تعريب بوالو

تعريب بوالو

في عدد سابق كان الحديث عن "كلاسيكية بوالو" وهنا احتفاء خاص بكتابه "فن الشعر"

لايتباعد عن منحى محمد عثمان جلال في عملية التعريب، سواء في آلياتها أو جوانبها الوظيفية، مانشره من "قواعد في فن الشعر" نقلا عن بوالو وكان ذلك في مجلة "روضة المدارس المصرية" التي رأس تحريرها أستاذه رفاعة الطهطاوي في سنواتها الأولى، ثم تولى الإشراف عليها بعد وفاته سنة 1873 ابنه علي فهمي رفاعة مدرس الإنشاء بمدرسة الإدارة والألسن في ذلك الوقت. وقد نهض بأعباء التحرير في حياة والده إلى أن تولى المسئولية كاملة بعد وفاته في السنة الرابعة من صدور المجلة. وظل كذلك وإلى مابعد السنة السادسة التي نشر فيها ترجمة محمد عثمان جلال في العدد السابع الصادر يوم الخميس الخامس عشر من ربيع الآخرسنة 1292، مع تقديم له دلالته المهمة، كتبه علي فهمي فيما أحسب، وذلك لسبب بسيط مؤداه أن علي فهمي نفسه نشر في روضة المدارس المصرية، قبل سنة من نشر تعريب محمد عثمان جلال، دراسة بعنوان "نبذة في الشعر والموسيقى بقلم نظارة الروضة". وكان ذلك في العدد الخامس عشر من السنة الخامسة الصادر في يوم السبت 15 شعبان سنة 1291 هـ "1874 م " أي بعد وفاة رفاعة الطهطاوي بحوالي عام. ويبدأ علي فهمي هذه الدراسة التي يمكن أن نعدها من بدايات الوعي الأدبي المقارن بقوله الدال: " ما من أمة لها قوة على التصرف في المعاني إلا وفيها شعراء بلسانها". وهو قول يرد على متعصبي العصر الذين حسبوا فضيلة الشعر مقصورة على العرب الذين لاحاجة بهم إلى شعر غيرهم، كما لو كان أي شعر لغير العرب، حتى لو صح وجوده، لاقيمة له بالقياس إلى الشعر العربي الذي يعلو على كل شعر، ويتميز بلغته على كل لغة.

ويبدو أن حرص الرد على أمثال هؤلاء كان بعض دافع محمد عثمان جلال في الترجمة عن "فن الشعر" لبوالو. وفي الوقت نفسه، كان بعض دافع علي فهمي في الاحتفاء بهذه الترجمة، وتقديمه لها بقوله:

"من المعلوم لأرباب المعارف والعلوم أن لأهل أوربا توبعا بالعلوم الشعرية الأدبية، وليس ذلك مقصورا على خصوص اللغة العربية كما يتوهم ذلك النزر القليل من جماعة المتأدبين، فربما تساءلوا: هل لغير لغتنا هذه في هذه المعاني الدقيقة لفظ مبين فيجاب السائل بلا أو نعم، تبعا للمسئول إن وكان من الآدميين أو من النعم. وكما أنهم وصلوا في صناعة الشعر إلى مايتنافسون به مع غيرهم، فكذلك اشتهر كل شاعر عندهم بفن من فنون هذه الصناعة، فمنهم الهاجي القادح والمتغزل والمادح، وغير ذلك من الفنون التي لم تخل لغة من سرها المصون فمن ذلك أرجوة معربة بقلم نخبة الأفاضل صاحب الفضل الكامل والعرفان الشامل المتفنن المتقن حضرة محمد عثمان أفندي مترجم ديوان عموم الجهادية، مازالت نفائس تراجمه لرجالها أنفس هدية، وصاحب الأصل المنظوم هو الشاعر الفرنساوي المسمى بوالو الشاعر الشهير بملح شتى في التنديدات الهجائية".

تطبيع الشعر

وعبارات التقديم كاشفة في سخريتها من المتعصبين من جماعة المتأدبين الذين يضعهم التقديم في منزلة الأنعام لتصورهم اقتصار الشعر على لغتهم دون غيرها من اللغات. وبالقدر الذي تتولى المقدمة تطبيع العلوم الشعرية الأدبية لأهل أوربا في الأذهان العربية، مبرزة تنوع الشعر الأوربي وتباين فنونه وأنواعه التي لا تخلو لغة من سرها المصون، تذكر الأصل المنظوم الذي ترجمه محمد عثمان جلال بالفضل، وتعرف بصاحبه الذي تميز بما يسميه التقديم "التنديدات الهجائية" وهي ترجمة اجتهادية للهجائيات "جمع أهجية Satire" التي عرف بها بوالو منذ أن ظهرت الأهجية الأولى سنة 1674، مثلما عرف بمنظومات كتابه "فن الشعر" الذي صدر سنة 1674. وذلك تقديم يبين صراحة عن المرتبة التي وصل إليها الشعر الفرنسي في تميزه الذي يتنافس به. مع غيره من شعر الأمم المعروفة بالشعر، ويبين ضمنا عن الرغبة في تعرف ما لأهل أوربا بوجه عام من الإبداعات المشابهة والمخالفة، ومن ثم التنبه إلى ما اشتهر به كل شاعر أوربي بفن من فنون صناعة الشعر، سواء من منظور الأغراض والموضو عات أو منظور الأنواع والأجناس. وذلك سبب الإشارة المخصصة إلى الهجائيات "التنديدات" التي عرف بها بوالو كما عرف بما كتبه من أناشيد "مفرد نشيد Chante" أربعة ضمها كتابه الأشهر "فن الشعر".

والواقع أن ما فعله محمد عثمان جلال بأفكار بوالو في "فن الشعر" يستحق صفة تجاوز التعريب إلى إعادة الإنتاج، بل تجاوز إعادة الإنتاج إلى ماينسبها إلى حركة النقد الأدبي والإبداع الشعري لهذه الفترة. فأرجوزة محمد عثمان جلال إنتاج جديد، يتباعد عن الأصل الذي انحل في تقاليد نظمية مختلفة، واستحال إلى أرجوزة عربية خالصة من الأراجيز التعليمية المألوفة في الثقافة العربية. لاتختلف عن ألفية ابن مالك في النحو مثلا إلا بأنها تنظم "قواعد في فن الشعر" في مائة بيت وبيت. ولايمكن لمن يقرأها، ممن لايعرف أفكار بوالو أو صياغاته النظرية، أن يدرك نسبة هذه الأرجوزة إليه، أو حتى يتخيل أن "صاحب الأصل المنظوم هو الشاعر الفرنساوي المسمى بوالو، الشاعر الشهير بملح شتى في التنديدات الهجائية" فيما يقول علي فهمي رفاعة الذي تولى تقديم "هذه الأرجوزة الجليلة الوقع" التي "استصوب نظم دررها في سلك الطبع".

ويلفت الانتباه في تقديم علي فهمي، بالإضافة إلى ماسبق، ماينص عليه من أن هذه الأرجوزة هي القطعة الأولى في الموضوع، الأمر الذي قد يعود بالأرجوزة إلى النشيد الأول من الأناشيد الأربعة التي يتكون منها كتاب بوالو "فن الشعر"، أو إلى ما اختاره محمد عثمان جلال من أفكار قابلة للتعريب في هذا النشيد أو ذاك، أو إلى مايرد الأرجوزة على معنى المحاولة الأولى في صياغة قواعد الشعر بعامة صياغة تعليمية، يمكن الإفادة فيها بهذا الأصل الأجنبي أو ذاك، وأيا كان الأسر، فما يلفت الانتباه هو استحسان علي فهمي لنتيجة المحاولة الأولى.

طرائق التعريب

وأتصور أن الوعي بالاختلاف هو ما دفع علي فهمي إلى أن يضيف إلى استحسانه الأرجوزة المترجمة تأكيده أنه ليس هناك ما يمنع المترجم من أن يحلي الترجمة بشيء من إضافاته، أو "يعطل جيدها مما لاينكون للذوق العربي دخل في أبياته". وتلك عبارات تبين عن معرفة علي رفاعة بمحتويات أناشيد "فن الشعر" ومضمونه من ناحية، وتكشف عن عدم استهجانه التدخل في التعريب الذي تحول إلى إنتاج جديد للأصل من ناحية ثانية، ومن المؤكد أن علي فهمي في هذا الجانب، تحديدا، كان على دراية بطرائق التعريب التي استهلها والده رفاعة الطهطاوي، وعلى معرفة خاصة بالشروط التي فرضتها خصوصية الثقافة العربية على المترجم في موضوعات بعينها. وتلك شروط دفعت المترجم إلى اللجوء إلى نوع جذري من التحلية والتخلية في عملية التعريب الأولى قرينة الإضافة التي تدمج المنقول في الثقافة التي ينتقل إليها، وتذيب ما يتصل بالأدب الأجنبي في سياقات الأدب العربي، وذلك بإسقاط المحلي على غير المحلي، بعد تأويل الأخير إلى ما ينفي عنه طابعه الأجنبي، وذلك بواسطة المعطيات التي تعتمد عليها عملية التحلية. أما "التخلية" فهي الحذف الذي يستبعد من النص المنقول كل ما يخالف به أعراف الثقافة التي ينتقل إليها، من وجهة نظر المترجم المعرب بالطبع، فهي عملية تستبدل الأعلام والصفات والإشارات والمتناصات العربية بنظائرها أو مقابلاتها الأجنبية، وتضع محل الأمثلة الغريبة أمثلة مألوفة، وتسقط ذكر المعتقدات والأفكار التي تجافي الثقافة العربية، إلى آخر كل لا يدخل في آليات تعطيل جيد الأصل الأجنبي- لو استخدمنا مجاز علي فهمي- من كل ما هو لصيق بثقافته الأصلية، تمهيدا لعملية التحلية التي تترتب على عملية التخلية وتلازمها في آن.

وظني أن التحلية والتخلية عمليتان متداخلتان يصعب الفصل بينهما، في تجارب الآليات التي اعتمد عليها إلى أبعد حد محمد عثمان جلال في تعريب ما اختاره من "فن الشعر" لبوالو، وذلك في فعل التأويل الجذري الذي استحال به الأصل الفرنسي إلى نص جديد مغاير، اندمج كل الاندماج في تقاليد النظم العربي، واستجاب إلى الشروط المائزة للاساليب المعتمدة في الأراجيز التعليمية العربية، من غير أن يخالف الحالات المألوفة في مجال صناعة الشعر الذي ظل ديوان العرب الجامع لمفاخرها. والدليل البسيط على ذلك أن الأرجوزة تبدأ على النحو التالي:

لا تحسب المرء يكون ناظما ولا يعد في القوافي عالما
ولو يكون في القريض عده يعرف جذر بحره ومده
إلا إذا أوحي في القوافي إليه بالمعنى الرقيق الشافي

وتلك بداية تدخل قارئ الأرجوزة إلى الأجواء النظمية الخاصة بنهاية الربع الثالث من القرن التاسع عشر، حين كان القراء على ألفة بما يكتبه أمثال بطرس البستاني "1819-1883" وشهاب الدين بن إسماعيل "1853-1857" صاحب "سفينة الملك ونفيسة الفلك" والشهاب الألوسي "1802- 1854" فضلا عن كتابات رفاعة الطهطاري وأحمد فارس الشدياق "1804-1887" صاحب "الساق على الساق فيما هو الفارياق".

وإذا وصلنا المفتتح ببقية الأرجوزة التي تنتهي بمديح الخديو إسماعيل "1830- 1895" حاكم مصر "1863- 1879" المهتدي إلى الفخار بالعمل، ومديح ناظر المعارف العمومية ومستشاره، عدنا إلى تقاليد الأراجيز المهداة إلى أولياء النعم طلبا للتأييد أو المثوبة. وكلا الأمرين كان مطلوبا في حالة محمد عثمان جلال الذي توجه بكتابه "العيون اليواقظ" إلى الخديو عباس باشا الأول الذي تولى حكم مصر سنة 1849، بواسطة مصطفى فاضل باشا، فرمى عباس المعروف بعدائه للثقافة العربية الكتاب في وجه حامله، الأمر الذي اضطر معه محمد عثمان جلال الذي أنفق كل مايملك على طبع الكتاب إلى بيع حماره وبقية أملاكه، وظل بعيدا عن الرعاية والمثوبة، إلى أن جاء عصر الخديو إسماعل باشا بوعود جديدة سنة 1863، منها إنشاء مجلة "روضة المدارس" سنة 1870 باقتراح من علي مبارك ناظر المعارف العمومية الذي عهد بنظارة المجلة الجديدة إلى رفاعة الطهطاوي أستاذ محمد عثمان جلال ورائد حركة الترجمة والتعريب في الديار المصرية والعربية، منذ أن أنشأ مدرسة الألسن سنة 1836.

أكتر من طريقة

يمكن لأرجوزة محمد عثمان جلال "قواعد في فن الشعر" أن تقرأ بأكثر من طريقة في هذا السياق، إما بوصفها نصا مترجما أو معربا، من منظور الأدب المقارن الذي يقارن بين النص الأصلي في اللغة المنقول عنها وناتج تعريبه في اللغة المنقول إليها، وإما بوصفها فعلا من أفعال التأويل الجذري، من منظور مذاهب التفسير "الهرمنيوطيقا" التي لاتتباعد كثيرا عن المنظور الأول بل تكمله وتضيف إليه مايكشف عن آليات الفهم والاستيعاب والإسقاط والتوظيف التي استحال بها النص الأجنبي إلى نص محلي. ولكن الأرجوزة يمكن أن تقرأ من منظور مغاير، لايقل- إن لم يكن أكثر- أهمية، بوصفها عملا متميزا في إشارته المزدوجة إلى الثقافة التي تولد فيها وتشكل بها. أعني من حيث دلالة الأرجوزة على واقع الشعر العربي الذي انتسبت إليه نظما زمن صياغتها، محققة بعض طموحات محمد عثمان جلال الناظم أو الشاعر الذي حلم بالوصول إلى منزلة شعرية عالية في عصره. والدلالة التي تحسب أرجوزة محمد عثمان جلال على مانظمه من أمثال هؤلاء من قصائد وأراجيز هي نفسها التي تحسب الأرجوزة على سياق الحركة النقدية والبلاغية للزمن نفسه، من حيث البواكير الواعدة بقيم جديدة تسهم في تحقيق نهضة ثقافية. وتلك هي البواكير التي رعاها إلى جانب محمد عثمان جلال أمثال الشيخ حسين المرصفي "1815- 1890" صاحب "الوسيلة الأدبية" التي نشرت على حلقات في "روضة المدارس"، شأنها شأن كتاب محمد سعيد "ارتياد السعر في انتقاد الشعر" الذي نشرته الروضة في السنة التالية لنشر أرجوزة محمد عثمان جلال "قواعد في فن الشعر". وكان ذلك قبل سنوات وسنوات من نشر كتاب جبر ضومط "1859- 1930" عن "فلسفة البلاغة" 1898 وقبل سنوات وسنوات من الموجات المتأخرة التي أنتجت في العقد الأول من هذا القرن كتاب محمد روحي الخالدي " 1864- 1930" عن "علم الأدب بين الإفرنج والعرب " 1904 والجزء الأول من كتاب قسطاكي الحمصي "1858- 1941" عن "منهل الوراد في علم الانتقاد" 1907. وتلك هي الموجات التي ترتبت على اتساع حركة الوعي المقارن التي تصاعدت نتيجة الرغبة المتزايدة في معرفة "الآخر" الأجنبي، ذلك الذي انطوى حضوره على معنى النقيض الواقع والشبيه الممكن، في آليات النهضة التي توسلت بالميراث الزاهر للأمة العربية ضمن حوارها مع ذلك "الآخر" الذي أغواها بعلومه وفنونه الجديدة، حتى من قبل أن يحتلها بجيوشه التي كانت مواجهتها التحدي الأول في تحديات النهضة

 

جابر عصفور