إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي

ذكريات المستقبل

إلى أن نلتقي ماذا يمكن أن نفعل?يذكر عالم الأعصاب السويدي ديفيد أنغفار أن الدماغ البشري مشغول دائماً برواية قصص بالغة القوة عمّا سيحدث في المستقبل. يطلق أنغفار على هذه القصص اسم (ذكريات المستقبل)، حيث يروي الدماغ فيها ما سيحدث أحياناً خلال الثواني التالية، ويتحدث في أحيان أخرى عمّا سيحدث في الساعات أو الأسابيع القادمة. كثير من هذه القصص لاواعية أو على حافة الوعي، كالقصة التي قد يرويها دماغ قارئ هذه السطور لنفسه عمّا سيحدث لذراعه، إذ تمتد على سبيل المثال لتناول فنجان القهوة، فيما هو مستغرق في القراءة.

ويعتقد عالم أعصاب سويدي آخر اسمه وليام كالفن أن البشر يملكون قابلية داخلية لوضع سيناريوهات عن المستقبل. هذه القدرة مركبة في عتاد الدماغ البشري في موقع وثيق الصلة بقدرة الإنسان على الكلام وبناء اللغة. ويقدم كالفن في كتابه (ظهور الإنسان) أدلة مقنعة على أن ذلك الجزء من دماغ الإنسان الذي يتحكم بالنطق مسئول أيضاً جزئياً عن المهارة في التصويب. والقدرة على قذف الحجارة وإصابة الحيوانات كانت من المهارات المهمة للحفاظ على البقاء لدى البشر الأولين. ويذكر وليام كالفن في كتابه الآخر (سيمفونية الدماغ) أن القدرة على التفكير المسبق والنطق منافع جانبية نشأت من القدرة على إصابة الهدف. ويدرك أي شخص يحاول أن يصوّب بالسهم أو يجرّب الكلام أمام حشد من الناس أن الجانب الأساسي لكل من التصويب واللغة هو التخطيط المسبق وتعبئة قدرة ذهنية كافية لضبط سلسلة حركات العضلات اللازمة لأداء الحركة. وهذا متصل تماماً بقدرة البشر على الإدراك الذاتي. فالبشر قادرون على التحرّك ذهنياً من دون تحريك العضلات ثم الشروع بالركض فعلياً عندما تنفذ العضلات أوامر الدماغ.

هذه السيناريوهات التي يضعها الدماغ ليست تنبؤات حول المستقبل، بل هي بالأحرى إدراك المستقبلات في الحاضر. يذكر ذلك عالم المستقبليات بيتر شفارتز في كتابه (فن النظرة طويلة المدى). السيناريوهات في تقدير شفارتز تتعامل مع عالمين: عالم الوقائع وعالم التصوّرات. فهي تستقصي الوقائع وتستهدف في الوقت ذاته المدركات داخل دماغ صانع القرار لتجميع المعلومات ذات الأهمية الاستراتيجية وتحويلها إلى مدركات جديدة. السيناريوهات قصص تضفي معنى على الأحداث. ويسود الاعتقاد بأن المعلومات الجدية ينبغي أن تظهر في شكل جداول ورسوم وأرقام، أو على الأقل بلغة بحث جدية. لكن الأسئلة المهمة عن المستقبل تكون عادة أشد تعقيداً أو أقل دقة من أن تحتويها اللغة التقليدية لعالم الأعمال والعلم. ويلجأ الآن علماء المستقبليات إلى استخدام لغة القصة والأسطورة. يقرّ بذلك شفارتز الذي يقول إن للقصص وقعاً سيكولوجياً تفتقر إليه الجداول والمعادلات. القصص معنية بالمعنى، وهي تساعد على تفسير لماذا يمكن أن تحدث الأشياء بهذا الشكل وليس بشكل آخر. وهذا هو الجانب الأساسي لفهم احتمالات المستقبل ومعرفة الجواب عن السؤال: إلى أن نلتقي ماذا يمكن أن نفعل?

 

محمد عارف