لم يكف عن خوض المعارك

لم يكف عن خوض المعارك

إن كنتَ لستَ معي فالذكرُ منك معي يراك قلبي وإن غيبت عن بصري
العينُ تبصر من تهوى وتفقده وناظر القلب لا يخلو من النظرِ

بهذين البيتين تمثل المرحوم الأستاذ محمود محمد شاكر في المقدمة التي كتبها لكتاب "حياة الرافعي" تأليف محمد سعيد العريان, هذا الكتاب الذي نشره مؤلفه بعد وفاة الرافعي في 1937, في مجلة الرسالة, ثم طبعه في أوائل الأربعينيات, وأتمثل أنا اليوم بهذين البيتين في وداعه. وفي القريب سوف أودع أنا هذه الدنيا, فالفجوة الزمنية بين رحيل مصطفى صادق الرافعي رحيل محمود محمد شاكر فجوة واسعة, ولن تكون بأي حال, ما بيني وبين أبي فهر, مثلها.

فقد قصمت السبعون ظهري, وزحفت الشيخوخة بكل أمراضها عليّ, ورأيتُ أحبابي كيف يتساقطون أمامي كأوراق الخريف. وما أحسن قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "إذا كنت في إدبار والموتُ في إقبال فما أسرع الملتقىَ".

عرفت محمود شاكر عن طريق مجلة الرسالة, هذه المجلة التي كانت تُشرق وتُغرب في الوطن العربي, وكان كتابها معروفين في كل مكان. وقد قرأت جميع ما كتبه في الرسالة, منذ صدورها, فوجدت أن له أسلوبا متميزا بين أساليب أهل زمانه, وكان هو من مدرسة الرافعي, وإنه يترسم خُطى أستاذه في البلاغة وفي الأفكار, لكنه يتفوق عليه في أسلوبه المشرق الذي لا يجاريه فيه أحد, وهناك من يكون صاحب أسلوب مميز, ولكنك تمله في بعض الأحيان, ولكن محمود محمد شاكر, يظل يسامرك بذلك الأسلوب حتى نهاية المطاف, وحتى في معاركه الأدبية العنيفة التي كان أشهرها معركة "الرافعي" في الرسالة, كما اتفق على تسميتها الأطراف المشاركة فيها, وهم محمد سعيد العريان وسيد قطب ومحمود محمد شاكر في عام 8391, وكان الرافعي قد رحل عن الدنيا قبل عام من تلك المعركة.

وهناك معركة فكرية دارت بينه وبين الدكتور محمد رجب البيومي, في مجلة الرسالة أيضا عام 1952 حول كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام", تأليف سيد قطب, أقول حتى في معاركه الأدبية, كنت لا تمله وهو يصول ويجول بذلك الأسلوب المتميز المشرق.

وهناك أيضا معركة لطيفة خفيفة الظل, دارت بينه وبين الأديب العراقي صبحي البصام في سنة 1946 في مجلة الرسالة أيضاً, محورها تحية الإسلام, فالبصام كتب مخطئا "السلام عليكم" في صدر الديباجة, ويراها "سلام عليكم" وقد رد شاكر ورد البصام ورد بعد ذلك شاكر, وقد كانت التحيتان صحيحتين تماما لا غبار عليهما. وقد استفاد القراء من تلك الشواهد الكثيرة التي جاء بها الأديبان الراحلان.

كنت إذن قد عرفت أديبنا الكبير حق المعرفة في الرسالة, وأنني مازلتُ أقول: إن من أراد معرفة شاكر فعليه بمقالاته الكثيرة التي كان يكتبها في الرسالة وفي غيرها من المجلات, هذه المقالات التي لايزال أكثرها متوارياً خلف حجاب.

وقد قابلت الفقيد لأول مرة, في أواخر عام 1955 عندما زرت القاهرة لأول مرة, في بيته في مصر الجديدة, في شارع حسين المرصفي, وكان رفيقي في تلك الزيارة الأستاذ محمد أحمد صقر شقيق المرحوم الأديب المحقق السيد أحمد صقر, وكنت طيلة السهرة أذكره بما كتبت هنا وهناك حتى قال لجلسائه "حافظين كل حاجة".

وكان كريما كعادته في الضيافة, ولم يخفف من غلواء برد الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر سوى أكواب السحلب الساخنة, التي كانت توزع علينا بين الحين والحين. وقد قيل "إن الحديث من القِرىَ" وقال الشاعر:

بشاشة وجه المرء تغني عن القرى فكيف إذا كان القرى وهو باسم

وعند وداعنا ـ رفيقي وأنا ـ نزل من العمارة في ذلك الجو البارد, وظل يمشي معنا حتى وصلنا إلى موقف الحافلات في مصر الجديدة.

وقابلته بعد ذلك مرتين في بيته في القاهرة, في زيارتين إلى مصر: الأولى في 1956 والثانية في 1958.. وفي الزيارتين كان مجلسه حاشدا بطلاب العلم من أكثر البلاد العربية, وهو يلقي عليهم دروسه في الأدب والنقد والتحقيق.

وغادرت الشرق في 1958 إلى أوربا مدة أربع سنوات, ثم إلى تونس مدة أربعة عشر عاما.. وعدت إلى الكويت في عام 1976 حيث قابلته عندما زار الكويت في بيت الأخ الشاعر الأديب محمد صالح الإبراهيم, وتوفي والدي في تلك الأيام, في شهر مايو 1976, فكان هو أول المشاركين في العزاء. ثم زار الكويت في منتصف الثمانينيات, وكنت أعمل في جريدة الرأي العام, فاتصل بي عن طريق الهاتف وكان يقيم في أحد فنادق الكويت, وقال لزواره "إنني أحب "فلانا" وهو يحبني" وكان فيهم نخبة من الأدباء والشعراء, كما فهمت بعد ذلك من أحد الحضور وهو الدبلوماسي الكويتي الأخ يعقوب البكر. وزار الكويت بعد ذلك مرتين الأولى في 9891, والثانية بعد تحرير الكويت, وقد التقيته به, في كلتا الزيارتين.

إن هذه الكلمات القليلة لا تظهر كل ما يَعْمُر نفسي من حب وتقدير لهذا الأديب الكبير, الذي لو سار في طريق الأدب, كما تمنى له أصدقاؤه في كل مكان, بعد كتابه الأول عن أبي الطيب المتنبي في عام 1936, لكان يصف اليوم في صف واحد مع عباس محمود العقاد, وطه حسين وغيرهما في الشهرة, ولكانت مؤلفاته تنافس مؤلفاتهما, ولكنه لأسباب ذكر هو بعضها في كتاباته وذكر النقاد بعضها, اختلف الأمر.

وقبل أن أضع القلم لابد لي من ذكر قصيدة قُلتها في حقه بعد أن أخذ ينشر أحاديثه المشهورة بـ "الأسمار" في مجلة الرسالة, بعد معاودتها الصدور بفضل وزارة الثقافة المصرية, وبعد أن توقفت عشر سنوات عن الصدور منذ سنة 1953, وعند عودتها في عام 1964 كان رئيس تحريرها هو الأستاذ أحمد حسن الزيات نفسه, وقد بقيت هذه القصيدة بعيدة عن الأضواء حتى نشرت في مجلة العربي في شهر أبريل عام 1981 في العدد 296, بمناسبة بلوغ الأستاذ محمود محمد شاكر السبعين من العمر, وعنوانها:

"يا ساهر الليل" وها هي القصيدة:

وما تردد في جنبيك من ألمٍ أحسهُ ملء أعماقي ووجداني
إن الحقيقة في الآفاق ضائعةٌ وسوف ندركها في كل ميدانِ
وللحقيقة حبٌ لا يعادلهُ في القلب غير هوى الفصحى وأوطانِ
فاجلُ اليراعة يا محمود من صدأ قد كاد يودي بنبراسٍ وتبيانِ
فإننا اليوم في بشرٍ وفي فرحٍ لعودة النسرِ في عزٍ وسلطانِ
النسرُ في القمم الشمَّاءِ موطِنهُ وأنت والنسَّر في العلياءِ صنوان
فواصل البحثَ إنا ظامئونَ إلى بيانِكَ المُتجليِّ منذُ أزمانِ
والله يُبقيك للإسلام مفخرةً وللعروبة نعمَ المصلحُ الباني

 

 

فاضل خلف

 
 




من كتاباته





من كتاباته