جمال العربية

 جمال العربية

موناليزا
للشاعر السوداني محمد المهدي المجذوب

وشاعرنا سليل أسرة "المجاذيب" السودانية العريقة, وهم ـ كما يعرفون في السودان ـ السادة الصوفية, أحباب الله وأولياؤه.

وفي المقدمة الجميلة التي صاغها الشاعر لديوانه: "نار المجاذيب" يطلعنا على جذور هذه الشجرة الشعرية, وأسرار النار المتوهجة بأقباس الحب الإلهي والوجد الصوفي وهو يقول: "رأيت طفولتي الباكرة على ضوء هذه النار المباركة, ونظرت إليها وسمعت حديثها, وعلمت وانتشيت وغنيت.

أوقدها الحاج عيسى ود قنديل, والسودان في ملك "العنج" النصاري من أهليه, فتلفتت في ليل "درو" الساكن, تلقي ذوائبها الذهبية على الحيران, تحلقوا حولها وعانقوا الألواح ورتلوا القرآن, وسهر حولها الفرسان والفقهاء وأصحاب الخوارق, يسبحون وينشدون, سماحة بين الناس وأمنا وأريحية, قرونا طوالا حتى الساعة, ودفع بي أبي إلى ضوء هذه النار, فرأيت وجه شيخي وسيدي, شيخ الفقراء الورع الحافظ الفقيه محمد ود الطاهر. وأبي هو الشاعر المعلم الحافظ العلامة الفذ العابد: الشيخ محمد المجذوب الذي ينتهى نسبه في الجعليين من عرب السودان إلى العباس بن عبدالمطلب عم الرسول الكريم.

وخرجت مع الحيران إلى الفزعة لنحتطب, وفي قبضتي الصغيرة فرار وماء من بحر النيل في زجاجة خضراء, وتغوص أقدامنا في كثبان الرمال السمر, وتتعلق أعيننا بزرقة النيل, ورءوس الدوم والنخيل, ونريح طفولتنا في السدر الظليل, وتطعمنا "النار" مغرب كل أربعاء, كرامة من بليلة اللوبياء المباركة وعيش الريف الحلال.

ومن ليل "الدامر" الساكن الهامس بالنجوم ومن مدائح الولي الكامل محمد المجذوب, ووجده الصادح في ضوءالنار الساهر.

ومن فرحي الغامر بصحبتي لقسيم الصبا والأحلام والشباب الشاعر الفذ الفنان عبد الله الطيب. ومن سير التاريخ الحافل بالمآثر آخذا عن جدتي الحافظة.

ومن طبول المقدم القادري
ومن الصدق الذي علمنيه والداي العاطفان
انعقد جوهر هذا الشعر.

تعمدت أن أنقل إلى القارىء هذه السطور من مقدمة الشاعر لديوانه, لأنها نموذج للغة الأدبية الجميلة, التي تحمل من روح الشعر ومن حرارة الأداء وصدق التناول مايرقى بها إلى أفق الشعر ذاته, فضلا عن امتلائها بالأسماء والأعلام والرموز السودانية التي يدور من حولها شعر الشاعر وآفاق عالمه الشعري وهي آفاق تذكرنا بشعر الشاعر السوداني: التيجاني يوسف بشير, الذي كان شعره بمنزلة التعريف الأول للقارئ العربي بالشعر السوداني الحديث ومدى تمايزه وخصوصيته لغةً ومعجماً وصورا وطرائق في التناول والأداء, فضلا عن ارتباطه العميق بالحياة الصوفية ومشايخها وأعلامها في السودان. فكلا العالمين الشعريين للتيجاني والمجذوب ينهلان من هذا الفيض الصوفي العميم, وينسجان على أوتار متقاربة أناشيدهما وأذكارهما الشعرية والروحية.

ولقد كان لـ "الخلوة القرآنية" التي التحق بها المجذوب في "الدامر" أثر عميق في وجدانه الشعري, وفي نزعته البيانية, وتأثره بالمعجم القرآني.

وبعدها, انتقل إلى المدارس الحكومية في الخرطوم, حتى تخرج في كلية "غوردون" ليعمل بالمحاسبة في حكومة السودان, لكن تأثير الخلوة القرآنية لم يزايله طيلة حياته, لذا فهو يقول: "ولم ألق بالا بوعي كامل إلى هذه المدارس, ولم أمنع نفسي من شرورها وقشورها, ومازلت أعاني من أمورها".

وفي إطار الحركة الرومانسية في الشعر العربي الحديث, أو كما يسميها الناقد الكبير الدكتور عبد القادر القط: الاتجاه الوجداني في الشعر العربي, يمكننا قراءة شعر المجذوب وتأمله وتحليله. عندئذ نكتشف مدى القرب والقرابة بين نسيج هذا الشعر وشعر الشابي في تونس, وناجي وعلي محمود, ومحمود حسن إسماعيل والهمشري في مصر, والأخطل الصغير ـ بشارة الخوري ـ وأمين نخلة في لبنان وغيرهم من شعراء الوطن العربي في سوريا والعراق. سنجد لديهم جميعا ـ بدرجة أو أخرى ـ تلك النزعة العارمة للتحرر والانطلاق من أسر التقاليد التي ارتبطت بها الكلاسيكية العربية, والرغبة في تأكيد الملمح الذاتي والهوية الذاتية لكل منهم, والبحث الدائب عن لغة شعرية جديدة تتسع لهذه الروح الجديدة ولهذا النفس الجديد, وتجسد عالم الصور والرؤى الشعرية التي يجسد الشاعر بها أبهاء عالمه الشعري وأركانه الأساسية. فضلا عن تنويعات الموسيقى والإيقاع والقوافي وصولا إلى شكل جديد للقصيدة يوائم هذه الروح المتحررة والمواقف المتمردة. لكن محمد المهدي المجذوب يظل بين هؤلاء الشعراء جميعا أكثرهم اتصالا بالتراث الشعري الصوفي, وأقدرهم على التعبير عن هذا الانتماء والتواصل مع التجربة الصوفية في الشعر, لدى أعلامها الكبار من طبقة ابن الفارض وابن عربي والشهرزوري والبرعي وغيرهم.

والقصيدة التي نلتقيها من شعر المجذوب تمثل الخصائص الأساسية لشعره أدق تمثيل, بدءا بالمعجم الشعري الذي يتحدث عن الودع المنبي والتميمية و"ابن سيرين" الذي يتحوى به الشاعر لصنع حلمه و"الكأس" التي أصبحت رمزا من رموز الشعر الصوفي, فهي كأس المحبة وكأس العشق الأسمى وشرابها شراب المحبة الأقدس ونور المعرفة الأسني. ثم هي ـ من حيث الصيغة ـ تنزع إلى تعدد القوافي جريا على عادة الرومانسيين في تحريك المجال النفسي وتعدد صور الحال الشعرية مع كل مقطع من مقاطع القصيدة, فضلا عن التفات الشاعر إلى ما التفت إليه شعراء جيله من متابعة المناخ العالمي للثقافة والمعرفة والفنون وأصداء الترجمة للعديد من الأعمال الأدبية والشعرية, كما يتمثل في إهداء القصيدة إلى "روز ماري" وتسميتها باسم "موناليزا" وكأنما يصور باللغة الشعرية لوحة شعرية تحاول الاقتراب من العالم الساحر الغامض للوحة الموناليزا الشهيرة التي أبدعها ليوناردو دافنشي في القرن السادس عشر, والتي ألهمت العديد من المبدعين ـ خاصة الشعراء ـ لوحات شعرية حاول كل منهم أن يحقق من خلالها تصوره لفكرة الجمال الإنساني في أرقى تجلياته.

والمجذوب واحد من هؤلاء الذين أغوتهم لوحة "الموناليزا" وأمدتهم ببعض سحرها وغموضها. فعكف ـ في قصيدته ـ على تحري هذه الصورة النورانية التي لاتلوح إلا لعشاق الحب الروحي الأسمى, عشاق الوجد الصوفي والحب الإلهي. والقصيدة لاتقدم لنا ملمحا بشريا واحدا, ولاتقترب ـ مجرد اقتراب ـ من فكرة الوجود الإنساني, وإنما هي تحليق وراء الصورة المطلقة لمعشوقة هي الأمن وهي ـ في الوقت نفسه ـ كالبحر الذي لاتؤمن بعض جوانبه, والجبال التي يمكن أن تتهاوى من حيث لايدرك الظن وكأس تشع بضحك الأنوار, ويستقطب الشاعر خاطرته الشعرية الصوفية في كلمتين اثنتين حين يقول: حبها الروح.

وفي القصيدة مايذكرنا بهتفات الشابي ومناجاته الحارة في قصيدته المشهورة "صلوات في هيكل الحب". ولنتأمل في كلمات العنوان كلمتي صلوات وهيكل اللتين تشعان بدلالة روحية غامرة شديدة التماثل مع الجو النفسي الذي تشعه قصيدة المجذوب. خاصة في مقطعها الأخير الذي يستهله بقوله:

في حشاي المشوق سحب

ولاتهمي بأرض تخاف لمع البروق

هذا "الحشا المشوق" يذكرني بتعبير الشابي "فؤادي الغريب" وهو يقول:

في فؤادي الغريب تخلق

ـمة والطهر والهدى والتبتل

وشموس وضاءة ونجوم

تنثر النور في فضاء مديد

وربيع كأنه حلم الشاعر

في سكرة الشباب السعيد

كما يذكرنا بقصيدة الشاعر محمود حسن إسماعيل: "اقبلي كالصلاة" وهي أيضا تسبيحة روحية تستقطر نداوتها من أقباس هذا الأفق الشعري المشترك, خاصة عندما يقول:

أنت طيف الغيوب رفرف بالرحـ

ـمة والطهر والهدى والتبتل

أنت لي توبة إذا زل عمري

وصحا الإثم في دمي وتململ

أنت لي رحمة براها شعاع

هل من أعين السما وتنزل

أنت دير الهوى، وشعري صلاة

لك طابت ضراعتي والتذلل

والآن إلى "موناليزا" محمد المهدي المجذوب:

أترى تسمعين! إنى أدعوك وأدعوك في دجاي الطويل
أترى تسمعين! قلبي في الليل ينادي نداء طفل عليل
أنت خيلت لي بأنك تدرين فمن لي بلمحة من دليل
نظرة حين خالطت قلبي المحزون ضاعت وراء هدبٍ ظليل
***
أسأل الضاربات بالودع المنبي وأطوي تميمة للقبولِ
ثم ارتد يائسا أكبح الشوق عصاني وليس لي من حويلِ
وأكلت العروق ليلاً لقد جربت في "الديربي" كل سبيل
وتحويت بابن سيرين كي يصنع حلمي واشتفي من غليلي
***
أنا أهواك لي ذمام وهل يغني ذمامي. ولي غرام يحنُّ
لم أزرها لأن عيني لاتؤمن كأس بها ترف ودنُّ
***
هي أمن وكم أتوق إلى أمن وضعف يثيرني واقتدارُ
هي كالبحر ليس يؤمن منها, جانب فيه عاصف وقفار
وجبال من حيث لايدرك الظن تهاوى وماحواها قرارُ
حبها مقمر فليس يضل الليل فيه ولايغيب النهارُ
هي كأس في ظلها ضحك الأنوار خدر يذوب فيه السرارُ
ملء عيني فكيف أعجز أشواقي لون يشف عنه الأزارُ
***
إن حبي أسره فهي سر, وحنين بلا مهاد وظنُّ
زهرة في جنوبها العسل الخفاق روض بقطرة مستكنُّ
حبها الروح ملء روحي على قربي منها وقربها كم تضنُّ
أنت حبي فما ينالك شعر, نال مني ولاينالك فنُّ
نفسي عب فيه من دمي المحرور نفح أشمه وأجنُّ
***
في حشاي المشوق سحب ولاتهمي بأرض تخاف لمع البروقِ
جنة حلوة الثمار بها الغدران تغني عن السحاب الدفوقِ
يشتهي قطرة من العسل المخبوء نحل مثور في عروقي
وحشاي المشوق سحب من الريح بها الشوق صرخة من غريقِ

 

فاروق شوشة