شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

مؤامرة.. في فينيسيا..!

بعد أن تكون قد اخترقت ساعة ميدان سان مارك أمام الكاتدرائية الكبرى. وتدخل قصر الدوقية بفينيسيا (البندقية). تجد نفسك في مواجهة (سلم الجبابرة) هذا السلم الضخم يقوم على جانبيه العلويين تمثالان ضخمان إله الحرب (مارس) وإله البحار (نيبتون). وهما يرمزان لسيادة فينيسيا على البر والبحر. بين التمثالين الهائلين كان يتم تتويج الدوق فور انتخابه في حضور أبناء الشعب ورجال الحكم. المرة الوحيدة في تاريخ فينيسيا التي تكرر فيها وقوف إحدى الدوقات ليس لتتويجه، ولكن لخلع قلنسوة الرئاسة عنه كانت قبل قطع رأس الدوق وإعدامه. هذا الذي حدث مع الدوق (مارينو فالييرو) في 17 إبريل .1335 ومنذ صدور الحكم بإعدامه لم تفارقه زوجته (الدوجاريسا إنجولينا) الحسناء الوفية، لاسيما أنه كان مسوقاً إلى حتفه من جراء غيرته على شرفه وشرفها، وهي المنحدرة من أسرة لوردانو العريقة. وعبثاً حاولت أن تدفع عنه المصير التعس، في حين أن كبرياءه حال بينه وبين أن يلتمس الرأفة من المجلس الذي كان يرأسه.

ففي ظهر ذلك اليوم ذاته، اقتيد الدوق فالييرو إلى منتصف سلم الشرفة الكبرى وبين التمثالين الجبّارين، حيث كان قد تسلم قبل ذلك بأشهر قلائل قلنسوة رئاسة الجمهورية، القلنسوة التي أمروه بخلعها قبل أن يسلم عنقه للجلاد. وغرس الجلاد سيفه أولاً في شريان رقبته ليتدفق الدم بقوة قبل أن ينقض الجلاد بالبلطة ليفصل الرأس عن الجسد بضربة واحدة وسط السكون الرهيب الذي ساد ساحة القصر. وإذ ذاك شعرت زوجته الواقفة أمامه، وقد منعها الحراس من متابعة عملية قطع الرأس بأن الأرض مادت تحت قدميها ثم هوت بين أذرع وصيفاتها. وفتحت أبواب القصر على سعتها ودعي أهل فينيسيا جميعاً ليشاهدوا جثة بلا رأس لرجل لم يحظ حاكم بما حظي به من احترام الرعية وتقديرها، إذ كان أشد الحكام حرباً على الفساد حتى كان أجدرهم بالخلود.

كلمات رهيبة

تبدأ الحكاية مع ليلة الاحتفال الرسمي في قصر الدوق، حيث أقيمت أول مأدبة رسمية كبرى منذ تولي فالييرو الحكم وهو في الستين، بينما زوجته الحسناء رائعة الجمال في العشرين، وكان الاحتفال بمناسبة نجاحهما في القضاء على الخطيئة والمجون والانحلال الخلقي الذي كان يسود فينيسيا وبخاصة بين الشباب الذين لم يجترئ أحد منهم بعد ذلك أن ينبس بكلمة واحدة تشين الدوجاريسا أو تشيع أدنى شبهة حول وفائها لزوجها الكهل الذي ربطت بينها وبينه رابطة عاطفية عجيبة رغم الفارق الشاسع في السن.

وفيما كان المضيفان يجوسان خلال ضيوفهما، لمح فالييرو شابّاً رقيقاً لم يكن من المدعوين يضايق إحدى وصيفات أنجولينا بغزل وقح، فاشتد حنق الدوق وأمر بطرده من القصر، ولكن الشاب (ميشيل ستينو) لم ينس طرده بوحشية من الحراس الذين دفعوه إلى الخارج، وراح يحرق الأرض بحثاً عن وسيلة لرد الصفعة التي نالها. وذات ليلة، استطاع الفتى أن يتسلل إلى قاعة مجلس الدولة في غفلة من الحرس وسعى إلى مقعد الرئيس، فنقش عليه كلمات رهيبة تقول: (إن حظ مارينو فالييرو من زوجته الشابة الحسناء أنه يقتنيها بينما يستمتع بها غيره من الشباب..!).

كانت الإهانة كاذبة وسبّة لا مثيل لها، وبخاصة أنه قدر لفالييرو أن يكون أول مَن قرأ الكلمات الرهيبة حينما تقدم ليجلس على مقعده في اليوم التالي. وتلقى الدوق هذا التعريض بشرفه بغضب متأجج، فأمر بإجراء بحث دقيق للوصول إلى الجاني وتقديمه إلى مجلس القضاء كي يلقى جزاءه. وأعرب مجلس الشيوخ بأعضائه الأربعين عن تقديرهم لغضبة رئيس الجمهورية بأن أعلنوا عن مكافأة سخية لكل مَن يدلي بمعلومات تساعد على كشف المذنب.

بداية المؤامرة

لم يطل الوقت حتى كان الفتى استينو قد ألقي القبض عليه وحبس تحت الحراسة في زنازين القصر تمهيداً لإلقائه من (جسر التنهدات) الشهير. وانتشرت الفضيحة على كل لسان، وأصبحت حديث القوم في كل مكان، حتى كاد فالييرو يصاب بالجنون، وفي يوم المحاكمة في الساحة المجاورة للقصر، احتشد الناس وكلهم لا يشكون في أن المجلس سيقضي بالموت على المجرم استينو.

لهذا كان عجب الناس بالغاً حين أصدر المجلس حكمه بسجن المتهم بشهر واحد، وإقصائه عن فينيسيا عاماً واحداً رغم أنه اعترف بذنبه. وكان عجب فالييرو أشد وأعتى، وتأكد أن بعض أعضاء المجلس من الحاقدين عليه كانوا وراء ما حدث. وازداد غضب فالييرو الذي انصبّ على مجلس الشيوخ والقضاة. ووجد فرصته عندما أشار عليه أميرال البحرية بمؤامرة واسعة قائلاً: (إذا شئت أن تجعل نفسك يا سيدي أميراً حاكماً لا رئيس جمهورية منتخباً فسأمزّق أعضاء مجلس الأربعين ومجلس قضائهم، وثق بأنني في خدمتك).

كانت هذه الكلمات كافية لأن توحي إلى فالييرو بخطوط خطة لتمزيق ذلك الاتحاد الذي يجمع الأرستقراطيين على فساد وعفن. واستعرض الدوق مع الأميرال قائمة بأسماء الأوفياء الذين يمكن الاطمئنان إليهم من النبلاء والمحاربين الشجعان.

ورسمت الخطة بدقة وتكتّم بحيث يتربّص 17 قائدا في مواقع استراتيجية ومع كل منهم 40 رجلاً لا يعرفون شيئاً عن المهمة الموكولة إليهم. ورأوا أن يعهد إلى جماعات معينة بأن تثير شغباً يبيح للدوق بأن يأمر بدق الجرس الأكبر في كاتدرائية سان مارك والذي لم يكن يدق إلا إيذاناً بخطر عظيم يتهدد المدينة والشعب. وهكذا تم استدراج أعضاء الاتحاد والقضاة العشرة إلى الساحة لينقضّ عليهم القادة السبعة عشر ورجالهم في وقت واحد يعملون فيهم الذبح والتقتيل وفي كل مَن يجدونه في الساحة. ثم ينادى بماريو فالييرو حاكماً وأميراً على فينيسيا. وتحدد يوم 15 ابريل للتنفيذ.

غير أن الأمر لم يتم إذ عرف واحد من رجال أحد أعضاء المجلس بما كان يجري إعداده في الخفاء، فأسرع إلى سيده ينذره. وأسرع هذا ليجمع أعضاء الاتحاد في موقع سري بعيداً عن المجلس وتدبّروا الأمر واتخذت التدابير السريعة سرّاً لاعتقال زعماء المؤامرة. وصدرت الأوامر إلى كل فروع الشرطة بحشد رجالها والإغارة على دور جميع زعماء المؤامرة في آن واحد. وتم ذلك دون أن تتاح فرصة لهؤلاء للفرار. كل ذلك وفالييرو في غفلة لا يدري بشيء في انتظار ساعة الصفر الذي كان قد حدده مع الأميرال. ثم اجتمع المجلس للنظر في القضية فاجتمعوا على إدانة كل مَن اشتركوا في تدبير المؤامرة بمن فيهم رئيس المجلس فالييرو.

ولم يأت يوم 17 إبريل حتى كان معظم المتآمرين قد شنقوا وتدلت جثثهم بين أعمدة الشرفة الكبرى لقصر الدوق. كما صدر الحكم بإعدام فالييرو. ولم تفارقه زوجته أنجولينا لحظة واحدة في تلك الأثناء حيث تبيّنت أنه كان مسوقاً إلى حتفه من جراء غيرته على شرفه وشرفها. وحتى في ظهر ذلك اليوم حين اقتيد فالييرو إلى منتصف سلم شرفة الجبابرة رافقته أنجولينا. وإذا كان القائمون بالتنفيذ قد حاولوا إبعادها فإنها ظلت واقفة صامدة حتى شهدت ينبوع دمه يندفع من شريان رقبته.

فلما شهدت رأسه يقطع وأطلت إلى الجسد بلا رأس الذي علّقوه على سلم شرفة الجبابرة، هوت بين أيدي وصيفاتها، فلم تنتبه إليهم وهم يفتحون أبواب القصر لدخول أهل فينيسيا ليشاهدوا الجثة مقطوعة الرأس للرجل الذي لم يحظ حاكم من شعبه بما حظى به الدوق فالييرو وزوجته أنجلينا من تبجيل وتقدير واحترام.

 

سليمان مظهر