفعالة من شعوب دول المجلس, فإن التعاون, حتى على المستوى الحكومي, يفقد مضمونه الحقيقي, وأنه لابد من بذل المزيد من الجهد لإفساح المجال واسعا أمام تعاون القطاع الخاص الذي يتطلبه النظام الأساسي, خاصة مع تعاظم دور ذلك القطاع في دول العالم قاطبة.

إن أحد أوجه تلك المشاركة الشعبية يتمثل في توفير الأرضية الملائمة للقطاع الخاص كي يتمكن من الاضطلاع بدور فاعل في ربط المصالح والإسهام في دمج الاقتصاديات. إن تنشيط دور الأفراد والشركات والمؤسسات الأهلية في مسيرة العمل المشترك يفترض تعميق وتوسعة مبدأ المواطنة الاقتصادية بحيث تزال تدريجيا, وفق برنامج مرحلي متفق عليه, العقبات والقيود التي قد تعترض حرية مزاولة جميع الأنشطة الاقتصادية, لاسيما في مجال التملك والاستثمار العقاري والأسهم والمصارف وتيسير الانتقال.

وضمن هذا السياق, فإننا نتطلع إلى أن تتوصل دول المجلس إلى تطبيق نظام الانتقال بالبطاقة لمواطنيها مما سيسهم في دعم التواصل والاتصال الاجتماعي والثقافي والاقتصادي بين أبناء مجلس التعاون, وبما يكرس التوجه لتفعيل المشاركة الأهلية في دعم مسيرة مجلس التعاون وتحقيق السوق الموحدة. وهناك أفكار ومقترحات مطروحة تدرس في إطار مجلس التعاون لتعزيز مشاركة مواطني دول المجلس في دفع المسيرة الخليجية الخيرة. وكما هو معلوم, فإن منطق العلاقة بين القرار الرسمي والمساندة الشعبية يقضي بأن استمرار تفاعل المواطنين مع العمل الجماعي في إطار مجلس التعاون مرهون بتلبية قرارات العمل المشترك لحاجات واهتمامات أبناء هذا المجلس.

إن آمالنا معقودة على أن يمضي التعاون بوتيرة متسارعة نحو الأمام في خطوط متوازية تغطي كل الجوانب, وأن يأخذ التعاون الاقتصادي حقه كاملا خلال الأعوام القادمة, وان تمنح هذه المنطقة فسحة من الهدوء السياسي والاستقرار الإقليمي لكي ندخل القرن الواحد والعشرين على أرضية اقتصادية صلبة تستند الى شبكة واسعة من المصالح المترابطة تعزز التكامل وتدعم الاندماج.

 

جميل الحجيلان

 
  




قادة دول مجلس التعاون في أحد إجتماعات القمة





جميل الحجيلان





شعار مجلس التعاون لدول الخليج العربية