عين الصياد

 عين الصياد

تأليف: محمد ديب

كانوا قد نقلوا جثة إبراهيم إلى الخارج بواسطة عدد من رجالنا. ثم أغلقوا علينا الباب وذهبوا. تركونا بمفردنا. لم يكن لأحد منا رغبة في الكلام ولا في الشكوى أو الصلاة. فيما وراء الجدران كانت النداءات تجري على وقع الخطوات وأصوات المحركات وزقزقة العصافير، أما حيث كنا قابعين فلا شيء. إذ كنا ثلاثين نفساً في هذه المدرسة التي تحولت إلى سجن خيّم فيه الذهول على الأرواح.

رحنا نعاود الانتظار، وكان كل منا حبيسه. كم كان عمري آنذاك? إحدى عشرة سنة? اثنتي عشرة?.. لا أدري لكنني مثلي مثل الآخرين كنت في الانتظار. انتظار جلادينا، أعني رجوعهم، وبالتأكيد في انتظار ما سيتبع هذا الرجوع. وطال هذا الانتظار، الذي كان امتداداً لما سبقه من انتظار.

مرت الساعات طويلة، تكاد تنزع صدرك، قبل أن يظهر واحد محتقن الوجه منهم، كما يبدون عند الخروج من المائدة، كان عملاقاً، كل شيء باهت لديه، العين والجلد وقش الشعر. وكان أن سبق وتعرّفنا على هذ الشيطان.

أتى إلينا، وسرعان ما انضم إليه تابعوه وأمرونا بالوقوف. لاشك أن تلك كانت هي النهاية. ولم يعد هناك ما يمكن عمله سوى الصراخ. رحت آكل أصابعي وأبتلع صرخاتي. بينما انفجرت النساء في النحيب والأطفال في الشهيق.

ألقيت نظرة في اتجاه أمي، كان وجهها الحافل بالتجاعيد جامداً كالصخر، ولم تواجهني بما ارتسم عليه من تيبّس الموتى.

عندئذ وصل ضابط برتبة ملازم، كان يرتدي زيّا لا يلائمه ويتفحص الهواء بنظارات سوداء سميكة، ثم بحركة نافذة الصبر من يده قام بطردنا من سجننا مزمجراً (ليذهبوا من هنا).

مع تدافعنا إلى الفناء المزروع بأشجار الفلفل غير الحقيقية وحمام النار الذي كان في استقبالنا. سألت نفسي متى جيء بنا إلى هنا? أكان ذلك في فجر هذا الصباح أم منذ الأزل? ثم ماذا عن غياب الدهشة? إذ لم تصبني الدهشة، سواء مما كنت أعيشه في اليوم نفسه بهذا المكان أو من الأبدية التي عرفتها دون موت. وكانا شعورين واضحي الانفصال وملتبسين في آن.

وترنحت في داخل ذلك السعير. وكان البعض يرفع ذراعه ليحمي عيونه، وبحركة آلية فعلت مثلهم.

ولم تستغرق تعبئة الأجساد المنكل بها في عربات الجر وقتاً طويلاً من الرجال. ثم دفعوا بنا على الطريق.

مررنا في البداية بقرية المستعمر الخاملة وتلتها آخر كرمة. بعدها ظهرت لنا فجأة أراض مترامية، مكلسة نبتت فيها أحجار محروقة وأبسنت وحشي. كنا نتقدم كقطيع مطارد في فوضى. وظلوا حولنا يحرسوننا والسلاح في أيديهم.

ولم يكن هناك أثر لظل على امتداد هذه الخرائب التي تراجعت فيها الجبال إلى حدود الزرقة، فكان الفضاء يتموّج كالمياه خلف ساتر الحرارة الواهي، كأنه مياه تهلك النظر. ولم يكن الطريق الممتد أمامنا أقل إبهاراً ببريقه.

كنت قلقاً. فما قيمة الحياة الإنسانية في هذا البلد، وفي هذه اللحظة، التي يصدر فيها أمر من ضابط برتبة ملازم، قليل الأهمية، وينفذ، بصرف النظر عن أي شيء? وراح موكبنا يتقدم هزيلاً وممزقاً تتقدمه عربات الجر.

وتسلقنا ظهر الهضبة الوعر. كنا نمشي بمحاذاة حافلة حادة. وفي أعلى الهضبة، وبحركة حادة كأنها قطم الرقبة، تم إيقاف الركب وأخذوا في الصراخ ودفع الرجال والنساء والأطفال إلى إلقاء الجثث المحمّلة في العربات إلى القاع. كانوا يحشرون فوهات بنادقهم بين الضلوع لزيادة السرعة. ولم يكن يهم أننا نلقي في خواء الجرانيت بإخوتنا. وهم أصدقاؤنا وجيراننا وأفضل مَن فينا الذين لم تعد جثثهم الشريرة تصلح إلا غذاء لأبناء آوى.

همهمت بصوت خفيض (ارجعوا إلى رشدكم. هم صحيح راقدون بين هذه الصخور القاحلة ولكنهم موجودون في مكان آخر. لقد قذفنا بهم هنا لكنهم سوف يتابعون وجودهم فيما وراء وجودنا ويصونون هذا البلد المحزن بأفضل مما نفعل).

واستمرت المسيرة.

هذه المرة لن نكملها، شيء ما أشعرني بذلك، ورأيتنا نتمرّغ في التراب وما يحيط به من انعكاسات كأن ذلك قد حدث بالفعل. وفارغة ظلت العربات مرصوصة على حافة الطريق. بينما كان الصغار وأنا معهم يحجلون فوق الحصى الساخن لتفادي حرق أرجلهم. في حين بدا أن الكبار ذوي الوجوه المغلقة لا يرون شيئاً. ثم أسرع الجميع، حتى حراسنا، للجري، ولا أحد يعرف لماذا.

فدون أي إنذار انطلق الرصاص كأنه انفجار واحد ممتد. وكان لابد لهذا أن يحدث وصار ارتياحي أكبر من دهشتي.

في لمح البصر، عمّ التشتت المجنون ومحاولات الهرب المخفقة والارتعاشات التي بلا طائل. وعلت الصرخات المهتاجة هنا وهناك. أما أنا، فقد أصابتني فورة عظيمة جعلتني أثب من صخرة لأخرى، حتى أنني في البداية لم أهتم عندما أصابتني عقصة دبور في فخذي اليسرى ثم اخترق دبور آخر كتفي أثناء عدوي. ولكن عندما تورّم جلدي متصلباً في مكان العقص وحوله أدركت ما يعنيه ذلك فأصابني الضحك.

أخذت في الضحك بدلاً من أن أفقد وعيي كما هو طبيعي. دون أن أقهقه وبهدوء وبطريقة ساكنة. إن الله معي، قلت، ولكني أخرست نفسي، فلا يجب النطق باستخفاف بهذه الكلمة. فقد كنت بالأحرى في رعاية نفسي. وهكذا انسحبت لأغفو برهة ثم أستيقظ بعدها وأذهب لأطالبهم بدمي وبكل الدم الذي أسالوه. أينما كانوا. وسوف أشطر نفسي لألف فرد كلهم قساة. ألف فرد يقولون جميعاً: (أعيدوا الدم المهدر!) آه! لأحترق إذن بدمي.. وأصبح العالم عاصفة متجمّدة من النار. فكنت أفتح عيوني قليلاً ثم أغلقها والعالم يختنق من حولي مرتعداً.

وراح الصرير المشحوذ يقطع الهواء ليعيدني فجأة إلى وعيي. كم من الوقت دامت غيبوبتي? أخذت أنظر هنا وهناك. كانت الصخور نفسها لاتزال تشق الأرض الجرداء نفسها، وتنحدر بسرعة على الميل نفسه لتغرق السهل نفسه بتضاريسها. وفي الفضاء، تدور ألسنة اللهيب كأطياف نقية وتتضاعف حدة الصرير. وحملقت بعيوني لأرى هناك في قلب السماء أيادي سوداء مفتوحة وواضحة. تنفصل إحداها من حين لآخر وتقوم بدورة واسعة ثم تعود لتثبت في المكان نفسه الذي تركته، بالضبط في المكان نفسه.

واجتاحتني رغبة جامحة في الفرار منها. فقمت بغرس مرفقي في التراب وحاولت بكل ما لدي من طاقة يائسة أن أرفع جسدي، لكنني ظللت متسمّراً في مكاني مقطوع الأنفاس.

وتماسكت كي لا أنادي طالبا العون. فهل لنا أن نعرف أبدا مَن الذي سيلبي النداء? ثم كيف لحجر مرّ عليه الألم وعاود المرور بسكينه أن ينادي?

وتحسست جروحي بأصابعي وفحصتها. كانت قد عادت تنز دماً لزجاً نتيجة المجهود الضائع الذي بذلته للقيام. كما كانت أسراب من الذباب تدور بشراهة حولي. وفي السماء راحت الشياطين ترقص على هيئة الشعلة. وكانوا ينزلون فجأة من وقت لآخر ليحيطوني بلمسات محرقة. فلم يبق داخل صدري شيء لم تلهبه النار سوى قلبي.

كانوا وهم يراقبونني في تلك اللحظة قد تحوّلوا إلى نظرة حارقة. لا شيء يظهر منها في الخلف ولا شيء في الأمام. فقط نظرة. ليكن ولينظروا إذن في أعمق أعماقي!

حينئذ شرعت في القتل. ماذا يعني نزع أمان قنبلة وقذفها أو تعمير سلاح والضرب به? لا شيء. فهو أسهل من كل ما تعلمته في الحياة. أسهل من ابتلاع شربة ماء. كانت قريتنا قد وقع عليها هذا القصاص لأنها قامت بإيواء بعض رجال المقاومة الذين قام زملاؤهم بالتقاطي أثناء الليل. هذا ما حدث ولا أدري لم. ولم يدخروا جهداً في رعايتي وفي أسوأ المواقف كان هناك دائماً واحد منهم ليهتم بي.

أرادوا أن يدرّبوني بمجرد وقوفي على قدمي. لكنني تكفلت بذلك بنفسي لأنه كان أمراً مصيرياً بالنسبة لي.

لا أدري كم من وقت قضيته في عمل ذلك فقط. كنا اثنين في الهجوم، أنا وذلك الصياد المجهول، وصارت لدي بفضله فكرة دقيقة عمّا يجب عمله بسرعة، كما أدين له بالخروج من كل مأزق وقعت فيه. كان يمسك بيدي ويرشد نظري. ولم يصدق رجال الجبل الذين صرت أتقاسم معهم حياتهم الخطرة عندما رأوني أثناء القتال. كانوا جميعاً جسورين ومدرّبين وأكفاء. كانوا هكذا وأكثر، ومع ذلك أصابتهم الدهشة. فحتى هم صار بوسعي القضاء عليهم إذا اقتضى الأمر.

وأصبح لدي ما أفضي به لمغسلي عندما يضعني الموت بين يديه! في أحد الأيام هاجمت دورية. لم يكن فيها أقل من خمسة أو ستة رجال. كان ذلك في ضاحية (بل إير) وكنت عائداً ذلك الصباح من مهمة في المدينة حين رأيتهم ينفذون إلى الشارع. وقفزت للخلف واحتميت وراء زاوية فيلا. هل أبصروني? تقدمت برأسي بحرص وجازفت بإلقاء نظرة سريعة. ورأيتهم متوترين. وأرجعت رأسي للخلف ملتصقاً بالجدار دون حركة متسمعا. ولم يكن هناك صوت سوى دقات قلبي الثقيلة. وتقدموا هم برغم ذلك وفصلت بيننا بالكاد عشرون خطوة. ثم شعرت بهم يقفون. يترصدون، بغير تشكك، وكانت الحرارة خانقة بالرغم من قبة الظلال الخضراء التي تنشرها الأشجار المستديرة فوق الشارع. فجأة سمعتهم يتبادلون الرأي. وتبع ذلك صمت طويل، وبخلاف أي توقع أخذت أصواتهم في الارتفاع من جديد. وأدركت أنهم مجتمعون، هل كانوا يتشاورون? وانفجرت قنبلتي في وسطهم.

مات منهم عدد كبير، فخالقهم وحده يعلم كم منهم مات. بعد ذلك بفترة أتى دور عامل زراعي وعائلته. كانوا قد استمروا في العمل أجراء لدى المستعمر. أكثر من مرة قمنا بتحذيره ولكنه كان يعود دائماً للتوجه لهذه المزارع، حينئذ قمت بزيارته. وعبرت باب كوخه عند حلول المساء وتم كل شيء بسرعة. كانوا مجتمعين حول الطعام، الرجل والمرأة والأطفال الثلاثة والعجوز. لم يكن هناك ضوء سوى ما اكتفوا به مما تبقى من ضوء النهار وظلوا في الوضع الذي كانوا عليه حين فاجأتهم. لكنهم وقفوا عند رؤية المدفع الرشاش موجّهاً إليهم. ولم تخترق الهواء أي كلمة في هذه اللحظة. مع ذلك صدرت عنهم شهقات رديئة أفسدت جمال نشوة الانتظار. راح العجوز يشكو مشيراً للصحن المتروك. أما العامل الزراعي فكانت عيونه التي فتنها الموت مفتوحة على وسعها. وتفجّرت شهقاتهم مثيرة للتقزز كأنها الخراريج. واندفعت أخيراً أرشهم بمدفعي، وكانت الفتاة الصغيرة التي لم تكد تبلغ سنتين تبتسم في الوقت نفسه.

على أثر تلك الواقعة، انفرد بي أقدم مناضلي الفصيلة ولم يكف عن محاصرتي بالسؤال بعد الآخر، مثل ما هي الحرب وماذا نفعل في تلك الحرب، وماذا يجب أن يكون عليه سلوكنا ومسئوليتنا والطاعة، إلخ.. إلخ... قام بقول كل شيء وأنا أتفرّس فيه. ولم أجد لديه سوى عيون معتمة كالبئر، يريد بها التعبير عن شيء ما، ولم يكن شيئاً مهماً.

كان ذلك فوق احتمالي فصرخت في وجهه:

(كل ذلك لا يعنيني! أنا لا يهمني سوى قتل أكبر عدد ممكن من بينهم! ثم لنرى بعد ذلك.

ما بالكم تخادعون. انظروا إليهم على الجانب الآخر، هل تراهم أحياناً يتحرّجون?)

ولاشك في أنهم كانوا رجالاً وجنوداً بحق، مدرّبين على الحرب، ولكن اعتباراً من تلك اللحظة، أصبحت أنا عدوّهم اللدود.... بل العدو الذي يخافونه بوضوح، وهنا بيت الداء. وزالت شكوكي الأخيرة، عندما تأكدت - ويا للدهشة - أن ما من أحد بين رجالنا يعتقد في وجوب مراقبتي. وأعترف بأن هؤلاء كانوا على حق وكان عليهم أن يرتجفوا خوفاً على حياتهم وأيضاً على حياة الآخرين. فكل شيء خرج عن إرادتي ولم أعد أستطيع مقاومة الرغبة في إرسال الناس إلى العالم الآخر للتحقق من وجود عالم أفضل. ولم أتردد أبداً في فعل ذلك، ثم لماذا أتردد? كنت قد أصبحت نوعاً من الكابوس ونوعاً من الآفة في آن معاً.

ولم أدهش كثيراً عندما قرر رفاقي، سرّاً، تصفيتي نهائياً. وكان يمكن أن يقضى عليّ لو لم يحذّرني ضابط الفصيلة، الذي أتذكر أنه نظر إلي مطوّلاً قبل أن ينصحني بالفرار.

قلت له: إلى أين؟

- إلى بيتك.

- أي بيت؟ لم يعد لدي بيت!.

وهربت بالرغم من ذلك دون مناقشة، كان الآخرون قد وصلوا وأنا أبتعد. وقد تفاديتهم بالكاد، لكن ذلك لم يمنعهم من إطلاق رصاصات رددت في أذني أغنيتهم الفارغة. وكانوا إخوتي في السلاح، ومع ذلك خوّلت لهم دناءتهم مصادرة رشاشي. فلم تكن حربهم هي حربي، وكان علينا أن ننفصل عاجلاً أم آجلاً.

بعد كل هذه السنوات، يأتي أحدهم ليطلب مني أن أعيد الكرة، وهذه الفتاة الملعونة تحثّني على القتل من جديد.

 

نجوى حسن