العباسيون يرعون العلم والعلماء

العباسيون يرعون العلم والعلماء

الدور الذي تنهض به، في أيامنا هذه، المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وبعض البيوتات والشخصيات، العامة منها والخاصة، في رعاية الحركة العلمية في العالم العربي، ليس ظاهرة جديدة في تاريخنا العربي والإسلامي.

إن النهضة العلمية، التي شهدها العصر العباسي، والتي شكلت صفحة من أروع صفحات العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، كانت ثمرة جملة من العوامل، وفي مقدمتها الرعاية التي حظيت بها هذه النهضة، مادياً ومعنوياً، من طرف عدد من الخلفاء والوزراء، فضلاً عن بعض الأسر والشخصيات الموسرة، التي شغفت بالعلم والأدب. ويمكن القول إنه ما كان لهذه النهضة أن تنطلق وتتفتح براعمها وتزهو لولا تلك الرعاية.

ومن المعروف أن خلفاء العصر العباسي الأول، عامة، وكبار رجال الدولة والمجتمع فيه، أحبوا العلم وأهله، ودعموا الحركة العلمية ورجالها، ووفروا لها أسباب النجاح والازدهار، وكانوا هم أنفسهم فاعلين فيها، بما تميزوا به من إمكانات علمية وأدبية، بحيث جعلت بعضهم في مصاف العلماء والأدباء. وبعبارة أخرى فإن رعاية هولاء لم تقتصر على توفير الجوانب المادية والمعنوية، التي تتطلبها النهضة العلمية، فحسب، وإنما أسهموا بأنفسهم فيها، سواء بما طرحوه أمام رجال الفكر، آنذاك، من إشكاليات تتطلب المناقشة والبحث، أو بما شاركوا فيها بإمكاناتهم المادية والعلمية والأدبية. وهذا ما أعطى النهضة العلمية في ذلك العصر المتميز (نكهة) خاصة لم تعرفها العصور التالية.

الراعي الأول

أجمع المؤرخون على أن الخليفة العباسي الثاني، وهو أبوجعفر المنصور (ت 158 هـ/775م)، كان أول رعاة العلم من خلفاء بني العباس. فعلى الرغم من انشغاله في تثبيت أركان دولته، فقد اهتم اهتماماً كبيراً برعاية الحركة العلمية. فقد كان الخليفة نفسه كما تؤكد المصادر (جيد المشاركة في العلم والأدب) وكان (بارعا في الفقه ومتقدما في الفلسفة) وعلم الفلك. هذا فضلا عن أنه كان (أعلم الناس بالحديث والأنساب) و(مشهوراً بطلبه). كما كان المنصور أول الخلفاء العباسيين الذين رعوا حركة الترجمة. فقد تُرجمت له كتب كثيرة من اليونانية والفارسية إلى العربية، فقد ترجم له، على سبيل المثال، طبيبه النسطوري جورجيس بن بختيشوع، عدداً من الكتب، من اليونانية إلى العربية، لاسيما تلك المتعلقة بالطب. كما ترجم له البطريق بن البطريق (أشياء) من الكتب اليونانية القديمة، وبخاصة من كتب أبقراط وجالينوس. كما ترجم محمد إبراهيم الفزاري للمنصور كتاب (السند هند)، من الهندية إلى العربية. وكان هذا الكتاب من أشهر كتب الفلك آنذاك، وغدا نموذجاً للتآليف العلمية التالية في هذا الميدان. وكان أبو جعفر المنصور محباً لأهل العلم. فتتحدث المصادر عن مدى التواضع والمودة التي كان يعامل بهما العلماء والأدباء. فقد أحاط طبيبه جورجيس، مثلاً، خلال السنوات التي أمضاها في بغداد، بالتكريم والاحترام. فعندما مرض لم يتردد الخليفة في زيارته وتفقد أحواله يوماً بيوم. وعندما رغب في العودة إلى أهله في جنديسابور بعثه معززاً مكرماً برفقة عدد من رجاله.

وتابع الخليفة هارون الرشيد (ت 193 هـ/809م) ما كان قد بدأه جده المنصور من رعاية للحركة العلمية، بل فاقه في تعدد أشكالها وتنوعها وشموليتها. فقد شغف الرشيد نفسه بالعلم والأدب، بل كان هو نفسه (شاعراً وراوية للأخبار والآثار والأسفار..). ولم يعرف التاريخ خليفة رحل طلبا للعلم، إلا الرشيد. فقد رحل بولديه، الأمين والمأمون، لسماع الموطأ على الإمام مالك. وجلب الرشيد أثناء فتوحاته في بلاد الروم، ولاسيما من مدينتي أنقرة وعمورية وغيرهما، الكثير من مخطوطات التراث اليوناني ووضعها في مكتبة خاصة، عُرفت باسم (خزانة الحكمة) وكلف من يترجمها للعربية. وعين يوحنا بن ماسويه أمينا على الترجمة، ووضع تحت تصرفه عدداً من الكتاب المهرة. ويبدو أن الترجمة غدت منذ ذلك الوقت فصاعداً سياسة عامة للدولة العباسية. كما عقد الرشيد في قصره المجالس العلمية، التي كانت تضم كبار علماء عصره، كالأصمعي والكسائي وسيبويه والواقدي وأبي عبيدة وأبي العتاهية والفقيه المشهور أبي يوسف يعقوب ودعبل وإبراهيم الموصلي وابنه اسحق وغيرهم. وكانت تدور في هذا المجلس المناظرات العلمية والأدبية برعاية الخليفة ومشاركته. وكان افتتاح أول مصنع للورق في بغداد، في عهد الرشيد، خدمة كبيرة للعلم والعلماء وبداية عصر جديد في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية.

وحظي العلماء والأدباء باحترام وتكريم فائقين من الرشيد. فيروي أحد العلماء، وهو أبومعاوية الضرير، أنه أكل مع الرشيد يوماً، ثم صب الماء على يديه رجل لا يعرفه (ثم قال الرشيد: أتدري من يصب عليك? قلت: لا يا أمير المؤمنين، قال: أنا. فقلت: يا أمير المؤمنين أنت تفعل ذلك إجلالا للعلم فقال: نعم). وتذكر المصادر أن الرشيد لم ينقطع عن زيارة العالم الكسائي أثناء مرضه. ونال العلماء والأدباء، على اختلاف فئاتهم وعلومهم، الفقهاء منهم والقراء والشعراء والأدباء والقضاة.. إلخ أموالاً طائلة من الخليفة (حيث كان يصل كل واحد منهم أجزل صلة ويرفعه إلى أعلى درجة)، بل كانت هناك فئة من العلماء والأطباء، تتناول مخصصات مالية ثابتة، نقدية وعينية، من بيت المال، العام منه والخاص.

المأمون وبيت الحكمة

وبلغت رعاية الخلفاء العباسيين للعلم ذروتها في أيام الخليفة المأمون (ت 218 هـ/832م). فقد أجمع المؤرخون على أنه لم يل الخلافة من بني العباس أعلم من المأمون. فقد كان (من أفاضل خلفائهم وعلمائهم وحكمائهم)، بل عدّه بعضهم من (كبار العلماء)، حيث (برع في الفقه والعربية وأيام العرب والفلسفة وعلوم الأوائل ومهر بها). ومن المعروف أنه عندما تولى المأمون الخلافة واستقر في بغداد، شكل مجلسا من أهل العلم والأدب، للمناقشة والمناظرة، وكان يُعقد كل يوم ثلاثاء، تحت رعاية الخليفة نفسه ومشاركته. وقد ضمَّ المجلس علماء وأدباء من شتى الملل والنحل، وكانوا يتناقشون في أهم القضايا الفكرية والعلمية، ويطرحون آراءهم بحرية كاملة دون حرج أو خوف، بل كان العلماء، في العالم الإسلامي يتنافسون لبناء سمعة علمية والحصول على شرف حضور هذا المجلس.

وازدهر في عهد المأمون (بيت الحكمة). فعلى الرغم من أن نواة هذا (البيت) تعود إلى (خزانة الحكمة) التي أسسها والده، فإنه غدا في عهده (مجمعاً) ثقافيا وعلمياً متكاملاً، حيث اشتمل على قاعات للترجمة والنسخ والبحث والمطالعة والمناظرة، وعلى مكتبة مفتوحة لمن يرغب في العلم. واجتمعت في هذا (البيت) كنوز الثقافة العربية الإسلامية مع كنوز الثقافات الأجنبية، لاسيما اليونانية والفارسية والهندية والسريانية. وكان المأمون قد تمكن، ومن خلال مراسلاته مع أباطرة الروم، من الحصول على عدد ضخم من (مخطوطات) التراث اليوناني. فقد بعث وفوداً عديدة من العلماء إلى آسيا الصغرى وقبرص وغيرهما من بلاد الروم. وكان من بين هؤلاء: الحجاج بن مطر ويوحنا بن البطريق ويوحنا بن ماسويه وغيرهم. وقد اختاروا أحمالاً من تلك المخطوطات، وجلبوها إلى (بيت الحكمة) في بغداد، بعد أن تسلم الروم أموالا طائلة ثمنا لها. وكانت هذه المخطوطات تتعلق بالفلسفة والطب والفلك والهندسة وغيرها من العلوم. وتخير المأمون أمهر التراجمة لنقلها إلى العربية، وكان من بينهم: حنين بن إسحق وابنه إسحق، ويوحنا بن البطريق والحجاج بن مطر وغيرهم.

وقد أنفق الخليفة مبالغ ضخمة في ترجمتها، فبالإضافة إلى (الأرزاق) الشهرية الثابتة التي كان يحصل عليها المترجمون من (بيت الحكمة)، فقد انفرد بعض المترجمين المتميزين بمكافآت خاصة، مثل حنين بن إسحق، الذي كان يعطيه المأمون زنة ما يترجمه ذهباً. وقد نهض (بيت الحكمة) وما ترجم فيه، بدور مهم في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية.

وقد أحب المأمون العلماء وشملهم برعايته. فقد كان يردد دائماً أنه كان يتمنى لو أن أبا يوسف يعقوب لايزال على قيد الحياة (فنتزين به). كما بذل المأمون جهودا كبيرة لإقناع الأصمعي بالانتقال من البصرة إلى بغداد، ولكنه كان يعتذر بكبر سنه وضعف صحته. ولهذا كان المأمون يجمع المشكل من المسائل ويسيرها إليه ليجيب عنها. وتذكر المصادر أن المأمون أفرد حجرة في قصره لأبي زكريا الفراء لكي يؤلف كتاباً يجمع به أصول النحو العربي وما سمع من العربية ووكل به الجواري والخدم للقيام بما يحتاج إليه. وبعث له بالوراقين ليكتبوا ما يملي عليهم، حتى صنف كتاب (الحدود) خلال سنتين. وكان المأمون قد عهد للفراء نفسه بتلقين ابنيه النحو. وفي أحد الأيام أراد الفراء أن ينهض لقضاء بعض حوائجه، فأسرعا إلى نعله ليقدماه له (فتنازع الأخوان أيهما يقدمه، ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما فرداً، فقدماها). وعندما علم المأمون بذلك استدعى الفراء وسأله عن حقيقة الأمر فقال: يا أمير المؤمنين لقد أردت منعهما عن ذلك.. فقال المأمون: (لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لوماً وعتباً وألزمتك ذنباً. وما وضع ما فعلاه من شرفهما بل رفع من قدرهما..). كما كان المأمون يقضي ديون بعض العلماء، فيروي المؤخون أن ضائقة مالية ألمت بالعالم والمؤرخ المشهور، الواقدي، واضطر بسببها إلى الاستدانة. وعندما علم المأمون بذلك بعث له مبلغاً يعادل ضعف ما كان الواقدي بحاجة إليه.

ولم تقتصر رعاية الخليفة المأمون للعلم والعلماء على عقد المجالس العلمية والحصول على المخطوطات اليونانية وترجمتها، واحترام العلماء وتشجيعهم، وإنما حضَّ العلماء على محاولة نقل الأفكار العلمية إلى وقائع، أي تحويل العلم إلى (تكنولوجيا). فقد طلب منهم، مثلاً، صنع آلات الرصد التي وصفها الجغرافي اليوناني بطليموس في كتابه (المجسطي) أي (الكتاب الأعظم) ونجحوا في ذلك وأقاموا المراصد في عدد من المدن العربية، مثل بغداد ودمشق، كما قاموا بقياس محيط الأرض. كما حضَّ المأمون الناس على الاهتمام بالتراث اليوناني وتعلمه، وقد استجاب لدعوته الكثير من رجال العلم والأدب. وفضلا عن ذلك كله فقد ترعرع في أحضان (بيت الحكمة) عدد من الأعلام الأفذاذ، أمثال: أولاد موسى بن شاكر والخوارزمي وسهل بن هارون وحنين بن إسحق وابنه وثابت بن قرة وغيرهم. وخلاصة القول أن جهود المأمون في رعاية العلم والعلماء، وبما اتسمت به من تنوع وعمق وشمولية، كانت عاملا مهما في تطور الثقافة العربية الإسلامية ودفعها إلى آفاق جديدة.

البرامكة والنهضة العلمية

واقتدى الكثير من الوزراء، في العصر العباسي، بالخلفاء في رعاية العلم والعلماء. ويأتي البرامكة، وزراء الرشيد، في مقدمة هؤلاء جميعاً. وبصرف النظر عن علاقتهم بالرشيد وما حل بهم على يديه، فقد كان لهؤلاء دور كبير في تشجيع العلم وأهله، وبالتالي في رعاية النهضة العلمية في عصرهم، فالوزراء في ذلك العصر لم يكونوا مجرد رجال سياسة وإدارة فحسب، وإنما كانوا في معظم الأحيان من رجال العلم والأدب أيضاً. فقد كان يحيى البرمكي (ت 190 هـ/805م) وولداه، الفضل وجعفر، بصفة خاصة، من محبي العلم والعلماء، وذوي مواهب أدبية متميزة. فقال أحد المؤرخين عن يحيى انه كان (كاتباً بليغاً لبيباً أديباً)، وإنه كان يقول لأولاده: (اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون). كما ذكرت المصادر أن أحداً لم يبلغ ما بلغه جعفر بن يحيى في البلاغة والفصاحة.

وقد تعددت أشكال رعاية البرامكة للعلم والعلماء، فقد كان ليحيى، وكذلك لابنه جعفر، مجلس فيه كثير من أهل العلم والأدب، للمنادمة والمناظرة، في الكثير من فروع العلم والمعرفة، ولاسيما في اللغة والنحو والأدب. وكان يحضر هذا المجلس علماء كالفراء والكسائي والواقدي وأبي يعقوب وغيرهم. كما كان البرامكة من رعاة حركة الترجمة في عصرهم، حيث تمت ترجمة بعض كتب التراث الفارسي والهندي واليوناني إلى العربية برعايتهم وتشجيعهم، وبذلوا أموالا طائلة للمترجمين. فقد منحوا أبان بن عبدالحميد، على سبيل المثال لا الحصر، مبلغا قدره خمسة عشر ألف دينار مقابل ترجمة (كليلة ودمنة) من الفارسية إلى العربية شعراً. كما اهتم البرامكة بترجمة التراث اليوناني وتفسيره. فقد عني يحيى البرمكي مثلا بكتاب (المجسطي) لبطليموس، حيث كلف فئة من العلماء والمترجمين بإعادة النظر في الكتاب، ترجمةً وتفسيراً، حتى خرج بالشكل اللائق. وكان للبرامكة دور في استقدام عدد من أمهر العلماء والأطباء إلى البلاط العباسي. فقد كان يحيى البرمكي هو الذي نصح الرشيد باستدعاء الطبيب النسطوري بختيشوع من جند نيسابور لمعالجته، وقد استقر أبناء هذا الطبيب وأحفاده في خدمة البلاط العباسي، وقاموا بدور مهم في تطوير الطب، ممارسة وعلماً، على امتداد قرنين ونيف. كما كان قدوم الطبيب الهندي (منكة) إلى بغداد بإشارة من يحيى هذا، وقد نقل (منكة) عدداً من الكتب من الهندية إلى العربية. وصنَّف بعض العلماء والأدباء كتباً بناء على طلب البرامكة أو تكريماً لهم. فقد ألف جابر بن حيان، مثلا (كتاب اسطقس الآسي الأول) للبرامكة، وألف اليزيدي كتاب (النوادر) في اللغة لجعفر البرمكي. هذا فضلا عن أنه كان هناك عدد كبير من الشعراء الذين اختصوا بمدح البرامكة. ولاشك في أن هذا كله أثرى الحركة العلمية والأدبية في ذلك العصر أيما إثراء. وتشير المصادر إلى أن الفضل بن يحيى هو الذي أشار على الخليفة الرشيد بفتح أول مصنع للورق في بغداد، لأن الفضل كان قد تعرف على ورق سمرقند عندما كان واليا للرشيد على خراسان. أما عن تكريم البرامكة لأهل العلم والأدب فهو أشهر من أن يُذكر، ولاسيما أن البرامكة فاقوا أبناء عصرهم بذخاً وكرماً وسخاء. وقد لخص أحد المؤرخين هذه المسألة بقوله عن يحيى البرمكي بأنه كان (محبا للأدب مكرما للأدباء والشعراء مغدقا عليهم أجزل العطايا والهبات). بل كانت هناك فئة من العلماء والأدباء والأطباء تتناول مرتبات ثابتة من البرامكة، فالطبيب النسطوري جبرائيل بن بختشيوع كان يتحصل له من البرامكة سنوياً مبلغ قدره مليونان وأربعمائة ألف درهم، وظل يتقاضى هذا المبلغ مدة ثلاث عشرة سنة.

الوزير العالم

ويعد الوزير محمد بن عبدالملك الزيات (ت 233 هـ/847م) إحدى الشخصيات الرسمية التي رعت العلم وشجعت رجاله. وكان الزيات قد تسلم الوزارة في عهد الخليفة المعتصم (ت/227 هـ/842) والواثق (ت 233هـ/847م)، وأياما في خلافة المتوكل (ت 247 هـ/861م). وقد عُرف ابن الزيات في عصره بأنه واحد من علماء النحو واللغة والأدب، فضلا عن أنه شاعر وناقد فذ. وقد وصفه أحد المؤرخين بحق بأنه (صار نادرة وقته عقلاً وذكاءً وشعراً وأدباً..). كما أشاد بعض شعراء عصره بما كان عليه من علم وأدب. وقد امتلك ابن الزيات مكتبة اشتملت على عدد ضخم من الكتب النادرة. ويروى أن الجاحظ أراد زيارة الزيات، وكان عندئذ وزير المعتصم. فلم يجد ما يهديه له أفضل من كتاب (سيبويه) فقال له ابن الزيات: (أو ظننت أن خزانتنا خالية من هذا الكتاب? فقال الجاحظ: ما ظننت ذلك، ولكنها بخط الفراء ومقابلة الكسائي وتهذيب عمرو بن بحر الجاحظ) يعني نفسه.

وقد سار ابن الزيات سيرة الخلفاء العباسيين في رعاية العلم ورجاله. فقد كان له مجلس على غرار ما كان للرشيد والمأمون. وقد اجتمع فيه العلماء والأدباء للمناظرة، بإشرافه ومشاركته. وكان يحضره أبوعثمان المازني وابن السكيت وغيرهما من العلماء. كما رعى ابن الزيات حركة الترجمة آنذاك وبخاصة من اليونانية إلى العربية. فقد نُقلت له أعداد من المخطوطات اليونانية إلى العربية. وكان يُترجم له أمهر العلماء المترجمين أمثال: يوحنا بن ماسويه وجبرائيل بن بختيشوع وحنين بن إسحق وغيرهم. فقد نقل له الأخير عن اليونانية، مثلا كتاب (الصوت) لجالينوس. ويؤكد المؤرخون أن ابن الزيات كان يدفع للنقلة والنساخ مبلغاً شهرياً قدره ألفا دينار. هذا عدا ما كان يدفعه للعلماء والأدباء الذين كانوا يهدونه بعض مؤلفاتهم. فقد أهداه صديقه الجاحظ، مثلاً، كتابه (الحيوان) فأعطاه خمسة آلاف دينار.

البعثات العلمية

ودخلت بعض الأسر، لتنافس الخلفاء والوزراء في رعاية الحركة العلمية ورجالها، و(الناس على دين ملوكها) كما يقال. وكانت أسرة بني موسى بن شاكر أكثرها شهرة في ذلك العصر، لاسيما أن دورها لم يقتصر على تشجيع العلم وتكريم العلماء فحسب وإنما أسهم أبناؤها بإنجازاتهم العلمية في تطوير الكثير من فروع العلم والمعرفة. وتشير المصادر إلى أن موسى بن شاكر كان من أصحاب الخليفة المأمون وكبار منجميه. وعند وفاته تولى المأمون الوصاية على أولاده: محمد وأحمد والحسن. وقد تربى هولاء الإخوة وتلقوا تعليمهم في أحضان (بيت الحكمة) تحت رعاية مديره الفلكي المشهور يحيى بن أبي منصور. ونبغ أولاد موسى في عدد من العلوم، كالهندسة والفلك والحيل (الميكانيك)، ولهم مؤلفات كثيرة، لعل أكثرها شهرة كتابهم المعروف باسم (جبل بني موسى) الذي ترجم إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي بعنوان (كتاب الأخوة الثلاثة). وقد أوفد بنو موسى البعثات العلمية إلى بلاد الروم، على نفقتهم الخاصة، وجلبت لهم المخطوطات، ولاسيما ما كان يتعلق منها بالفلسفة والهندسة والرياضيات والطب والفلك والموسيقى، بعدأن دفعت أموالاً طائلة ثمنا لها. وقد ضمت هذه البعثات علماء مثل: حنين بن إسحق. وكلف أبناء موسى أمهر التراجمة لنقلها من اليونانية إلى العربية. وكانوا يدفعون مبلغا شهريا قدره خمسمائة دينار للتراجمة. وكان من بين هؤلاء حنين بن إسحق وابن أخته حبيش بن الأعسم وثابت بن قرة وغيرهم. وقد لخص أحد المؤرخين جهود بني موسى في رعاية العلم بقوله: (وهؤلاء القوم ممن تناهى في طلب العلوم القديمة وبذل فيها الرغائب وأتعبوا فيها نفوسهم، وأنفذوا إلى بلد الروم من أخرجها إليهم، فأحضروا النقلة من الأصقاع والأماكن بالبذل السني فأظهر عجائب...). والواقع أن فضل هذه الأسرة على النهضة العلمية، في ذلك العصر، لا يعود إلى مؤلفاتهم وإنما يعود أيضا إلى ما تخرج في دارهم من علماء، أمثال ثابت بن قرة، الذي غدا واحداً من أعظم علماء الفلك في العصور الوسطى.

ويهمنا أن نؤكد على أن ما تحقق في ذلك العصر، في الميادين العلمية والأدبية كافة، قد أسهم إسهاماً مباشراً في بناء الحضارة العربية الإسلامية وازدهارها. وما حظي به العلم والعلماء من رعاية، آنذاك، غدا نموذجاً اقتدى به خلفاء وملوك وأمراء القرون التالية، سواء في عاصمة الخلافة العباسية أو في عواصم الممالك والإمارات التي استقلت عنها، في مشرق العالم الإسلامي ومغربه. والواقع أن من أهم ما يُسجل لرعاة العلم، في ذلك العصر، ليس ما تمتع به رجال العلم والأدب، من تشجيع وتكريم وتسامح.. فحسب، وإنما نجاحهم في فتح الأبواب لانطلاق (ثورة علمية)، وفي تحويل الرغبة في المعرفة إلى (همّ) عام لأبناء المجتمع العربي الإسلامي، بكل فئاتهم وطبقاتهم ومللهم ونحلهم. كما يُذكر لهؤلاء الرعاة أيضا الانفتاح على علوم الشعوب الأخرى وثقافاتها، والتعامل معها باحترام، بغض النظر عن طبيعتها وهوية مبدعيها.

حقا لقد كان ذلك العصر (عصراً استثنائياً) في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية وصدق من قال: (إذا كان الملكُ عَالمِاً صارَ العالمُ ملكاً).

 

عادل زيتون