أرقام

 

عالمنا المجهول

من المفارقات والغرائب أن يعرف الإنسان شيئا عن العالم الخارجي, وما يجري في الفضاء والكواكب الأخرى, ثم يجهل عالمه الذي يعيش فيه!

ومن المفارقات أن تتقدم المعارف ويجتاز الإنسان عصور الاكتشافات الكبرى, ثم يجتاز ثورة علمية تزيد فرصة المعرفة وانتقالها وتداولها, ثم يبقى في عالمنا الكثير من المجهول.وقد حاولت المنظمات الدولية طوال خمسين عاما مضت أن ترصد المعلومات الأساسية عن عالمنا, وخرجت أدبيات الأمم المتحدة والبنك الدولي والمنظمات المتخصصة كمنظمة الأغذية والزراعة ومنظمة الطفولة وغيرها, لتجيب عن سؤال رئيسي: ما هو واقع العالم الذي نعيش فيه? الجغرافيا ثابتة عدا الحدود السياسية, السكان تتغير أحوالهم, والأحوال الاقتصادية والاجتماعية بين مد وجزر.المحاولات كثيرة, والعالم يتحدث عن عصر "الإنترنت" والحاسب الآلي والأقمار الصناعية. إنه عصر تدفق المعلومات ومع ذلك يبقى من المجهول الكثير, ويبقى كل يوم وافد جديد إلى عالم الظل الذي تغيب فيه المعرفة!

اقتصادات أخرى!

لقد عني البنك الدولي ـ على سبيل المثال ـ برصد المؤشرات الاقتصادية للعالم, وامتدت يده لبعض المؤشرات ذات البعد الاجتماعي واعتبر الاثنان "الاقتصاد والمجتمع" منظومة واحدة ينبغي النظر إليها معا.

أصدر البنك ـ وحتى منتصف 1997 ـ عشرين تقريرا سنويا تحت عنوان "التنمية في العالم".

وقد زادت كمية المعرفة عاما بعد آخر فبالمقارنة بين تقريري 1984 و1997, نجد أن الأول رصد أحوال 118 اقتصادا أي 118 بلدا, بينما امتدت يد الأخير إلى 133 اقتصاداً.

ولكن وكما أن المعرفة قد زادت فإن الجهل بالواقع قد زاد أيضا!

زادت المعرفة بدول الاتحاد السوفييتي السابق والتي كان الكثير من أحوالها مغلقا أمام العالم الخارجي, وقلت المعرفة بدول أخرى يبلغ تعداد إحداها وهي جمهورية إيران الإسلامية 64 مليون نسمة!

في عام 83 كان المجهول من الاقتصادات مضافا له اقتصادات بلدان يقل تعدادها عن المليون نسمة 73 بلدا.

وفي عام 97 أصبح الرقم 76 كيانا بعضها يرفع علم الاستقلال وبعدها يجري إلحاقه بدول عظمى مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.

ولأن رجال الاقتصاد يتحفظون في العادة فإنهم يفصلون بين المعلوم والمجهول, بين كيانات ذات ثقل سكاني وكيانات يقل تعدادها عن المليون, ومن هنا جاء الحديث عن دائرة المجهول تحت عنوان "مؤشرات أساسية عن الاقتصادات الأخرى", أي التي لم تشملها الدراسة الأصلية.وتحت اسم "الأخرى" يأتي 46 بلدا تحت المليون, و14بلدا لايوجد حصر لعدد سكانها, و16 بلدا أو كيانا سياسيا يزيد سكان كل منها على المليون, لكنها مجهولة أو لاتتوافر عنها بيانات كافية, ابتداء من متوسط الدخل, إلى متوسط العمر, ونسبة الأمية.إنها اقتصادات مغلقة برغم أنها تملأ الدنيا بأخبارها عبر وكالات الأنباء والشبكات الفضائية!

في دائرة المجهول, ووفقا لتصنيف البنك الدولي للاقتصادات الأخرى, تأتي ـ كما قلت ـ جمهورية إيران الإسلامية. مساحتها معلومة, وعدد سكانها يتم رصده وقد زاد بنحو 50% منذ بداية الحرب العراقية/الإيرانية, ونسبة الأمية فيها 28% فقط, ومتوسط العمر المتوقع عند المولد "68" عاما.

هذه هي كل البيانات المتوافرة لدى البنك الدولي, وما عداها مجهول أو مشكوك فيه.

وتتعدد النماذج, فتأتي أفغانستان ذات الـ 24مليون نسمة, وذات المساحة الكبيرة نسبيا, ولايظهر من بياناتها غير متوسط متدن للعمر المتوقع وهو "44 سنة" ومتوسط أكثر تدنيا لانتشار الأمية وهو "69% طبقا لبيانات 95".

على نفس المنوال تأتي بلدان عربية عديدة: العراق ذات العشرين مليونا من السكان و42% أمية, ومتوسط عمر 66 عاما, وتأتي السودان ذات الـ 27 مليون نسمة ومتوسط عمر للفرد 54 سنة فقط, كما تأتي الصومال التي يقترب سكانها من العشرة ملايين ولاتوجد أي معلومات عنها سوى المساحة فقط لاغير!

في دائرة المجهول, وفوق المليون نسمة من السكان 16 دولة يمكن تصنيفها وفقا لتحليل سريع ومباشر, فهناك دول تعيش الحروب الأهلية والقلاقل السياسية ومن الصعب أن تنتظم فيها عملية جمع المعلومات سواء على المستوى الوطني أو بالنسبة للمنظمات الدولية. إنها دول شغلتها حروبها وصراعاتها وأزماتها عن أن تعرف, ماذا يدور على أرضها, والأمثلة عديدة: أفغانستان, الصومال, السودان, صربيا والجبل الأسود "يوغوسلافيا".أريتريا وغيرها, والبعض منها يعيش حالة "اللادولة" بعد أن سقطت السلطة المركزية فيها!

النوع الثاني في دائرة المجهول مايمكن تسميته بدول مغلقة يقل فيها الوجود الدولي وتجف العلاقات بينها وبين المؤسسات العالمية ومن هذه الدول: كوبا وكوريا الديمقراطية. إنهم يعرفون عنها "بالكاد"!

أما النوع الثالث من هذه الدول فهي تلك التي تمر بفترة انتقال من التبعية للاتحاد السوفييتي إلى الاستقلال الكامل وبناء كيان ذاتي, ومنها: طاجكستان, وتركمانستان!

إنها أنواع ثلاثة من المجهول. تنقصنا عنها المعرفة, وتعجز المؤسسات الدولية عن أن تسبر غورها, وربما يحرص البعض منها على أن يظل سرا غامضا!

بطبيعة الحال فإن من هم تحت المليون شيء آخر. قد تتوافر عن اقتصاداتهم المعارف, لكنهم ـ ومن وجهة نظر المنظمات الدولية ـ لايلقون اهتماما كبيرا.

في العالم 46 كيانا من هذا النوع, وربما زاد العدد إذا زادت المعرفة بكيانات أخرى لم تذكر دراسة البنك الدولي عدد سكانها.الكثير من هذه الكيانات يمثل أطراف العالم. يقف على الحافة. يسقط في الماء. يبرز في البحار والمحيطات. يغري الآخرين على احتلاله أو بناء القواعد العسكرية المتقدمة على أرضها.

في المحيط الهادي يأتي العديد من النماذج: كاليدونيا الجديدة ولايزيد سكانها في منتصف التسعينيات على 185 ألف نسمة ومساحتها 18 ألف كيلو متر وهي تابعة لفرنسا. جوام التابعة للولايات المتحدة وسكانها 149ألف نسمة ومساحتها أقل من ألف كيلو متر!

في المحيط الهندي تأتي جزر "المالديف" الشهيرة, وجزيرة "سيشل", و"جزر القمر", والأخيرة التي شهدت أحداث انفصال في صيف عام 97 لايتجاوز عدد سكانها نصف المليون, ولايزيد فيها متوسط دخل الفرد على 470 دولارا في السنة, ونمو الناتج القومي يأتي بالسالب, ومتوسط العمر لايزيد على 56 عاما!

ويضم الأطلنطي كما تضم منطقة أمريكا الوسطى الكثير من هذه الجزر والكيانات التي يقل عدد سكانها عن مليون. جزر "البهاما", "جامايكا", "هاييتي", و"برمودا" التابعة للولايات المتحدة و"كايمان" التابعة لبريطانيا إنها كيانات متناثرة جرى إلحاقها بدول كبرى, أو جرى منحها الاستقلال لكنه استقلال صوري!

السؤال, ونحن نجمع المعلومات عن القمر والمريخ وباطن الأرض ومحتويات الفضاء, كيف نعجز عن معرفة الأحوال الحقيقية والمعلومات الكاملة عن بلدان مثل إيران وكوبا وأفغانستان? وإذا كانت ظاهرة "اللادولة" تحول دون معرفة واقع بلدان مثل الصومال فماذا يحول دون توثيق معلومات دول مثل إريتريا أو كوريا الديمقراطية?

إنها قبضة المجهول في عالمنا. كيانات صغيرة وكبيرة, أثرياء وفقراء, يسقط بعضهم على سطح الماء, ويحتل البعض مساحات غير صغيرة في اليابسة, إنه "العالم الآخر" الذي لانعرفه جيدا.

وربما يكون القرن المقبل أكثر سخاءً في المعرفة, فيعرف بعضنا بعضا وتهتم الحكومات بأن تعرف المزيد عن بلاد تحكمها وتنطق باسمها!