لماذا تناسى الغرب فيكو؟

لماذا تناسى الغرب فيكو؟

من الأمور المحيرة للمرء فشل العرب والمسلمين في أن يقدموا رؤية للحضارة الغربية مستقلة عن رؤية الإنسان الغربي نفسه.

إن تاريخ الفلسفة الغربية الذي ندرسه أو نقرأه أو نكتبه هو بحذافيره تاريخ الفلسفة الغربية الذي كتبه الإنسان الغربي ونفس المنطلقات والنماذج والافتراضات, ولذا فنحن نهمش مايهمشه ونضع في المركز مايرى أنه مركزي. وقد هيمنت على تاريخ الفلسفة الغربية رؤية مادية تجعل من ديكارت معلماً أساسياً في تطور الفلسفة, أما جيامباتيستا, فيكو "1668 ـ 1744" الفيلسوف الإيطالي, ومؤلف كتاب "المعلم الجديد" فقد كان نصيبه التهميش. وقد فعلنا نحن نفس الشيء. فما هي منطلقات فيكو؟ وما هي النتائج التي يصل إليها, وهل يستحق هذا الإهمال والتهميش؟

ينطلق فيكو من رفض جذري للنموذج المعرفي الديكارتي باعتباره نموذجاً متوجهاً بشكل متطرف نحو العلوم الرياضية والطبيعية, وهو ما كان يعني إهمال فروع النشاط الإنساني والعلوم الإنسانية مثل الفن والقانون والتاريخ أو تهميشها باعتبارها دون أهمية كبيرة.

ويمكن القول إن النموذج الكامن في كتابات فيكو هو رفضه للواحدية المادية التي طرحها ديكارت, ثم الثنائية الصلبة التي حاول أن يفرضها بعد ذلك من خلال مفهوم الذات الواعية المستقلة, وأخيراً مفهوم الإله كمحرك أول, وقد ترجم هذا نفسه إلى رفض فيكو للفكرة المحورية التي يستند إليها الفكر الغربي الحديث والعلوم الإنسانية في الغرب, وهي وحدة العلوم والتي تفترض وحدة الإنسان والطبيعة والمادة ووحدة الإنسان والأشياء, وإذا أردنا أن نلخص فلسفة فيكو بالمصطلح الحديث لقلنا إنه يعتبر أن نموذج ديكارت المعرفي والبحثي نموذج متشيئ, وإذا أردنا أن نصوغها بمصطلحنا نحن لقلنا إن فيكو يرفض رؤية وحدة الوجود المادية ورؤية الإنسان باعتباره جزءاً من الطبيعة وأنه يرى أن ثمة ثنائية أساسية بين الإنسان والطبيعة, وأن الإنسان مختلف عن الطبيعة بسبب أصله الإلهي.

ونقطة البدء عند فيكو نقطة إنسانية اجتماعية "وليست ذاتية فردية" لخصها هو نفسه في مبدئه الشهير "ترادف الحقيقي والمصنوع" أو إمكان تحويل الواحد إلى الآخر "باللاتينية: فيروم إت فاكتوم كونفرتنتور Verum et Factum Convertentur" والذي يعني أن الإنسان لايمكن أن يعرف بيقين كامل إلا ما صنعته يداه وأبدعه عقله ووجدانه. ومن ثم فإن الوعي بالذات من النمط الديكارتي "الكوجيتو الديكارتي" هو وعي بدائى ولايصلح أساساً للمعرفة, فالعقل لم يصنع نفسه ومن ثم فهو غير قادر على إدراك الطريقة التي يدرك بها نفسه. ومحاولة إثبات وجود الإله بطريقة عقلية قبلية كما يحاول ديكارت أن يفعل, هي محاولة تنبع من حب استطلاع شره لاينم عن أي تقوى, إذ يحاول الإنسان أن يجعل من نفسه "إله الإله".

أما بخصوص الأفكار الواضحة المحددة, فهي لاتصلح أساساً للمعرفة العلمية, فكثير من مثل هذه الأفكار بعد التدقيق نكتشف أنها زائفة. واليقين الرياضي ذاته يستند إلى كون أن النماذج الرياضية هي من إبداع عقل الإنسان نفسه, ولذا فهو يفهمها بشكل كامل. وانطلاقاً من هذا يميز فيكو بين الحقيقة التي نتوصل إليها من خلال النماذج الرياضية وتلك التي نتوصل إليها من خلال التجارب الطبيعية, أي أنه لم يسقط في الواحدية المادية ووحدة العلوم. فالفيزياء أقل يقينية بالضرورة من الرياضة, فالنماذج الرياضية من إبداع عقل الإنسان, ولذا فإن الإنسان يعرفها معرفة كاملة, أما إذا تعاملنا مع الفيزياء فنحن نتعامل مع هذا الذي لم نصنعه نحن, فالعالم من خلق الإله وهو وحده الذي يعرف الطبيعة تماماً, ومن ثم فإن الحقيقة المادية لايمكن أن تكون شفافة للعقل الإنساني كما يتصور الفلاسفة العقلانيون "الماديون". ولكن هذا لايعني أن الطبيعة سر مغلق تماماً "كما يقول اللاعقلانيون الماديون" إذ إننا لانقف إزاء الطبيعة موقف المتفرج السلبي دون أن نلعب أي دور نشط فعال, إذ بوسع الإنسان أن يجري تجارب في ضوء فرضيات عقلية تقلد الطبيعة إلى حد ما, وما نعرفه في الطبيعة هو تلك الظواهر التي يمكننا أن نتخيلها ونقلدها "أي أننا لانعرف الطبيعة في ذاتها وإنما الطبيعة كما تظهر لنا وكما ندركها من خلال مقولات مفطورة في عقولنا, إن أردنا استخدام المصطلح الكانطي".

الاستخفاف بالتاريخ

وانطلاقاً من كل هذا, يطرح فيكو رؤيته للتاريخ. ومن المعروف أن موقف ديكارت للدراسات التاريخية كان موقفاً يتسم بالاستخفاف بالتاريخ على أنه ليس علماً دقيقاً "باعتبار أن النموذج الرياضي هو النموذج الأسمى لكل العلوم". فنتائج البحث التاريخي, قياسا بالعلوم الطبيعية الدقيقة "التي كانت تقدم نتائج باهرة من دون عون الفلسفة أو التأمل", تدل على أن التاريخ تخصص ليس له قيمة كبيرة, فهو مجموعة من الحقائق المختلطة ونسيج من الأفكار الملفقة والفارغة. مثل هذا الموقف, بالنسبة لفيكو, ليس له أي أساس, فمن الخطأ بمكان افتراض أن ثمة منهجاً واحدا لكل العلوم لايتغير مهما تغير موضوع العلم وهدفه. بل إنه ليخطو خطوة أكثر راديكالية يرى أن المؤرخ يمكنه أن يصل إلى معرفة أكثر عمقاً لموضوع بحثه من تلك التي يصل إليها العلماء الطبيعيون, إذ إن موضوع العالم الطبيعي هو الطبيعة "المادة" وهو موضوع براني بالنسبة له, ليس من صنعه, أما موضوع المؤرخ فهو الظواهر التاريخية التي هي من صنع الإنسان, والتي يمكن للمؤرخ, انطلاقاً من إنسانيته, إدراكها وفهمها "وهذا إرهاص للتحليل الهرمينوطيقي المبني على الفهم الجواني للظاهرة".

وقد طبق فيكو منهجه هذا على دراسته للتاريخ, فرفض المحاولة المستنيرة لمعاصريه في تفسير الماضي في ضوء رؤيتهم الحديثة, إذ وجد أنه من المهم بمكان أن تفهم الأنساق التاريخية انطلاقاً من تعينها ومعطياتها وخصوصيتها. وقد كان فيكو يرى أن جروتيوس وهوبز وديكارت قد حادوا عن جادة الصواب تماماً, فهم في مناقشتهم لطبيعة المجتمع الإنساني وأصله استخدموا تجريدات قانونية مثل "القانون الطبيعي" و"العقد الاجتماعي" وتصوروا أن الإنسان في الماضي يشبه الإنسان في العصر الحديث "في تطلعاته ورؤاه". وقد أدى هذا إلى أنهم شوهوا التاريخ الماضي.

وفي مقابل هذا الإنسان الطبيعي الذي يطرحه المفكرون العقلانيون في عصره. يطرح فيكو الإنسان التاريخي, أي أنه يدرس الإنسان ليس في إطار نموذج طبيعي مجرد وإنما في إطار أصوله التاريخية, لأن هذه الأصول هي التي صاغته على الهيئة التي هو عليها. ويرى فيكو أن الحضارة الإنسانية ليست جزيئات متصارعة متحركة, وإنما كل متكامل, ولذا فإن ثمة علاقة بين قوانين حضارة ما وأساطيرها ولغتها وعقيدتها. فاللغة ليست مجرد آلة طورها الإنسان للتعبير عن أفكار جاهزة مسبقة في عقله, وإنما هي أداة لاتنفصل عن تركيب العقل البشري ذاته أو عن منتجات الإنسان الحضارية. ومن ثم, فإن دراسة اللغة تعطينا صورة جيدة عن بنية العقل الإنساني وعن رؤية الإنسان للكون "كما اكتشف البنيويون بعد مئات السنين". والاستعارات والأساطير والتعبيرات المجازية التي استخدمها الإنسان في الماضي ليست مجرد أوهام وأكاذيب طورها الكهنة للسيطرة على البشر وإنما هي تعبير عن محاولة الإنسان للوصول إلى المعنى في حياته والتواصل مع غيره من البشر, وقد سماها فيكو "العالمي المتخيل" "بالإيطالية: يونيفرسالي فاناتستيكو Universale Fanatastico" وهو المصطلح الذي استخدمه ليصف العقل الكوني الأسطوري الديني الشعري. ولكل هذا, لم يرفض فيكو الأساطير بل سماها "التواريخ الأولى للإنسان".

دراسة عقل الإنسان

والتاريخ "بأشعاره وأساطيره وحضاراته" هو ما صنعته يد الإنسان, ودراسة التاريخ هي دراسة عقل الإنسان وتركيبه, وأهم من كل هذا هو دراسة أصله, فكل نظرية كما يقول فيكو في العمل الجديد "يجب أن تبدأ من النقطة التي بدأ موضوعها يتشكل فيها". وقد بدأ العقلانيون "الماديون" من مفهوم "الإنسان الطبيعي" وهو إنسان يعرف في إطار القانون الطبيعي لا في إطار القانون الإنساني, أما فيكو فسيبدأ من لحظة أخرى تماماً, فهو يرى أن أسس المجتمع الإنساني ليس حالة الطبيعة وإنما هي الدين والزواج والدفن "يستخدم فيكو كلمة "برنكيبي Principi" اللاتينية بمعنى "بدايات"". فمؤسسات الدين والزواج والدفن هي الشروط الضرورية والكافية المطلوبة لمجتمع إنساني مبدئي, مجتمع يمكن أن يولد الحضارة ويوصلها. والزواج غير الجنس, والدفن غير الموت, فالجنس والموت عمليتان ماديتان فسيولوجيتان يمنحهما الإنسان معنى ويدخلهما في نطاق المجتمع الحضاري من خلال شعائر الزواج والدفن. ولكن عملية الانتقال هذه من عالم الطبيعة إلى عالم الدين ذاته هي تعبير عن انتقال الإنسان من حالة الطبيعة إلى حالة الإنسانية. وقال فيكو إن عملية الانتقال تبدأ في لحظة خوف إنساني كوني من ظاهرة طبيعية هي الرعد. ولكن الإنسان, من خلال استجابته للرعد, يعبر حدود الطبيعة/المادة فيسمي الرعد "زيوس" أي "إله" وبذا يتحول الخوف من ظاهرة طبيعية إلى خوف من كائن مقدس ومن محاولة التواصل مع هذا الكائن المقدس (وهذا ما يسميه علي عزت بيجوفيتش "الدوار الميتافيزيقي"). وهذه التسمية هي أول الأفعال اللغوية للإنسان. ويرى فيكو أن كل أمة لها إلهها, وأن لغة كل أمة وحضارتها تبدأ عند عملية التحويل الفجائي التي يقوم بها الإنسان إلى الحالات المادية ـ إلى السماء ذات الرعود "وخوف الإنسان منها" إلى معنى روحي: وجود الإله. فاسم الإله هو أول اسم ولد في وعي الإنسان "وليس الأنا", وهذا لم يتم إنجازه من خلال التفكير العقلي وإنما من خلال الخيال. والخيال هنا ليس هو مجرد تكوين للصور من الأحساسيس وإنما هو قوة فعالة, هو المقدرة على توليد "العالمي المتخيل" الذي يعطي للعالم معنى.

في هذه النقطة, نقطة الدوار الميتافيزيقي والبحث عن المعنى, تبدأ كل أمم الأرض, وتبدأ إنسانيتنا المشتركة. وهذه الإنسانية المشتركة هي قوة كامنة في النفس البشرية, ولذا فإن عقول البشر متماثلة بنيوياً, وتبدأ كل أمة تاريخها في أزمنة مختلفة وفي أماكن مختلفة, الواحدة مستقلة عن الأخرى, ولكنها كلها لها طبيعة مشتركة. وفيكو هنا يرفض نقطة الصفر العلمانية كنقطة بدء, الإنسان الطبيعي والطبيعية/المادة, ولكنه لايسقط في النسبية المطلقة إذ إن ثمة إنسانية مشتركة متجذرة في أصل الإنسان الإلهي وهي بحثه عن المعنى.

الحقيقي والمصنوع

وقد أهمل الفكر الغربي فيكو تماماً, ولم يكتشفه أحد إلا في القرن التاسع عشر "مع بدايات أزمة الفكر العلماني المادي". فاكتشفه المفكر الرومانتيكي الإنجليزي كوليردج الذي أشار إلى أن كلمة "فاكت Fact" بمعنى "الحقيقة" مأخذوة من فعل "فاكري facre" بمعنى "يصنع" "وفي الفرنسية يوجد فعل "فير faire" بمعنى "يفعل" ومنه كلمة "فيه Fait" بمعنى "إنجاز" إلى أن نصل إلى عبارة "فيت أكومبليه fait accompli" بمعنى "أمر واقع". وكل هذا نابع من فكر فيكو في إيمانه بترادف الحقيقي والمصنوع. كما أن المؤرخ جول ميشيليه ومن بعده بنديتو كروتشيه وكورينجوود, ساعدوا على تركيز الاهتمام على أعماله, ثم حدث إحياء كامل لتراثه وأفكاره ابتداء من الستينيات "مع تفاقم أزمة النظام المعرفي في الغرب". والواقع أن تجاهل الفكر الغربي لفيكو ولرؤيته المعرفية والحضارية الخصبة, ولنقده للنموذج الديكارتي عبر هذه القرون, له دلالته العميقة, فكل من النزعة التجريبية "لوك" والعقلانية "ديكارت" سقطا في إطار الواحدية المادية وهمشا ما هو إنساني, وقضيا عليه, وقد حاول كانط أن يميز بين الإنساني والطبيعي, وهي محاولة قريبة جداً من محاولة فيكو, ولكنه لم يستطع تفسير أصل الأفكار المفطورة في عقل الإنسان والحس الخلقي المفطور في وجدانه وظل في إطار المرجيعة الكمونية, ولذا صفيت الثنائية لتصبح إما نظاماً شمولياً مثالياً كما هو الأمر في حالة هيجل أو شمولياً مادياً كما هوالأمر في حالة ماركس, أو نظاماً سائلاً تماماً كما هو الحال عند نيتشه. وفي مثل هذا الإطار, لايوجد مجال لمفكر إنساني مثل فيكو ترتكز ثنائية الإنسان والطبيعة في نسقه إلى الأصل الإلهي للإنسان يحقق الإنسان داخله تجاوزاً حقيقياً خارج إطار المادة.

والأهم من هذا أنه حينما اكتشف الغرب فيكو مرة أخرى فقد خلع عليه النسبية الكاملة, بمعنى أن فيكو الذي ظهر هو فيكو ما بعد الحداثي الذي لايؤمن بوجود طبيعة بشرية ثابتة. فقد أخذوا إيمان فيكو بالحقيقة المتعينة المتحققة على أنه رفض للحقائق الكلية, أي أنهم فرضوا على فيكو النمط المعرفي الغربي في تأرجحه بين الحضور الكامل والعدم, مع أن جوهر فكره هو رفض لهذا: فهو يرفض النموذج الديكارتي الذي يصر على المعرفة المجردة القبلية وعلى وحدة العلوم والمفهوم الإنساني الطبيعي, ولكنه يؤسس رفضه على إيمان عميق بالإنسانية المشتركة ذات الأصول الربانية.

ولعل أكثر المدارس الفلسفية الغربية الحديثة اقتراباً من فيكو هي مدرسة فرانكفورت، مع فارق وحيد: رفضهم تأسيس ثنائية الطبيعة/الإنسان على أساس غير مادي، ولذا فقد انتهى كل مفكري هذه المدرسة برؤية تشاؤمية عميقة تكاد تكون عدمية.

 

هدى حجازي

 
  




فيكو.. صورة رسمت بواسطة فنان مجهول