فكر سديد.. ورأي رشيد

فكر سديد.. ورأي رشيد

تعرفنا على أستاذنا وشيخنا ووالدنا العالم الأديب الشاعر الكاتب المحقق اللغوي أبو فهر محمود محمد شاكر قبل أربعين سنة وكان ذلك في سنة 1957 بعد ذهابنا للدراسة بمصر, فقد كنا طلابا بمعهد الكويت الديني وكان أستاذنا العالم الأديب أحمد صقر رحمة الله عليه يدرسنا الأدب العربي بمختلف ألوانه وأشكاله وعصوره من شعر ونثر وكان يشجعنا على قراءة كتب الأدب ودواوين الشعر وأمهات الكتب العربية, ففي نهاية العام الدراسي 55/56 أنهينا الشهادة الثانوية وسافرنا إلى مصر في شهر أغسطس 1956 وقضينا عاما دراسيا شهدنا خلاله حرب السويس في مصر 56/57 إلا أن صلتنا وعلاقتنا بأستاذنا أحمد صقر كانت مستمرة وعلى اتصال معه, وفي العطلة الصيفية من شهر أغسطس 1957, وقد أبلغنا أنه سيعرفنا بشخصية عظيمة لها باع طويل في عالم الشعر والأدب والكتابة واللغة, وتم الاتفاق أن نلتقي يوم الخميس من آخر أسبوع من شهر أغسطس 57 للذهاب لزيارة الأستاذ محمود محمد شاكر بمنزله بضاحية مصر الجديدة. لقد كنا في شوق شديد لرؤية هذا الإنسان العظيم ذي الفكر السديد والرأي الرشيد وكان هو أكثر منا اشتياقا لرؤيتنا. لقد كان شديد الحرص على المواعيد وكان همنا أن نلتزم بالموعد ولا نتأخر دقائق أو لحظات, وبالفعل رأيناه واقفا ينظر إلى الشارع من الشرفة المطلة عليه. كنا أربعة من شباب الكويت الراغبين بزيارة الأستاذ محمود محمد شاكر: المستشار عبد الله علي العيسى وصالح عثمان عبد اللطيف العثمان ويعقوب يوسف الغنيم وجمعة محمد الياسين. وما إن دلفنا إلى شقته حتى أصابتنا البهتة لاحتوائها على رفوف الكتب, بحيث لاتجد مكانا في الشقة دون خزانة ممتلئة بالكتب. إنها دار كتب تحتوي على جمهرة المعارف وثروة عظيمة ذات قيمة لاتقدر بثمن تضم جميع المراجع والمصادر والكتب القيمة من كتب للفقه والحديث والتفسير والأدب والتاريخ والشعر. إن الحصر الذي قمت به لمكتبته بعد أن توطدت العلاقة وأصبحنا ندخل بيته كأقرب المقربين له وأحب الناس إليه تعد عشرات الآلاف وكان يغمرنا بالعطف والحنان والأبوة فلم يكن في ذلك الوقت قد تزوج وكنا بمنزلة الأبناء حقا, وتوطدت علاقة الأبوة بيننا إلى درجة أنه أصبح يقلق كثيرا ويتألم عندما يتعرض أي واحد منا لألم أو مضايقة أو ماشابه ذلك. إذن محمود محمد شاكر من الرجال الذين يعتز الإنسان بمعرفتهم فهو كنز ثمين جمع الكثير من الصفات والسجايا والمزايا التي يندر وجودها في كثير من خلق الله الذين رأينا وخالطنا, جمع الوفاء والصفاء والولاء والعطاء والإخلاص والاهتمام وعلمنا كيف أن على الإنسان أن يتقن العمل الذي هو فن من فنون الحياة ونبراس لكل حي على هذه البسيطة, فلو سأل كل حي كيف تعلم? ومن الذي علمك وهداك? ومن الإمام الذي سن لك الطريق? وبأي عبقرية يأتي إبداعك? ولم كان عملك نسقا منقادا لايتغير? وكيف كانت مهارتك تراثا مؤبدا لايتبدل? وحذقك طبعا راسخا لايتحول? ولم صارت سنة الأوائل منكم لزاما على الأواخر? ومنهاج الغابرين شركا للوارثين? تعلمت منه هذه المعاني الجمة واتخذتها أسلوبا في حياتي وكان عوني في ذلك وسندي في إدارتي لمدرسة عبد الله السالم الثانوية عندما كنت ناظرا لها وأرشدني إلى قولة الحق ولو كلفتني منصباً ومركزاً وجاهاً ودعاني إلى التضحية والفداء والعفو حتى لو كان الإيذاء من الأعداء فضلا عن الأصدقاء لأن البقاء للأصلح وأوصاني أن أمتثل لأمر الله في كل شاردة, ومحمود محمد شاكر الذي أحبه الكويتيون وأحب الكويت بالكويتيين كانت معرفته كنزاً ثميناً يعتز به ذلك الإنسان الذي ارتبط بشخص له من السمات والصفات التي تجعله بمصاف الرجولة من الوفاء والولاء والإخلاص والاهتمام, ورجل مثل محمود محمد شاكر لمن عاشره وخالطه وغشي مجلسه واستمع لآرائه وأفكاره ونهل مما يحمل من العلم الواسع والعراقة في فهم معاني اللغة وربطها بالشعر والأدب والتاريخ يعد جمهرة معارف متنقلة تستطيع أن تغرف بسهولة ويسر مما يحمل في فكره من أراء وتوجهات مبينة كما قال في كتابه (أباطيل وأسمار ص 500) (هو الدفاع عن كيان أمة برمتها هي أمتي العربية الإسلامية, وجعلت طريقي أن أهتك الأستار المسدلة التي عمل من ورائها رجال فيما خلا من الزمان ورجال آخرون قد ورثوهم في زماننا, وهمهم جميعا أن يحققوا للثقافة الغربية الوثنية كل الغلبة على عقولنا وعلى مجتمعنا وعلى حياتنا وعلى ثقافتنا, وبهذه الغلبة يتم انهيار الكيان العظيم الذي بناه آباؤنا في قرون متطاولة, وصححوا فساد الحياة البشرية في نواحيها الإنسانية والأدبية والأخلاقية والعملية والفكرية, وردها إلى طريق مستقيم علم ذلك من علمه وجهله من جهله).

ومحمود محمد شاكر الذي عرفته وخبرته وجالسته وأحبه الكويتيون وأحب الكوبت وأهل الكويت, قد خرج من الفتن التي لفت كثرة الشعراء والأدباء والتقمتهم فمضغتهم فطحنتهم ثم لفظتهم, فهو من الكتاب والأدباء والشعراء الذين تتخذ حياتهم ميزانا لأعمالهم وآثارهم ومن خلال ملازمتنا له طوال أربعين سنة وجدناه كريم المحتد عزيز النفس حسن المعشر, سخيا جوادا لايبخل على أي إنسان ينشد العون والمساعدة فلا يمل حديثه ولا يسأم الإنسان من الاستماع إليه. ومن شغف بالعلم وثابر وصابر شيخنا أبا فهر محمود محمد شاكر وجده كريما بلا حدود جوادا معطاء إنه لايرد من يفد إليه محتاجا أو مسترشدا أو ناصحا. وهيأ الله له زوجا كانت من خيرة النساء كرما وأخلاقا ومرءوة فساعدت في فتح بيته لطلاب العلم من مختلف البلدان. وهيئ لنا أن نلتقي في مجلسه يوم الجمعة من كل أسبوع بعد صلاة المغرب شخصيات عربية وإسلامية

لقد حضر وأسرته الكريمة إلى الكويت قاصدا حج البيت الحرام وكنت يومها ناظرا لثانوية عبد الله السالم قد أعددنا لأداء فريضة الحج للمدرسين والطلاب والإدارة, فصحبته معي برحلة الحج المباركة, وكان لزميلنا حمود حمد الرومي الفضل الكبير في أن نقوم بخدمة ورعاية أستاذنا لأداء فريضة الحج وبعد عودته من الحج استضفناه بمنزلنا بالروضة أكثر من ثلاثة أشهر وعائلته المكونة من زوجه السيدة نعيمة الكفراوي وولده فهر وابنته زلفى وصديقة لهم كانت بصحبتهم السيدة عايدة محمد الشريف, وكان مقامه بالكويت ملتقى رجال الفكر والأدب والشعر وقد صدق الأستاذ محمد عبد الخالق عظيمة عندما قال:(وعلم الله ماذهبت لزيارته في يوم إلا وجدت منزله حافلا بكثير من أهل الفضل ورجال الأدب من مصر ومن البلاد العربية وقلما رأيت كتابا أدبيا أو ديوان شعر حققه بعض الأدباء في البلاد العربية إلا وجدت الإشادة بفضل الأستاذ محمود محمد شاكر وتوجيهاته وما أفادوه من نوادر مكتبته) (ص454 ـ دراسات عربية وإسلامية). وأبوفهر عندما أقام بالكويت المدة التي أشرت إليها كان مجلسه كما وصفه الأستاذ عظيمة فهو في الكويت كما هو في مصر بل لما كنت معه في الحج وأدينا فريضة الحج ذهبنا إلى المدينة المنورة وكانت تحفه النخبة من رجال الفكر والأدب في المملكة العربية السعودية وليس هنا مجال الحديث عن رحلتنا إلى البلاد المقدسة بالمملكة العربية السعودية حيث كانت الوفادة والضيافة, ومن ضمن اللقاءات الأدبية تلك الأمسية التي أقامتها رابطة الأدباء بالكويت وحضرها لفيف من رجال الفكر والأدب في الكويت واجتمع على أرض الكويت فارسان للكلمة شعرا وبيانا يشهد لهما الزمن هما محمود محمد شاكر والشاعر محمود حسن إسماعيل حيث كان الأول في زيارة للكويت والشاعر كان يعمل مستشارا بوزارة التربية, أما حب محمود محمد شاكر للكويت وأهل الكويت وشعب الكويت فقد تجلى بحق أثناء فترة الاحتلال العراقي للكويت فقد كنت بمصر طوال سبعة شهور الاحتلال وكنت أشهد صلاة المغرب بمنزله وهو يؤمنا للصلاة وبعد الانتهاء من الصلاة إذا به يتوجه إلى البارئ عز وجل بهذا الدعاء (اللهم بعزتك وجلالك وقدرتك نج أمتك من المهالك, اللهم لاتسلط الباغين المعتدين من حزب البعث الكافر على رقاب عبادك الموحدين, اللهم لاحول ولا قوة لأهل الكويت إلا بحولك وقوتك, اللهم رد كيدهم في نحورهم ولاتمكنهم من السيطرة على أهل الكويت, اللهم عجل بكشف الغمة وأزل بقوتك التي لاتقهر الطغاة الفجرة الكفرة عن أرض الكويت, اللهم احم أعراضهم وآمن روعاتهم ونفس عنهم كربتهم يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين).

وقد استمر بهذا الدعاء طوال فترة الاحتلال وأصبح شغله الشاغل متابعة الأخبار ولم يعد يفكر في شيء سوى تخليص الكويت من الزمرة الحاقدة, وأصبح الراديو لايفارقه أبدا طوال الليل والنهار, وكل من ينظر إليه يشفق عليه من شدة الألم والحزن والتفكير. لقد تصور وتخيل أن فلذات كبده وأبناءه الذين فضلوا البقاء في الكويت سوف يبطش بهم الغازي العراقي وينكل بهم ويمثل بجثثهم. لقد سيطر الرعب والخوف عليه بصورة لاتتصور, وبرغم أنه عاش الحربين العالميتين الأولى والثانية وحرب فلسطين وحرب السويس 6591 وحرب 76 فإنه لم يقلق ولم يتألم ولم يجزع كما حدث عندما غزا العراق للكويت, لقد كان مخلصا في حبه, وفيا لمبادئه, حريصا على أبنائه, عطوفا على أولاده, لذلك أحبه الكويتيون.

 

جمعة الياسين

 
  




في بيت الأستاذ جمعة الياسين





في رابطة الأدباء