قنوت الضارع المحب

قنوت الضارع المحب

في العام 1957 توجه نفر كريم ممن أتموا دراستهم الثانوية في المعهد الديني إلى الشقيقة مصر, وكان ضمن ما يحملونه معهم توصية من أستاذ لهم كبير لعلها تعينهم في غربتهم وتساعدهم في دراستهم الجديدة في دار العلوم حيث انتهى بهم المطاف.

ولم تكن تلك التوصية تحمل معها سوى اسم لأستاذ وعالم جليل لم يكونوا قد سمعوا به شأن كثيرين غيرهم. كان بيته مقصدا لأساتذة وأدباء وشعراء وساسة وطلاب علم من أنحاء العالم الإسلامي المتراحب. ولم يكن أستاذهم السيد صقر صاحب التوصية يعلم بأن توصيته هذه سوف تفتح لهم بابا واسعا من العلم والثقافة وأنها ستكون بداية لعلاقة أبوية متميزة. ولم يكن يدرك أن توصيته ستجعل العلاقة بين هذا العالم الجليل وطلابه الجدد نموذجا للعلاقة الأبوية والأسرية الحميمة بكل ما تعني كلمة أسرية من روابط ووشائج وكل ما يترتب من سلوك ومشاعر بين الوالد وأبنائه أكثر مما هي بين الأستاذ وتلاميذه. ولم يدر بخلد الأستاذ السيد صقر أن العالم الجليل الأستاذ محمود شاكر رحمه الله سيتعلق بهذا النفر الطيب القادم من الكويت كما تعلقوا به هم حتى آخر لحظة من حياته.

فترة زمنية انقضت منذ أن تعرف هذا النفر الكريم أستاذهم الجليل, توثقت به معرفتهم فشبوا في كنف هذا العالم الكبير, أحبهم فأحبوه واتخذ منهم أبناء كما اتخذوه لهم أبا يشتد به الشوق إليهم حين يفارقونه وتقر بهم عينه حين يعودون إليه. ولم تقتصر معرفة الأستاذ محمود شاكر على هذا العدد القليل الذي أخذ يؤم بيته, بل كان هذا العدد يزداد بمرور الأيام, لم يقتصر على دارسي الأدب واللغة والشريعة وما في معناها, بل شمل أيضا بعض الكويتيين من دارسي الطب والقانون والتجارة وغيرها.

ولكن المفاجأة التي أخذت طلاب العلم الكويتيين أنهم لم يجدوا في محمود شاكر كما تخيلوا أستاذا يشرح لهم ما غمض عليهم شرحه من أسرار اللغة والشعر والحديث, كما كانوا يتصورون حين التقوه أول مرة, بل وجدوا فيه شيئا مختلفا حتى عن أساتذتهم الذين تلقوا العلم على أيديهم خلال رحلتهم العلمية وحياتهم الجامعية. وجدوا أنفسهم أمام عالم لايشق له غبار وأستاذ يعلمهم خلق العلم قبل ومع العلم نفسه, ويعلم مناهج الفكر وأساليب الدراسة, وفي خلاصة مركزة وجدوا عالما لايرضى بغير الإتقان في كل ما يتصدى له الإنسان من علم وعمل, فنهلوا العلم من مصادره بعد أن فتح لهم الأستاذ شاكر مسالكه ودروبه ودلهم على المنهج العلمي السليم الذي اختطه لنفسه ولم يحد عنه قيد أنملة. ومع العلم الذين نهلوا منه على يديه, كان الحنو الذي شملهم والقلب الذي احتواهم, فأذهب عنهم مخاوف الغربة, ويوما بعد يوم زادت المشاعر الحميمية الخاصة بين الشيخ وطلابه وزادت صلاتهم بقصاد هذا البيت من رجال الفكر والأدب والسياسة في مصر وسواها, وصار بيته دوحة علم وروضة فكر وحديقة أدب كانوا فيه كالنحل يمتصون الرحيق ويقطفون الثمار فتوسعت مداركهم ونمت معارفهم وازدهرت علاقتهم بعلماء العروبة والإسلام. وتمر السنون ويتخرج هذا النفر الكريم من الجامعات المصرية ولكنهم ظلوا تلاميذ وأبناء أوفياء مخلصين لأستاذهم الذي أنار لهم طريق المعرفة.

ولم ينته دور الأستاذ محمود شاكر, بل ازداد مع مرور الزمن, وظل بيته قبلة كل طالب علم, خاصة أولئك القادمين من الكويت والذين جاءوا من خلال ما سمعوا عن الأستاذ محمود شاكر وحبه وتعلقه بالكويتيين وبما كان ينقله السلف إلى الخلف نتيجة تلك العلاقة الحميمة التي بدأت بذلك النفر الكريم من الكويتيين كما تخطت العلاقة بين هؤلاء الطلاب وأولئك الأبناء وبين أستاذهم الكبير فلم يكونوا يقصدونه لطلب العلم على يديه فحسب بل أصبحت زيارتهم له نوعا من صلة الرحم, فكانت صلتهم به قوية ممتدة لم تشغلهم عنه أعمالهم ولا وظائفهم الجديدة بل زادتهم إليه قربا فإذا ما اشتد به الحنين وتعذر حضورهم إليه شد إليهم رحاله. والذين شغلتهم أعمالهم وواجباتهم واستغرقتهم وظائفهم فلا يكادون يلتقون إلا لماما, حين يكون الأستاذ محمود شاكر في الكويت, فحوله يعود الجميع ويتم اللقاء ويتناول الإخوة نظرات العتاب الخجول مما تفعل بهم زحمة الحياة بتباعد غير مقصود ولكنهم حول شيخهم بل والدهم الروحي يجتمعون من جديد وتتجدد الذكريات وتتجدد علاقات ـ بعض من لم يدرسوا في مصر ـ بالشيخ سنة إخوانهم من قبل لتتسع دائرة الأسرة العلمية التي يحل في مركزها محمود شاكر فلا يحل عليهم ضيفا بل يكون واحدا منهم قلوبهم له مفتوحة قبل بيوتهم ينتظرون قدومه بفارغ صبر كما يتألمون لفراقه. وكانت المدة التي يقضيها في الكويت تجمع عارفيه على مرور السنين الطوال, وظلت هذه العلاقة الطيبة على هذا المنوال منذ التقى هذا النفر الكريم الأستاذ شاكر وهم طلبة يدرجون في معاهد العلم حتى بعد تخرجهم يزورونه فيأنس بهم ويزورهم فيسعدون به, جمع بينهم الوفاء وكيف لا? وقد جاءوا إليه وهم لايعرفونه ولايعرفهم فأحبهم وأحبوه منذ اللقاء الأول وأصبح حبهم له وراثة نقلوها إلى أولادهم. وقد كان لهذا النفر الفضل الأول في محبة الأستاذ شاكر للكويت والكويتيين فهفت إليها نفسه من شدة تعلقه. وعندما احتل النظام العراقي الكويت تأثر الأستاذ شاكر تأثرا كبيرا وكان بيته كالعادة مليئا بزائريه ولم يسكت لسانه قط طوال مدة الغزو من بيان ما تنطوي عليه المغامرة "الصدامية" من تقطيع أوصال الأمة وفتح باب للفتنة لا يعلم إلا الله متى ينغلق. وفي بيت الأستاذ شاكر حين تقام الصلاة ويؤم الحاضرين كان يقنت في الفروض كلها ألوانا من القنوت الضارع الخالص المتفجر بالحب والوفاء والإشراق أن يزيل الله هذه الغمة حتى استجاب الله لدعائه كما استجاب لدعاء الكثيرين من المؤمنين الصابرين. وقبل وفاته بعدة أشهر أدخل مستشفى خاصا سعى تلامذته عند صاحب السمو الأمير, كي تقوم الكويت بتحمل نفقات علاج هذا العالم الكبير, كما هي عادته في الحفاوة بأهل العلم وإكرامهم وتكريمهم, وللصلة الخاصة بين هذا العالم الجليل وبين الكويت والكويتيين, فما كان من صاحب السمو الأمير ـ جزاه الله خيرا ـ إلا أن تكفل بعلاجه على نفقته الخاصة كي يرد لهذا العالم الجليل بعضا من جميله على أبناء وطنه من الكويتيين. وعندما اتصلنا بالأستاذ شاكر نخبره بأن صاحب السمو الأمير قد تكفل بعلاجه فاضت بالدموع عيناه, تأثرا بلمسة الوفاء, وفرحا بصدق الإخاء, وبيانا لصادق حدسه أن أهل الكويت ـ وعلى رأسهم صاحب السمو الأمير ـ كما عهدهم لاينسون المعروف وأهله, فجزى الله شيخنا الأمير عنا خير الجزاء.

 

جاسم المطوع

 
  




مع الأستاذ جاسم المطوع