الخيانة الزوجية تعادل الخيانة القومية: ليلة سقوط الجنرلات
الخيانة الزوجية تعادل الخيانة القومية: ليلة سقوط الجنرلات
البنتاجون: مهمتنا أن نصنع الحرب لا الحب الجنرال الأمريكي جوزيف رالستون عمره 53 عاماً، وهو أمضى ربع القرن الأخير يرفع شعار "اصنع الحب لا الحرب" باعتبار أن هذا الشعار صنع في أمريكا، ولكن عندما تم ترشيح الجنرال ليتولى منصب قائد هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية اكتشف أخيرا أن العكس هو الصحيح وأن مهمة الجنرال كما يراها الكونجرس الأمريكي في نهاية القرن العشرين هي أن يصنع الحرب لا الحب. وضحايا هذه الأصولية العسكرية بالعشرات وليس آخرهم بطل الحرب العالمية الثانية الجنرال دوايت إيزنهاور. إن الخيانة الزوجية في القاموس الأصولي تتحول إلى خيانة وطنية. "اصنع الحب لا الحرب" هتاف خرج من رحم الحرب في فيتنام. مئات الألوف من الشبان الأمريكيين أطلقوه احتجاجاً على تلك الحرب القذرة، ثم كرسوه "تعويذة" في مهرجان "وود ستوك" الذي جمع مايزيد على نصف مليون شاب وفتاة في كرنفال حب جماعي.. وشبه عراة. صناعة الحرب الأمريكية ركبت الموجة ولكنها جمعت بين الحب والحرب، وأطلقت هوليوود من استديوهاتها ومن القواعد العسكرية عشرات الأفلام تروي حكايات ضباط وجنود، من الأسلحة المختلفة، يمارسون الحب والحرب معاً ويبلون أحسن البلاء. كان طبيعياً أن يعشق الضابط في سلاح البحرية زميلته، وأن يرتبط الضابط في سلاح الجو بمساعدته على الأرض، وأن تكون الحبيبة هي أول مايستقبل رجل المارينز عند عودته من ساحة القتال. الجنرال دوايت إيزنهاور قائد قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية فيما بعد كان النموذج والمثال، فقد كان يحب زوجته ويعشق قائدة سيارته ويقاتل قوات المحور ويحقق الانتصارات على جميع الجبهات. ثم تغيرت الأحوال، ومن غزو جرانادا وبنما إلى عاصفة الصحراء لتحرير الكويت وقع الطلاق، وبمفعول رجعي، مابين الحب والحرب. واستعادت المؤسسة العسكرية "أصولية" كانت قد بلغت ذروتها مع مطلع القرن الماضي، إثر الحرب مع إسبانيا 1898م، وبداية الانتشار الأمريكي الإمبريالي باتجاه كوبا والفلبين والمكسيك، وهو ما لخصه الرئيس الأمريكي روزفلت عندئذ بقوله: نحن شعب من المحاربين ومانريده هو "أمركة العالم". وبعد مرور قرن كامل يبدو أن نبوءة الرئيس تكاد تتحقق قبل 41 عاماً المسلسل بدأ في يونيو الماضي عندما قام وزير الدفاع الأمريكي وليام كوهين بترشيح الجنرال رالستون لمنصب قائد هيئة الأركان المشتركة. وكان الجنرال يشغل حينئذ منصب نائب رئيس هيئة الأركان، وهو شارك في حرب فيتنام ونال خلالها عدداً من الأوسمة، وسائل الإعلام كالعادة، فتحت ملف الجنرال تبحث عن ماضيه منذ نهاية الحرب واكتشفت أن رالستون، وعندما كان طالباً في المدرسة الحربية القومية العام 1984 أي قبل 14 عاماً من ترشيحه لهذا المنصب أقام علاقة "غير شرعية" مع موظفة تعمل في وكالة الاستخبارات الأمريكية "سي.أي.إيه" في تلك الفترة كان رالستون متزوجاً ولكنه كان منفصلاً عن زوجته بانتظار نهاية إجراءات الطلاق، وبعد أن انتهى ذلك الزواج بالطلاق عاد الجنرال وتزوج ثانية. وزير الدفاع كوهين علق على هذا الكشف فقال إن تلك العلاقة لن تمنعه من ترشيح الجنرال لأنه لاعلاقة تربط بين "الخيانة الزوجية" وساحات القتال، خاصة أن الجنرال رالستون كان قد عاد مع رئيسه الجنرال جون شاليكا شفيلي من جولة عسكرية شملت الحدود التركية/ العراقية. ضحايا بالجملة الكونجرس الأمريكي ومعه عشرات الروابط النسائية ومعظم وسائل الإعلام اتهموا البنتاجون بأنه يمارس مقاييس مزدوجة، إذ قبل أسبوع من الكشف عن خيانة الجنرال كانت محكمة عسكرية أمريكية قد أصدرت حكماً بطرد الليوتنانت كيلي فلين وهي أول امرأة في سلاح الطيران تقود قاذفة من نوع "ب 52" من سلاح الجو لأنها على علاقة عاطفية مع موظف مدني ، وقد رفضت فلين أوامر المحكمة العسكرية بقطع تلك العلاقة "غير الشرعية"، وبالتالي ضحت بوظيفتها وبمستقبلها العسكري على مذبح الحب. ومع أن الجنرال سحب ترشيحه لمنصب قائد هيئة الأركان فإن ملف الحب والحرب بقي مفتوحاً على اتساعه، ففي قاعدة "أباردين للتدريب العسكري" كان الضحايا يتساقطون بالجملة. قائد القاعدة جون لونفهاوسر اعترف أنه أقام وقبل 3 سنوات علاقة غير شرعية مع إحدى المتدربات، وطلب قبول استقالته، قائد آخر اتهم بأنه أقام أكثر من علاقة رفض أن يعترف ولكنه طلب قبول استقالته بشرف، ثلاثة آخرون في القاعدة نفسها تمت إدانتهم بتهم الخيانة الزوجية. وعند ذلك الحد طلب الكونجرس من وزارة الدفاع أن تقوم بتحقيقات تشمل القواعد العسكرية الأمريكية كلها، بما فيـها القـواعد خارج أمريكـا، لضـبط جميـع الخيانـات التـي ترتكب وإحالة "الخونة" إلى المحاكم العسكرية. "المكارثية" أطلت مجدداً هذه المرة، ولكن ليس بحثاً عن الشيوعيين الحمر في أمريكا بل عن أصحاب الليالي الحمر في الأسرة غير الشرعية، وكما حدث بعد الحرب الكورية فإن "الشبهة" وحدها باتت تكفي لطرد صاحبها خارج طبقة السلك العسكري. حرب عالمية جديدة وكما تجذب رائحة الدم سمك القرش في البحر. فإن دماء الجنرال رالستون أطلقت شهية الأصوليين فاستباحوا حتى القبور ولم يوقروا بطل الحرب العالمية الثانية الجنرال دوايت إيزنهاور الذي اتهموه بالخيانة وطالبوا بإقامة الحد عليه وحرمانه المنزلة التي منحه إياها الشعب الأمريكي، إذ إن الجنرال كان على علاقة مع سائقة سيارته في زمن الحرب الآنسة كاي سامرز باي، وهي كانت تبادله عاطفته النارية كما تؤكد رسائل تم الكشف عنها من الأرشيف العسكري للجنرال والرئيس. ومع سوزان إيزنهاور، حفيدة الجنرال الراحل، استعادت الحرب العالمية الثانية جبهاتها الساخنة، فقد طفح الكيل بالحفيدة وهي تقرأ وتشاهد على شاشات التلفزيون أفلاماً وثائقية يظهر فيها الجنرال وسائقته في جلسات أليفة، ومعها صوت المعلق يقتبس من حديث للرئيس ترومان ومن مذكرات السائقة عبارات تكشف عن أسرار الحرب العالمية الثانية و"الخيانات" الزوجية التي ارتكبها قائد قوات الحلفاء الذي أصدر قراراً بتعيين العشيقة مساعداً عسكرياً له. وفي تقرير احتل مساحة واسعة في صحيفة "واشنطن بوست" ومالبثت وسائل الإعلام أن تناقلت معظم ما ورد فيه، فتحت سوزان إيزنهاور النار على نابشي القبور والسجلات واستخدمت عشرات الوثائق والرسائل لتؤكد حقيقة وحيدة وهي أن جدها الجنرال كان مخلصاً لزوجته بمقدار لايقل عن إخلاصه لوطنه. ولم توفر سوزان ـ وهي باحثة ومحللة سياسية ـ أية وثيقة في أرشيف البنتاجون السري لإثبات براءة جدها من تهمة الخيانة الزوجية باعتبارها لاتقل خطورة عن الخيانة القومية! إعادة كتابة التاريخ أبرز ما جاء في الرد يكشف سهولة إعادة كتابة التاريخ وبالتالي إصدار أحكام وبمفعول رجعي وكأن تقاليد الثأر مازالت هي التي تحكم الحياة العصرية في الغرب. تقول سوزان تعليقاً على الحملة "لم تعد هناك بقرة مقدسة" وتشير إلى أن "شائعة" العلاقة العاطفية بين إيزنهاور وسائقة سيارته ثم مساعدته بدأت في عام 1943 عندما أشارت مجلة "لايف" في أحد تحقيقاتها الميدانية عن القيادة العليا إلى "الفتاة الإيرلندية الجميلة التي كانت تقوم أيضاً بقيادة سيارة الجيب العسكرية للجنرال إيزنهاور". وتضيف أنه بعد ثلاثة عقود، وبعد وفاة إيزنهاور، كادت الإشاعة تتحول إلى حقيقة عندما قام الصحفي ميريل ميللر بنشر مقابلة مع الرئيس هاري ترومان، وفيها يقول إن إيزنهاور قد كتب إلى الجنرال جورج مارشال يطلب منه الموافقة على طلاقه من زوجته السيدة مامي، كي يتسنى له الزواج من الآنسة سامرز باي، ومع أن الآنسة سامرز باي أعربت وقتئذ عن دهشتها من تصريح الرئيس، غير أنها بعد سنوات، ومع صدور كتابها عن "الماضي المنسي: حكاية غرامي مع الجنرال دوايت إيزنهاور" عززت القناعة الشعبية بوجود تلك العلاقة، ولم يلبث التلفزيون أن قام في عام 1979 بوضع مسلسل زعم أنه وثائقي عن تلك العلاقة، ولم يناقش أحد صحة ما جاء في الكتاب أو في المسلسل. حكاية غرام.. مزورة وهنا تكشف الباحثة السياسية عن لعبة إعادة كتابة التاريخ، فتقول إن الصحفي ميللر عاد ووضع كتاباً عن الرئيس السابق ترومان ولم ترد فيه أية إشارة إلى حديث الرئيس عن رسالة إيزنهاور إلى مارشال، وتقول إنه بعد التنقيب في وثائق مارشال تم بالفعل العثور على رسالة من إيزنهاور وفيها يطلب السماح لزوجته مامي بالسفر إليه في أوربا، في الوقت الذي كانت فيه عشيقته المفترضة تعمل سائقة عنده، أما الحقيقة الثالثة فهي أن كاي سامرز باي لم تكن هي من وضع كتاب "حكاية غرامي مع دوايت إيزنهاور" فقد صدر بعد وفاتها بسنوات، تقول أقرب صديقاتها إليها، ويضيف منفذ وصيتها "إن كاي لم تقرأ حرفاً واحداً منه، فقد تم تأليفه بعد وفاتها". ورغم بلاغة الرد فإن نابشي القبور لم يوقروا الرئيس توماس جيفرسون "فقد كان لديه 6 عشيقات". هل يمكن "أمركة العالم" وفق هذه المقاييس الأصولية في المؤسسة العسكرية الأمريكية? في تقرير من باريس نشرته صحيفة "هيرالد تريبيون" الدولية يصف الفرنسيون الأمريكيين بأنهم "أطفال بالغون" ويعلق ضابط فرنسي "لو أخذنا بالمقياس الأمريكي فإنه لن يعود لدينا أي جيش في فرنسا كلها"، بينما يشير آخر إلى أن القوانين العسكرية تتحدث عن الكرامة والشرف والإقدام المتبادل والابتعاد عن المخدرات وليس في كتبنا كلها مايتحدث عن "خيانات" أو علاقات غير شرعية، إذ ما علاقة هذه بقيادة طائرة أو بوضع خطة عسكرية لمواجهة جيش معادٍ". ويشير التقرير إلى أن بريطانيا حيث تصل نسبة المجندات إلى 10% من أفراد القوات المسلحة لاتعاني من أية "عقدة" على هذا الصعيد. كما أن الكنيسة في بريطانيا لاتفرض الحرمان على المتهمين بالخيانة الزوجية أو بإقامة علاقات غير شرعية. وسائل الإعلام البريطانية أشارت بدورها إلى أن "الائتلاف المسيحي" في أمريكا بات قادراً، برغم الفصل بين الكنيسة والدولة، على فرض قيم جديدة على المؤسسات النافذة في الولايات المتحدة ومن بينها المؤسسة العسكرية، أما أطرف تعليق على هذه الحملة الأصولية، فقد أطلقته صحيفة "الجارديان" البريطانية، عندما قالت "لو أن مقاييس مشابهة حول الطهارة الأخلاقية للمحاربين طبقت في بريطانيا خلال الحروب النابليونية، فإن الأسطول البريطاني لن يكون بقيادة نيلسون، ولن تسلم القيادة البرية إلى ويلينجتون، وكان باستطاعة فرنسا المنتصرة في ذلك الوقت أن تعلن ضم أمريكا إليها ومن دون عائق".
|
|