صليبيون.. صهاينة.. وعرب: صـور مـن القـدس

صليبيون.. صهاينة.. وعرب: صـور مـن القـدس

تاريخ القدس الطويل حافل بكل الصور على اختلاف أشكالها وألوانها، ولكن القدس التي بناها العرب لم تعرف الصور القاتمة أو الباهتة إلا عندما احتلها الغرباء.

كان الفصل الأخير في قصة الحملة الصليبية هو الحصار الذي فرضه الفرنج الصليبيون على المدينة المقدسة على مدى خمسة أسابيع (7 يونيو ـ 15 يوليو 1099م) ولم يكن هناك ما يلائم هذا الفصل الأخير في مسيرة القتل والعدوان تحت راية الصليب، (في مفارقة حادة مع ما يرمز إليه الصليب من التضحية في سبيل الآخرين من بني الإنسان) سوى إشاعة أنباء الأحلام والرؤى المقدسة التي تقول إن القديس جورج قد اشترك في المعارك ضد المسلمين. واشتعلت حماسة الفرنج المهاجمين. وفي يوم الجمعة الخامس عشر من يوليو سنة 1099م، وفي وقت الظهيرة ـ ساعة صلب المسيح في التراث الديني المسيحي ـ تمكن الفرنج من اقتحام المدينة. وأعقبت سقوط المدينة مذبحة بشعة حتى بمقاييس تلك العصور التي ميزتها الوحشية والعنف، وأبيحت القدس على مدى أيام ثلاثة للسلب والنهب، وفاض الدم في شوارعها، واختلطت رائحة الحريق والدخان برائحة الدم والجثث الطريحة في كل مكان. وفي هذا الجو الموحش الكئيب، الذي يلفه الصمت الرهيب، وتغلفه الروائح الكريهة الصادرة من المنازل المحترقة والجثث العفنة اجتمع القادمون من غرب أوربا تحت راية الصليب لأداء الشكر في كنيسة القيامة، وترددت في أرجاء الكنيسة العتيقة عبارة باللاتينية معناها (شكراً للرب).

... وهكذا انتهت أحداث الحملة الصليبية الأولى.

هذه الصورة التاريخية المرعبة تتناقض مع صورتين تاريخيتين آخريين، كما تتشابه مع صورتين تاريخيتين غيرهما..

الصورتان المتناقضتان مع صورة العدوان الصليبي على مدينة القدس ترجع إحداهما إلى النصف الأول من القرن السابع الميلادي، على حين تعود الأخرى إلى سنة 1187م أي بعد ثمانية وثمانين عاما من الأسر الصليبي.

الصورة الأولى

كانت جيوش المسلمين الزاحفة تحت راية الجهاد تقف قبالة أسوار المدينة التي يعتبرها المسلمون أولى القبلتين وثالث الحرمين، والتي ترتبط بقصة الإسراء الإعجازية التي تحدث عنها القرآن الكريم، والتي تضم بين جنباتها بعضا من أهم المقدسات المسيحية عندما أصر سكانها المسيحيون بقيادة البطريرك صفرونيوس على أن يسلموها للخليفة العظيم (عمر بن الخطاب). ولم يتردد الخليفة، ولم يترك للغضب أو غطرسة القوة أن تغريه بأن يأمر قواته باقتحام المدينة وتدميرها، وإنما جاء على راحلته الحمراء لا يصحبه سوى كيس من التمر وقربة ماء. وتسلم المدينة من أهلها بالأمان.

وحفظ العهد الذي أعطاه عمر بن الخطاب لنصارى القدس كنائسهم وأملاكهم إلى جانب حرية العقيدة، ورفض أن يصلي في كنيسة القيامة حتى لا يتخذها المسلمون مسجدا لأنه أراد أن يحفظ للنصارى حقوقهم. ومن ذلك الحين باتت المدينة المقدسة مدينة للتسامح، فقد بنيت بها المساجد والجوامع إلى جانب الكنائس والأديرة، وقصدها المسلمون زوارا وطلاب علم ومجاورة، كما جاء النصارى الأوربيون حجاجاً وطالبي مغفرة وتوبة من الغرب الأوربي. وظلت مدينة السلام تحتضن كل من يدخل من بواباتها. ثم جاء الهجوم الصليبي بصورته المرعبة لتختفي الصورة الهادئة الوادعة.

الصورة الثانية

لم يكن المسلمون ليتركوا الفرنج الصليبيين يهنأون بالمدينة المقدسة التي روعوها بالنار والدم. وحين اكتشف سكان المنطقة العربية حقيقة الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية للكيان الصليبي بدأت المحاولات المنظمة لدحر العدوان واسترداد الأرض العربية. وكانت القدس رمزاً ملهماً في هذا الصراع المرير والطويل. وللحق والتاريخ فإن الجماهير المسلمة في المنطقة العربية هي التي صاغت شكل الصراع.

أثبت الحكام في المنطقة العربية قصورهم وخيبتهم، فقد حاول الفاطميون التحالف مع الفرنج، كما أن السلاجقة في دمشق عاشوا نوعاً من التعايش السلمي مع الصليبيين، أما خلفاء العباسيين فكانوا أضعف من أن يفعلوا شيئاً.

وبدأت جرائم الفرنج ومذابحهم، وأعداد اللاجئين الهاربين من وحشيتهم، تثير الرأي العام الذي طالب بالجهاد، ومن خضم هذه الأحداث خرج المجاهدون من أمثال عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، ثم صلاح الدين الأيوبي. ونجحت حركة الوحدة العربية تدريجياً في تحقيق انتصارات مهمة، فقد تمكن عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود من استرداد الرها وتأمينها. وفشلت الحملة الصليبية الثانية التي أرسلتها أوربا في أن تفعل شيئا سوى زيادة قوة نور الدين محمود، حينما فرض أهل دمشق إرادتهم وانضموا إلى دولته. وفي خضم الصراع بين الصليبيين ونور الدين محمود على مصر برزت شخصية صلاح الدين. وسرعان ما ورث ملك نور الدين ومسئولياته التاريخية. وأدت تقلبات الأحداث التاريخية إلى يوم حطين الذي تمكن فيه المسلمون من تحطيم أكبر جيش صليبي وأسر جميع قادته ذات يوم من صيف سنة 1187م. وبات الطريق مفتوحاً إلى القدس، قرة عيون العرب والمسلمين، ورمز الصراع الدامي.

وبعد شهرين من معركة حطين كانت قوات صلاح الدين تحيط بالقدس مرة أخرى، وتسلم السلطان صلاح الدين مدينة القدس من قادة الفرنج وقت الظهيرة من يوم الجمعة 27 رجب 583 هـ/2 اكتوبر 1187م. واتخذت الإجراءات لخروج الفرنج سلمياً من المدينة المقدسة. وقد أغلقت جميع أبواب المدينة، وتم وضع الحراس والأمناء للإشراف على خروج الفرنج وتطبيق الشروط. وتم ذلك كله دونما قطرة دماء واحدة.

وخرج الفرنج الصليبيون في ثلاث قوافل، إحداها لفرسان المعبد (الداوية)، والثانية لفرسان المستشفى (الاسبتارية) والثالثة يقودها البطريرك. وكانت القوافل كلها في حراسة القوات الإسلامية.

كان المشهد في هذه الصورة مناقضاً للمشهد الذي شهدته المدينة قبل ثمانية وثمانين عاما، بل إن السلطان أمر بإطلاق عدد كبير من الفرنج دون دفع الفدية، وأمر جنوده بألا يقتلوا أحدا ولا يهاجموا بيتاً، وتم تحرير المدينة المقدسة وخرج الفرنج يبحثون عن مكان في الإمارات الصليبية في طرابلس وصور وانطاكية ولكنهم وجدوا أبوابها مغلقة دونهم.

أما السلطان (صلاح الدين الأيوبي)، فقد اهتم بأن يعيد إلى المدينة المحررة طابعها الحضاري وتراثها الإنساني. ولذلك أقام معسكره بالقدس حتى يطمئن إلى إعادة الأماكن الإسلامية المقدسة إلى سابق سيرتها قبل عدوان الفرنج الصليبيين.

وكانت منطقة الحرم القدسي الشريف هي المنطقة التي نالت منه اهتماما خاصا، فقد طلب من رجاله أن يزيلوا العدوان الصليبي على قبة الصخرة والمسجد الأقصى. فقد كانوا قد أقاموا كنيسة وقاعة للطعام ومساكن للداوية في المسجد الأقصى، كما أمر بإزالة الصور والرسوم التي كان الفرنج الصليبيون قدأحدثوها بقبة الصخرة.

ومن ناحية أخرى، أعاد ترتيب أمور المدينة المالية والإدارية. وهكذا عادت المدينة المقدسة إلى دورها في خدمة الإنسانية مرة أخرى.

ولم تغلق المدينة المحررة أبوابها في وجه الحجاج والزوار، وبقى المسيحيون من أهلها الأصليين داخلها مع أهلها المسلمين. ومرة أخرى سمح صلاح الدين لليهود بسكنى المدينة ولكن عدداً ضئيلا منهم عاد إلى القدس.

هناك صورتان أخريان تتشابهان مع الصورة الوحشية التي بدأنا بها هذه الدراسة، وهاتان الصوتان ترتبطان بالظاهرة الاستيطانية العدوانية، شأنهما شأن الصورة الصليبية، ولكنهما ترتبطان بالحركة الصهيونية.

وربما يكون مفيداً أن نشير هنا إلى أن عناصر المشابهة بين الحركة الصليبية والحركة الصهيونية كثيرة ومتعددة، فالارتكاز على أيديولوجية دينية، وعلى أفكار مستمدة من الكتاب المقدس (مثل شعب الله المختار والأرض الموعودة) عنصر أساسي في كل منهما، كما أن الطبيعة الاستيطانية العدوانية التي تعتمد علي تهجير أعداد كبيرة من البشر من مواطنهم الأصلية لكي يستوطنوا أرض شعب آخر، واستخدام وسائل عنيفة مثل المذابح الجماعية، والتفريغ السكاني الكلي والجزئي، والإرهاب الشامل.. وما إلى ذلك سمة مشتركة بين الصليبيين والصهاينة.

فضلاً عن أن الاستناد إلى ظهر عسكري وبشري واقتصادي وسياسي من خارج المنطقة في مواجهة أصحاب الأرض والحق التاريخي من أهم خصائص الكيان الصليبي والكيان الصهيوني.

وهناك الكثير من أوجه التشابه بين الصهيونية والصليبية على مختلف المستويات، ولكن أهم وجه للاختلاف بينهما هو أن الحركة الصهيونية تحاول الاستفادة من التجربة الصليبية باعتبارها (سابقة) تاريخية، أو (بروفة) يمكن الاسترشاد بها.

على أي حال، نحن هنا أمام صورتين تتشابهان مع الصورة الصليبية.

الصورة الأولى، عقب حرب 1967م:

في اليوم السابع من يونيو 1967م احتلت القوات الإسرائيلية القدس العربية القديمة وأحكمت قبضتها على المدينة المقدسة كلها. وفي اليوم التالي تقدم حاخام الجيش الإسرائيلي (شلومو جورن) أمام مجموعة من جنود الجيش الإسرائيلي بالقرب من حائط البراق (الذي يدعي الصهاينة أنه حائط المبكى) وهو الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف، ليقيم الشعائر الدينية اليهودية، ثم يعلن بعد نهاية هذه الشعائر ما نصه: (إن حلم الأجيال اليهودية قد تحقق، فالقدس لليهود ولن يتراجعوا عنها وهي عاصمتهم الأبدية).

هذه الصورة القاتمة كانت بداية حقبة حزينة في تاريخ المدينة المقدسة، فقد سقط التسامح والسلام، وعادت عنصرية الصليبيين تطل على المدينة بوجه صهيوني قبيح. ومنذ تلك اللحظة حتى الآن يواصل الصهاينة المحتلون تنفيذ خططهم ومخططاتهم لضمان السيطرة على مدينة القدس عسكريا وجغرافياً وسكانياً من خلال إجراءات وقرارات متنوعة، ومن خلال العدوان والإرهاب المستمر على القدس وأهلها.

ففي أعقاب حرب يونيو 1967م مباشرة استولت قوات الجيش الإسرائيلي بالقوة على مناطق مجاورة للحرم القدسي الشريف، وتم طرد السكان من ممتلكاتهم لكي يتم تحويلها إلى مدارس يهودية، أو أماكن لسكنى المستوطنين. كما تواترت سلسلة من الانتهاكات والعدوان المتكرر على المقدسات الإسلامية. ولعل أوضحها وأكثرها فظاعة ووحشية ما أقدمت عليه السلطات الإسرائيلية يوم 8 أكتوبر سنة 1990م حينما اقتحمت قوات الشرطة وحرس الحدود والمخابرات والمستوطنون ساحات الحرم القدسي الشريف لتطلق النيران بصورة وحشية ضد الرجال والأطفال والنساء والشيوخ لتقتل منهم ثلاثة وعشرين شهيدا، وتصيب ثمانمائة وخمسين فلسطينياً.

الصورة الثانية

ذات يوم كئيب من أيام الزمن الرديء يدنس السفاح أريل شارون حرمة الحرم القدسي الشريف في حماية عشرات المئات من السفاحين الصهاينة الذين يرتدون ملابس الجنود.

وتنطلق (انتفاضة الأقصى) وتزداد الصورة قتامة وسواداً، وتتجلى (شجاعة) القتل والعدوان لدى الصهاينة، وتتصاعد حدة الغضب العربي والإسلامي لتصوغ موقفاً للرأي العام العربي والإسلامي يتجاوز العجز والاستسلام الرسمي، وترسم دماء الشهداء في فلسطين العربية ملامح جديدة لصورة جديدة توشك أن تحل محل الصورة السوداوية التي رسمتها الرصاصات اليهودية الجبانة وهي تغتال الطفل محمد الدرة في حضن أبيه.

وتستمر انتفاضة الأقصى ومعها ينكشف الفزع الصهيوني من مصير يماثل مصير العدوان الصليبي قبل سبعة قرون من الزمان. صحيح أن الصورة لا تزال تحمل من سواد الغدر الصهيوني ودماء الاستشهاد العربي اللون الأسود واللون الأحمر في مواضع كثيرة، ولكن الصحيح أيضا أن خطاً أبيض ناصعا يشق لنفسه مكانا في الصورة كأنما هو فجر مرحلة جديدة من مراحل الصراع ضد قوى العدوان الوحشية التي ترفع علم الصهيونية.

تلك كانت بضع صور من تاريخ القدس الطويل الحافل بكل الصور على اختلاف أشكالها وألوانها. ولكن القدس التي بناها العرب اليبوسيون قبل خمسين قرناً من الزمان لم تعرف الصور القاتمة، أو الباهتة، سوى عندما احتلها الغرباء العدوانيون.

لقد احتلها الصليبيون فترة امتدت ثمانية وثمانين عاما ثم تحررت ولبست ثوبها القشيب بألوانه الزاهية، وعادت سيرتها الأولى في رحاب الحضارة العربية الإسلامية، منارة للعلم وموئلا للعلماء، مزارا للمؤمنين وراغبي الهدوء والباحثين عن السكون والطمأنينة في رحابها المقدسة علي مدى قرون طوال امتدت من سنة 1291م، عندما حررها المسلمون بقيادة السلطان الأشرف خليل بن قلاوون، إلى أن سقطت مرة أخرى في براثن العدوان القادم من بلاد بعيدة تحت راية الصهيونية منذ نصف قرن وعامين.

إن للتاريخ قوانينه التي تعلمنا أن العدوان والغطرسة والغرور لا يمكن أن تضمن البقاء بغير الحق والشرعية، وأن المقاومة والصمود والتشبث بالحق لابد وأن تنتصر في النهاية، وأن حرية الوطن وأبناء الوطن غالية الثمن.

ولأن أصحاب الأرض والتاريخ لا يبخلون بهذا الثمن فإن النصر حليفهم والحرية جائزتهم. فالقدس رمز لصراع وجود، وهو صراع قديم متجدد، وتاريخ القدس يقول إن الصور القاتمة قليلة وإلى زوال، والصور الزاهية باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.

 

قاسم عبده قاسم

 
 




صورة من القدس





شبان عزل في مواجهة الآليات العسكرية الصهيونية





المتطرفون اليهود واستخدام العنف المفرط ضد السكان العرب





دموع تتواصل عند وداع الشهداء يسقطون يوميا برصاص صهيوني





القمع والمصادرة والقهر ممارسات اسرائيلية متواصلة ضد الفلسطينين