صانعو الحضارة الإسلامية

 صانعو الحضارة الإسلامية

الوظيفة وليس الاسم، هذه هي الرؤية التي ينتهجها أستاذنا د. نقولا زيادة لدراسة حضارتنا لإسلامية ونحن في بداية هذا القرن الجديد، فالحضارة هي مجموعة من الأدوار والوظائف المتواصلة التي تسيّر الحياة البشرية، لا تتوقف بتغير الحكام وتوالي الدول، كما أن الانتكاسات السياسية لا تشل من فاعليتها، إنها تصنع نوعاً من الوتيرة الثابتة تحقق في النهاية ذلك التراكم الحضاري الذي أهل الحضارة الإسلامية أن تقوم بدورها وأن تأخذ سمتها.

القاضي

(وإذا حكمتم بـين النـاس)

كانت العرب في الجاهلية تحل منازعاتها وخلافاتها على أسس من قواعد عرفية، وكان شيخ القبيلة هو الذي يقوم بذلك. وقد تقتضي بعض الحالات أن يعهد إلى (حَكَم) للفصل في نزاع أو خلاف. والحكم ينتهي عمله عندما يصدر قراره.

لما جاء الإسلام تبدّل الأمر، وهذا جاء بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، حيث قامت ثمة (دولة) بقيادته. وكان الفصل في الخصومات يقوم هو به، وقد يستعين بأصحابه إذا اقتضى الأمر.

واتبع أبوبكر السبيل نفسه. لكن عمر كان أول مَن عيّن رجالاً خاصّين بالقضاء، لا في الحجاز فحسب، بل خارجه أيضاً. فكان من قضاته شريح ابن الحارث على الكوفة وأبوموسى الأشعري على البصرة وكعب بن يسار على مصر. وتبعه في ذلك عثمان بن عفان. على أن هذا لا يعني أن الولاة أنفسهم وأمراء الجند لم يمارسوا السلطة القضائية، فرقعة الدولة واسعة والجند منتشرون في أنحائها والمشكلات بين السكان أنفسهم وبينهم وبين الجنود كثيرة.

كان القرآن الكريم والسنّة النبوية المصدرين الأصليين للعقائد والأحكام والحدود. فكان القاضي يتبعهما، وإذا لم يجد نصّاً اجتهد، على ما نعرف من قصة عليّ لما ولي أمر اليمن من أنه سئل مرتين عن الأمر يهتدي به في الحكم، فكان جوابه أولاً كتاب الله، ثانياً سنة الرسول صلى الله عليه وسلمّ، فإن لم يجد فيهما، كان السؤال الثالث، فقال أجتهد.

ولما عيّن عمر القضاة لم يكن يرمي إلى فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، بل كان يرمي إلى مساعدة الولاة وتيسير الأمور عليهم.

في أيام الدولة الأموية، أضيفت رقع واسعة إلى ما كان من قبل. فأصبحت الدولة الاسلامية تمتد من آسيا الوسطى شرقاً حتى جبال البرانس غرباً. ومن ثم فقد اتصل الخلفاء والحكام اتصالاً مباشراً بنظم سياسية وإدارية سابقة. والذي نعرفه أنهم أخذوا عنها الشيء الكثير، من حيث توسّع السلطات أو حصرها. لكن القضاء لم يختلف كثيراً عن قبل إلا في أن القاضي أضيف إلى عمله في الفصل في الخصومات مهام أخرى أهمها أمانة بيت المال والإشراف على الأوقاف وإدارة أموال اليتامى.

وعلى كل، فقد ظل للقاضي أن يجتهد إذا لم يجد في الكتاب والسنّة إرشاداً واضحاً. والاجتهاد كان، بطبيعة الحال، فيما يجيزه الأصلان. وهذا أمر منوط بمعرفة الأحكام والفقه وما إلى ذلك.

ومن هذه الحرية النسبية في الاجتهاد، ظهرت فئات من الدارسين الذين أصبح لهم أتباع أو حتى مدارس. وفي النديم والمقدسي، من المؤرخين والجغرافيين، نقع على أسماء لبعض هذه (المذاهب) التي تعود إلى القرنين الثاني والثالث/الثامن والتاسع من مثل: الأوزاعية والثورية (سفيان الثوري) والحنبلية والمالكية والشافعية والداودية والحنفية والظاهرية. ومن كبار هؤلاء المجتهدين الطبري (المؤرخ والمفسر). على أن الأمر تبدل منذ القرن الرابع/العاشر. فقد انتهى الأمر إلى الاعتراف رسمياً بأربعة مذاهب سنية هي: الحنبلي والحنفي والشافعي والمالكي، وكان في ذلك انغلاق باب الاجتهاد.

القضاء والشريعة

كانت الخلافة العباسية قد قامت، بالدعوة ثم بالثورة على الأمويين بقصد العودة إلى قواعد الإسلام الأصلية، أحكاماً وفضائل وقضاء، التي كان الأمويون قد تخلوا عنها. وكان من الطبيعي أن يكون للشريعة بتفاصيلها المقام الأول في تطوير النظم وفق ذلك.

وكان القضاء موضع عناية خاصة في غير ناحية، فبذل الجهد لاختيار القضاة من رجال عالمين بالشريعة عُدُلا، وألا يتعاطوا التجارة كي لا تتأثر أحكامهم بالمصالح. بل هناك من ارتأى ألا يتعاطى التجارة أحد من أهل بيت القاضي. وحُرّم عليه أن يقبل الهدايا.

وكان تعيين القاضي منوطاً بالخليفة أو مَن ينيبه، إلى أن كانت خلافة هارون الرشيد (170-193/786-809) فعيّن أبا يوسف قاضياً للقضاة

وعهد إليه بتعيين القضاة في الأمصار. فأصبح للقضاء شبه استقلال إداري. ومع أن العمل استمر على ذلك، فإن قاضي القضاة لم يكن مطلق التصرف دوماً.

وفرض على القاضي، تمييزاً له عن بقية موظفي الدولة، لبس الطيلسان مع القلنسوة.

ولما ازدادت أعمال القاضي صار له أعوان: خليفة القاضي الذي ينوب عنه في بعض القضايا، ومساعدوه الأمين والكاتب والخادم. وخليفة القاضي كان أيضاً يصرف شئون بيت المال والأقوات وما إلى ذلك. أما الكاتب فلتدوين الأحكام وأقوال الشهود. أما الخادم فللخدمة.

ومن الطبيعي أن يكون لقاضي القضاة مَن يعينه في أعماله. وقد أخرج آدم متز أن موظفي ديوان قاضي القضاة ببغداد سنة (306/918) هم: الكاتب وقد رتّب له في كل شهر ثلاثمائة درهم، والحاجب ورزقه مائة وخمسون درهماً في الشهر، ومن يعرض الأحكام وراتبه في الشهر مائة درهم، وخازن ديوان الحكم ومَن معه من الأعوان ولهم ستمائة درهم.

(آدم متز - الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة عبدالهادي أبوريده - بيروت 1967 ص419).

ولسنا نشك في أن عدد هؤلاء الأعوان والتنوع في أعمالهم كانت له هيئات غير هذه أيضاً.

كان القاضي يجلس للقضاء في المسجد بحيث تكون المحاكمة علانية يحضرها مَن شاء. فإذا تعذّر ذلك عقد القاضي مجلسه في داره، إذا كانت على طريق، وكان الدخول إليها ميسوراً.

رجال بجانب القاضي

على أن الفصل في الخصومات لم يترك كله للقاضي وحده. فقد قام إلى جانب رجال القضاء النظر في المظالم الذي بدأ في أيام المهدي (158 169م/775-785هـ). وكان هذا الخليفة يتبع سياسة دينية خاصة أرادها أن تميّزه في سلوكه عن سواه. فأنشأ (النظر في المظالم). وكان يتولى ذلك بنفسه ويتلقى فيها شكاوى الناس حتى ضد كبار موظفي الدولة، وبذلك كان القوم يتأكدون من أن العدل قائم أيامه ظل المهدي وخلفاؤه حتى أيام المهتدي (252-255هـ/866-869م)، أي لفترة امتدت نحو قرن. يجلسون في يوم (أو حتى في يومين) في الأسبوع لسماع الشكاوى ضد أولي الأمر، بما في ذلك شكاوى ضد أحكام أصدرها قضاة. فالنظام القضائي في الإسلام، على ما كان عليه يومها، لم يحتو على نظام لاستئناف أحكام القضاة. فكان ديوان المظالم (كما سمّي فيما بعد) يعوّض عن ذلك. ولم يقتصر الجلوس للمظالم على الخليفة، فقد جلس الوزراء والولاة وأمراء الدول شبه المستقلة وسلاطينها للنظر في المظالم.

في القرن الرابع/العاشر وما تلاه، اضطربت أمور الخلافة، الأمر الذي أصاب نظمها كلها، الإدارية والمالية والقضائية، بالخلل. وقد ازداد الأمر سوءاً لما دخل أحمد البويهي بغداد (334هـ/945م) وجعل الخليفة أسير إرادة البويهيين لمدة تزيد على القرن، فجاء طغرل السلجوقي بغداد (447هـ/1055م) ليزيل الكابوس البويهي الشيعي عن الخليفة السني، واستعاض عنه كابوساً سنياً أقوى وأشد.

وقد تعرّض عدد من الفقهاء لهذه الأحوال أملاً بتثبيت الشريعة، ولكن الفقيه العالم الذي وصف الداء وجرّب أن يعد الدواء فهو الماوردي.

وُلد الماوردي في البصرة (364هـ/974م) وتوفي في بغداد (450هـ/1058م). وكتابه الذي يعنينا هنا هو (الأحكام السلطانية والولايات الدينية). وفي رأينا أن الماوردي (شَرْعَن) وبعلم ودقة ومهارة، جميع الأنظمة المدنية والعسكرية والدينية التي كانت معروفة في أيامه، أي أنه أعطاها صفة شرعية دينية، واعتبرها أنها كلها تحت إمرة الخليفة الذي قد يعتمد وزيراً أو قائداً أو قاضياً أو ناظراً في المظالم ليقوم بالمهمة نيابة عنه. ويرى الباحثون أن الماوردي رمى من وراء ذلك إعادة الاعتبار للخليفة ومقامه عن طريق هذه (الشّرْعَنة).

ديوان المظالم

من هنا جاء تحديده لديوان المظالم ومقارنته إياه بالقضاء. وقد جاءت المقارنة في وجوه هي:

(1) القاضي لا يتمتع بهيبة وقوة يد صاحب المظالم، (2) صاحب المظالم أفسح مجالاً وأوسع مقالاً من القاضي، (3) صاحب المظالم له حق استعمال القوة والبطش للوصول إلى الحقيقة، (4) صاحب المظالم هو قاض ومنفذ في الوقت نفسه، (5) يحق لصاحب المظالم عقد الصلح بين المتنازعين ولا يحق ذلك للقاضي إلا عند رضا الخصمين بالرد، (6) يحق لصاحب المظالم إلزام الخصمين بالتناصف ولا يحق ذلك للقاضي، (7) يستطيع صاحب المظالم أن يستمع إلى شهادة أناس لا يستطيع أن يتوصل القاضي إليهم، (8) يمكن لصاحب المظالم أن يُكثر عدد الشهود وأن يعيد استحلافهم وليس هذا في مقدور القاضي، (9) يجوز لصاحب المظالم استدعاء الشهود قبل الخصوم، أما القاضي فيجب أن يبدأ بالمدّعي ثم يسأل الشهود، (10) أن صاحب المظالم ينفذ ما يعجز القضاة عن تنفيذه.

(عصام محمد شبارو، القضاء والقضاة في الإسلام (العصر العباسي)، بيروت، دار النهضة العربية، 1982م- ص 332-333).

يتضح من هذا التلخيص لرأي الماوردي أن النظر في المظالم توسعـت آفاقه خلال الفتـرة التي مرت بين أيام المهـدي العباسي وأيام الفقـيه الكبير الماوردي (متز، المكان المذكور، ص 432-433).

أن النظم التي أشرنا إليها انتشرت في أنحاءالعالم الإسلامي. فقد درج الأمراء والسلاطين على اقتباس نظم دار الخلافة في بلاطاتهم. بدءاً بالطولونيين في مصر (القرن الثالث/التاسع) وخلفائهم فيها الأخشيديين (القرن الرابع/العاشر) وسوى هاتين من الدول التي قامت في المشرق كان فيها قضاة وقضاة قضاء ونظر في المظالم. فقد كان من الطبيعي أن يقلد هؤلاء الأمراء أو السلاطين النظم التي كانت تغمر دار الخلافة. وكان الأمر على مثل هذا في المغرب الإسلامي. لكن قاضي القضاة هناك كان يسمى قاضي الجماعة.

وفي غمرة فترة الاضطراب الذي عمّ بلاد الشام في القرنين الرابع والخامس/العاشر والحادي عشر، الأمر الذي أدى إلى قيام القتال والحروب بين الدويلات والإمارات، كان لابد من وجود قاض يفصل في الخصومات ومن مرجع كبير، هو رأس الدويلة، الذي قد يقوم مقام صاحب المظالم، وإن لم يُسمّ دوماً بالاسم نفسه.

المماليك والقضاء

لما قامت دولة المماليك في مصر (648-923هـ/1250-1517م) وتولى شئونها الملك الظاهر بيبرس (658-676هـ/1260-1277م) قام بتنظيم شئونها إدارياً وقضائيا وعسكرياً، وأدخل الأنظمة نفسها فيما كان في أيدي المماليك من بلاد الشام، وقد عُممت هذه فيما بعد لما تم للمماليك إخراج الصليبيين نهائياً من المنطقة سنة 693هـ /1291م.

وقد قسمت بلاد الشام إدارياً إلى ست (وأحياناً

ثماني) نيابات أو ممالك، وكانت لمملكتي دمشق وحلب التقدم على البقية.

ولسنا ننوي التحدث عن النظام الإداري بكامله، ولكننا سنقتصر على ما يخص القضاء منه.

أول ما عيّن من القضاة في مصر، من قاضي القضاة حتى القضاة العاديين، تم في أيام بيبرس، وكان المذهب الشافعي هو المذهب الوحيد. لكن بيبرس نفسه رأى أن يكون في القاهرة أربعة من أئمة القضاء (والقضاة أنفسهم)، فعيّن قاضي قضاة لكل من المذاهب الأربعة (سنة 660هـ/1262م). ونشر هذا في بلاد الشام، فيما كان بيد الدولة المملوكية، وعُمّم الأمر على بقية البلاد فيما بعد.

كان في كل عاصمة من عواصم نواب السلطنة أربعة قضاة قضاء، واحد لكل مذهب. لكن الاثنين اللذين كانا في دمشق وحلب كانا أرفع مقاماً من زملائهما في الممالك (نيابات السلطنة) الأخرى. وكان قاضي قضاة دمشق هو الذي يشرف، فضلاً عن شئون القضاء والمحاكمات، على الأوقاف والصدقات وحقوق اليتامى والتعليم، سواء منه الذي كان يتم في الجامع أو في المدرسة. (وهذا واجب جديد أضيف إلى صاحب المنصب). ومثل ذلك يقال عن قاضي قضاة حلب، أما في المراكز الأقل أهمية، فالواجبات المطلوبة من قاضي القضاة تظل علـى حالها.

فضلاً عن أهل القضاء الذين كانوا يفصلون في الخصومات، كان ثمة في دمشق وحلب على وجه التأكيد موظف أطلق عليه (مفتي دار العدل) (أي دار القضاء). لم يكن لهذا الموظف عمل قضائي، لكنه كان يوضح بعض ما خفي من شئون الشريعة للقضاة عندما يستفتونه.

وكان في دمشق قاضيان للعسكر، كان العمل المنوط بهما هو الفصل فيما يقع بين الجند من خلافات.

الجديد في هذا التنظيم هو منصب الإفتاء، ولسنا نعرف أصل هذا المنصب في الإسلام. (إننا نرجو ممن يعرف شيئاً عن سابقة وجود (المفتي)، أن يتفضل فيوضحه لقرّاء العربي ولكاتب هذه السطور).

الدور الحضاري للقضاء

هذا الدور المتنوع والمتشعّب للقاضي، في نواحيه المختلفة، ماذا قدّم للحضارة العربية الإسلامية?

حريّ بالذكر أنه لم تنشأ في الإسلام هيئة للتشريع، ذلك بأن القرآن الكريم والسنة النبوية اكتمل فيهما حكم الشرع. وكل ما يتطلبه الأمر أن يُفسّر هذان تفسيراً صحيحاً معقولاً مسنداً كي تحل جميع القضايا التي يمكن أن تعترض الأفراد في خصوماتهم وحتى فيما يتعلق بالحكم نفسه. فهناك أحكام وحدود صريحة، والمهم أن يتولى أولو الأمر تطبيقها. لكن الفتوح الواسعة والدولة الممتدة على رقعة واسعة من البلاد وإدارة هذه الرقعة لم يُشرّع لها في المصدرين الأولين. فالنواحي الإدارية تدبّر رجال الحكم والسياسة أمرها اقتباساً وتعديلاً وتقنينا بأوامر ومعاهدات حوفظ فيها على الروح الإسلامية الأصلية.

لكن تفسير هذه الأحكام والحدود وتعيين سبيل تنفيذها أو تطبيقها على أمور الناس اليومية وشئونها المعاشية وخصوماتهم الدائمة ونزاعاتهم المستمرة، كان أمراً يحتاج إلى تفسير لها وتوضيح لمعانيها في دولة حديثة النشأة. ومن هنا كان القضاة، وخاصة الكبار منهم، معرفة لا منصباً بالضرورة، يجتهدون في الوصول إلى تفسير الأمور الكثيرة الواردة في الأصل. وإذن، ففي الفترة الأولى كان القاضي يبدي رأياً. ومن هنا يعتبر القاضي في جماعة المجتهدين بالنسبة لأحكام الشرع وحدوده.

ومن حيث إنه لم تكن قد قامت في دولة الخلافة المبكّرة بعد طريقة واحدة، ولعل قيامها لم يكن ممكناً، بالنسبة إلى السياسة المالية، فإننا نجد أن بعض القضاة يوجه همّه إلى توضيح هذه القضايا. فأبويوسف، قاضي قضاة الرشيد، يضع كتاباً في (الخراج)، كي يُهتدى به في شئون هذه القضية المهمة، والماوردي، الذي جاء بعده بفترة طويلة، وكان (أقضى القضاة)، يؤلف لا في الفقه والتشريع فحسب، بل يكتب (الأحكام السلطانية)، ليرسم نظاماً سياسياً إدارياً جامعاً لدولة الخلافة.

وكان جلوس صاحب المظالم فيه محاولة عملية في سبيل تنمية العمل القضائي من الوجهة العملية. لكن كان لابد لبعض الأحكام أو أساليب معالجة القضايا من أن تدخل صميم النواحي الشرعية التفسيرية. وديوان المظالم، لما أنشئ، كان واحداً من الأجهزة القضائية.

ولما انغلق باب الاجتهاد وأصبح الحكم يجب أن يتبع واحداً من المذاهب الأربعة السنيّة، بدا وكأن القاضي سدّت في وجهه أبواب الرأي أو الاجتهاد. ولكن عندما نأخذ مثلاً من هذه المذاهب المذهب الشافعي، فإننا نجد أن القاضي أصبح مقيّداً لأن الشرع كان له ـ في نظر الإمام الكبير ـ أربعة أسس: القرآن الكريم والسنّة النبوية وإجماع العارفين بالأمرين والقياس على قاعدة سابقة. فما الذي يصنعه القاضي إن لم يجد في أي من هذه القواعد الأربع ما ينير سبيله? الجواب الذي يأتينا من أخبار القضاء والقضاة هو أنه كان يحاول الاسترشاد والاستفهام ممن هم أعرف منه وهم الفقهاء أو العلماء. ومعنى هذا أن عدداً كبيراً جداً من المشكلات والقضايا أثارها (القضاة) وحملوا أهل المعرفة على إعانتهم. فكان هذا عملاً من أعمال القاضي. كان يثير القضايا مباشرة وعلى أهل المعرفة أن يزوّدوه بالرأي. وغالباً ما كانت توجد الحلول للمشكلات المختلفة والقضايا المتنوعة، ولولا إثارة القاضي هذه الأمور، لظلت غائبة عن المجال الذي كان من الضروري أن تشغله.

ونقع على منصب المفتي، الذي تؤكد المصادر أنه كان عليه أن ينير القاضي إذا استشاره. من هنا نرى أنه، مع انغلاق باب الاجتهاد الواسع، ظل هناك اجتهاد، ولو محدوداً، تُبدى فيه الآراء في قضايا تقع بين الناس في حياتهم، كان لابد من إيجاد حلول لها.

وتحضرنا بهذه المناسبة مسألة مهمة، في جهات مختلفة في العالم الإسلامي، وبعد القرن الرابع/العاشر خاصة، ظهرت كتب الفتاوى (وهي التي تسمى النوازل في الغرب الإسلامي)، ونتساءل: هل كانت هذه الكتب في الفتاوى تحوي أجوبة عن أسئلة واقعية، أم أن بعضها كان أموراً خطرت للمؤلفين بعد التفكير في قضايا المجتمع، فسأل المؤلف نفسه سؤالاً فرضياً ثم حاول أن يجيب عليه في إطار المتعارف عليه والمقبول عن المعرفة الشرعية مع بذل بعض الجهد في سبيل (اجتهاد) مخفي?

كان للقاضي دور في الحضارة العربية الإسلامية. ونأمل أن نكون قد رسمنا له صورة، ولو أولية.

 

نقولا زيادة