هل للاستعمار محاسن?

 هل للاستعمار محاسن?
        

موضوع هذه المقالة محكوم بمفارقة ظاهرة, إذ كيف الحديث عن محاسن الاستعمار, بعد كل ما عرفته مجتمعات العالم الثالث من مجازر وويلات وأهوال, وعذاب وألم استعماري, وتحرير ومقاومة?

          نعم, قد يبدو الأمر كذلك, لو لم يقدم البرلمان الفرنسي على سن قانون يقر فيه بضرورة إبراز محاسن الاستعمار, وهو قانون أثار - ولايزال يثير - نقاشًا واسعًا داخل فرنسا وخارجها, وخاصة في مستعمراتها القديمة, أو بالأحرى في بعض مستعمراتها القديمة, وعلى رأسها الجزائر, التي استعمرتها فرنسا من سنة 1830 إلى سنة 1962.

          فقد اقترح مجموعة من النواب الفرنسيين, من كتلة الحزب الحاكم حاليًا في فرنسا, مشروع قانون يقر بضرورة الاعتراف (بالدور الإيجابي للحضور الفرنسي فيما وراء البحار, وخاصة في شمال إفريقيا). ومن بين هؤلاء النواب, وزير خارجية فرنسا الحالي (دستو بلازي).

          ولقد تمت المصادقة على هذا المشروع, في قراءة ثانية بتاريخ فبراير 2005, وأصبح يعرف بتاريخه. وقد خص هذا القانون, الجزائر بفقرات واضحة. نقتبس الفقرة الموالية: (إن تاريخ حضور فرنسا في الجزائر قد مر عبر نزاعين: الغزو الاستعماري من سنة 1840 إلى سنة 1847. وحرب الاستقلال التي انتهت بإبرام اتفاقية إفيان سنة 1962. وخلال هذه الفترة, فإن الجمهورية قد حملت إلى أرض الجزائر معرفتها العلمية والتقنية والإدارية, وثقافتها ولغتها وعديد من رجالها ونسائها, الذين كان معظمهم, من أوساط اجتماعية متواضعة, قدموا من كل بلدان أوربا ومن مختلف طوائفها, فأسسوا عائلات فيما كان يعرف بولاية فرنسا (محافظة فرنسا). وبفضل شجاعتهم ومعرفتهم, تطور البلد, لذلك, نرى أنه من العدل أن يعترف ممثلو الأزمة, بهؤلاء الرجال والنساء, الذين بعملهم وجهدهم, وفي بعض الأحيان بأرواحهم, قد مثلوا فرنسا في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط خلال أكثر من قرن).

          لاشك أن ممثلي الأمة الفرنسية اليوم, يعيدون بقانونهم هذا, إحياء وإعادة بعث الرسالة الأسطورية للاستعمار, التي حملت, كما هو معلوم, اسم الرسالة التنويرية والتحضيرية, متجاهلين ومتناسين, مئات آلاف من القتلى المدنيين, الذين تم قتلهم من قبل جنرالات الاستعمار ما بين سنوات 1830-1881, وأشكال العنف المختلفة التي مارستها الجمهورية الثالثة.

          وبالرغم من ذلك, فإننا نعتقد أن الدخول في هذا الموضوع أمامه عقبات ليس أقلها, الجانب الذاتي وما يحمله من عواطف ومشاعر, وبالتالي فإن الطرح العلمي لايزال بعيد المنال, ولعل إحدى عقباته هي هذا القانون بالذات.

أجيال المهاجرين

          لذلك فإن ما يهمنا, هو الوقوف عند الوظيفة السياسية لهذا القانون والإجابة عن سؤال محدد وهو: لماذا لجأ البرلمان الفرنسي إلى سن هذا القانون في هذا الوقت بالذات? لماذا وجد غالبية ممثلي الشعب الفرنسي رغبة وحاجة إلى سن هكذا قانون, في الوقت الذي تعمل فيه الحكومة الفرنسية على تمتين علاقاتها بمستعمراتها السابقة? وعلى رأسها الجزائر, التي تحكمها علاقات اقتصادية وتجارية وعسكرية وسياسية كبيرة, بالرغم من حالات المد والجزر التي تطبع تلك العلاقة بين الحين والآخر, فإنها أسفرت في ظل الحكم الحالي في الجزائر على مشروع اتفاقية صداقة بين البلدين, وهي أول اتفاقية بهذا المستوى بين الجزائر وفرنسا, منذ استقلال الجزائر عن فرنسا في 5 يوليو 1962.

          ومن جهة أخرى, كيف نفهم علاقة هذا القانون بالدور الفرنسي الدولي, ومواقفها المتقلبة, من رفض للحرب والعمل على استعادة لدور ريادي دولي في بعض بلدان إفريقيا والشرق الأوسط? كما يعنينا, في هذا السياق الوقوف عند ردود فعل المثقفين الفرنسيين.

          إن لجوء فرنسا إلى هكذا قانون, يعكس بالدرجة الأولى وضعية فرنسا الداخلية وعلاقاتها الخارجية, ذلك, أن فرنسا تعرف تحولات كبيرة أهم معالمها بروز الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين, ورفضهم لسياسة الاندماج التي تتبعها فرنسا. كما تشكل محاولة لاستعادة مجد الإمبراطورية الذي ذوى واختفى بعد صعود قوى دولية جديدة. وتعد سياسة الاندماج هذه نوعًا من المقاومة لحركة الاستيعاب, التي تحدثها حركة الاتحاد الأوربي داخل المجتمع الفرنسي, ليس أقلها الخوف على الهوية الفرنسية, التي ترجمها رفض دستور الاتحاد الأوربي بعد الاستفتاء عليه, وعلو الأصوات المنادية بالهوية الفرنسية, وزعامتها وخصوصيتها الاقتصادية والثقافية.

          إلا أن الزمن لم يعد زمن الاستعمار وأمجاده, خاصة أننا نجد شرائح اجتماعية, من داخل المجتمع الفرنسي, تعاني من الممارسات الاستعمارية, وتعبر عن نفسها باسم ما أصبح يعرف بـ(أهالي الجمهورية).

          والأهلي, كما هو معروف في تاريخ الاستعمار هم السكان الأصليون, الذين أصبحوا في ظل الاستعمار لا يتمتعون, بالحقوق القانونية للجمهورية الفرنسية, فالأهلي هو الذي لا ينتمي إلى الإنسان ولا إلى الحيوان, وإنما أرادته الإرادة الاستعمارية حالة ثالثة, هكذا كان الجزائري - على سبيل المثال - تعين هويته باعتباره فرنسيا مسلما, فإذا طالب بالحقوق الفرنسية قيل له إنك مسلم, وإذا طالب بحقوقه الإسلامية قيل له إنك فرنسي?

          على أن (أهالي الجمهورية) لا يقصد بهم اليوم السكان الأصليون, وإنما الجماعات المهمّشة في فرنسا, والمكونة من المهاجرين وأبنائهم والسود والعاطلين عن العمل وغيرهم, وتسكن في ضواحي المدن, إن هذه الشرائح الاجتماعية, تندد اليوم في أكثر من مناسبة بـ(الثقافة الاستعمارية التي لاتزال قائمة إلى يومنا هذا في فرنسا). يشهد على ذلك موضوع الحجاب, وما اتخذته فرنسا من تدابير قانونية إقصائية في وجه أقلية مسلمة, كما يشهد على ذلك قانون 23 فبراير, الذي يفرض باسم ديمقراطية مزعومة, وتعليم حر, تاريخًا رسميًا, إن هذه العلامات وغيرها تعد عند أكثر من محلل سياسي واحدة من الأعراض المرضية, التي يعاني منها المجتمع الفرنسي, ودليلا على عدم قدرة الجمهورية على استيعاب التحولات الحاصلة في المجتمع, وعلى تحمل مسئولياتها الأخلاقية والسياسية إزاء ميراثها الاستعماري, بالرغم من اتخاذها لبعض الخطوات المحتشمة, كاعترافها بمظاهرات 17أكتوبر 1961, وما عرفته من تنكيل وتعذيب وقتل للمناضلين الجزائريين وأنصارهم, وباعترافها بما اقترفه قادتها العسكريون من تعذيب إبان حرب التحرير الجزائرية, وبمجازر 8 مايو 1945, إلا أنه مع ذلك لاتزال هنالك في المقابل, أصواتًا عالية وقوية ولها تأثير كبير على القرار السياسي الفرنسي, تندد بكل خطوة نحو الاعتراف الكامل بالمجازر الاستعمارية, بالرغم من أن هذه الأصوات نفسها, وبمفارقة ظاهرة, لا تكف عن طلب بلدان أخرى بضرورة الاعتراف بماضيها الاستعماري, والجميع يعرف مدى إصرار الحكومة الفرنسية, على ضرورة أن تعترف تركيا بالمجازر التي ارتكبتها في حق الأرمن, بل وتعتبره شرطًا من بين الشروط الكثيرة, لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي.

أين التنوير والحداثة?

          والمفارقة الكبرى, أن هذه الأصوات, التي لا تكف عن تلقين الدروس للآخرين, وتدّعي تمثيل قيم التنوير والحداثة والديمقراطية, هي التي تقوم بمنع مواطنها, من كتابة التاريخ الحقيقي للاستعمار, ولاتزال تعتبر أن أي نقد للتاريخ الاستعماري الفرنسي يعد مساسًا بكرامة فرنسا وبتاريخها المجيد وبرسالتها الحضارية, من هذا لا تكف هذه الأصوات عن المطالبة بضرورة, وضع حد لما يسمونه بـ(تجاوزات الذاكرة?).

          إن هذه الأصوات تعبر في الواقع عن سياسة النعامة إن صحت العبارة, على الأقل فيما يتعلق بتاريخها, لأن المجتمع الفرنسي اليوم, تخترقه التجربة الاستعمارية من أقصاه إلى أقصاه, ويعاني من عقدة الماضي الذي لا يمضي, ومن التاريخ الاستعماري الذي لا ينتهي, ويشكو تجربة تاريخية لاتزال ماثلة, سواء في حنين المستعمرين أو مطالب المناهضين للاستعمار, وبالتالي فإن إنكار واقع الاستعمار, لن يزيد إلا شرخًا في المجتمع, ولن يزيد إلا غضبا في البلدان المستعمرة. وإن حالة كهذه, ستغذي من دون أدنى شك, مشاعر الانتقام والكراهية والعنف, بدلا من العمل على الاعتراف بالماضي وتحمل المسئولية الأخلاقية والسياسية تجاهه, لأن ذلك هو الذي يمكن من إقامة جسور الحوار والثقة بين ضفتي المتوسط.

          على أن الوجه الآخر للمفارقة, وهو محاولة فرض 23 فبراير على مناهج التعليم في المرحلة الثانوية, حيث يتوجب على مدرس الاجتماعيات أن يعترف بالدور الإيجابي للاستعمار. ولمناهضة هذا القرار, التقى ما يقارب 20 ألف مهتم بالتاريخ في مدينة (بلوا), للاحتجاج على المادة الرابعة من القانون. كما عملت منظمات المجتمع المدني, ومنها على وجه التحديد, جمعية حقوق الإنسان, وجمعية الأساتذة والحركة المناهضة للعنصرية, والصداقة بين الشعوب. كما رفض هذه المادة ما يقرب من 5700 من أساتذة مادة التاريخ بحجة عدم إطلاق أحكام قيمة على البرامج التربوية, كما تم جمع تواقيع لمجموعة مهمة من المؤرخين يترأسهم المؤرخ (كلود ليوزي) أستاذ كرسي التاريخ في جامعة باريس 7, وذلك من أجل إعلام الجمهور بخطورة المشكلة, ومطالبة وزير التربية التدخل لإيقاف هذا القانون. كما انتظمت ندوات فكرية وثقافية في هذا الموضوع, أهمها ندوة كان موضوعها (فرنسا المريضة بماضيها الاستعماري), برز فيها المؤرخ (باب نداي) الذي أشرف على العدد الخاص من مجلة (التاريخ) الذي كان موضوعه (محاكمة الاستعمار)  و(فرانسوا فارجاس) نائب رئيس الجمعية من أجل ذاكرة الاستعباد, وبينا كيف يمكن للمكبوت أن يعود بصور مختلفة, وبالتالي كيف يمكن للمكبوت الاستعماري أن يطعم ويزود الهويات المجروحة والمعطوبة والمتنافسة داخل المجتمع الفرنسي كهويات المهاجرين والسود والأقليات المختلفة.

          وإذا كان تشريع هذا القانون, مناسبة لبعض المثقفين الجزائريين, لترديد العبارات الوطنية, متلاحمين على عادتهم, مع خطاب السلطة الجزائرية الذي يحيا في حال من القبول والرفض والإقبال والامتناع مع فرنسا, ولأن النقاش في الجزائر قد أخذ بعدًا أحاديًا وطابعًا حماسيًا, فإننا فضّلنا النظر في المناقشات التاريخية والفكرية, للمثقفين الفرنسيين, وكيفية معالجتهم لهذا الموضوع الذي لايزال موضوع صراع بين السلطة والمعرفة, ولاتزال بعض مسائله ترقى إلى مرتبة المقدس.

الاستعمار والتصفية

          ومن بين الفئات المثقفة الناقدة لهذا القانون, يأتي المؤرخون على رأس القائمة, لأن موضوع الاستعمار موضوع تاريخي بامتياز, بالرغم من أنه لم يفقد حضوره وتجدده, وبالتالي, فإننا نستطيع القول إن موضوع الاستعمار من مواضيع (تاريخ الحاضر) إن جازت العبارة, لأنه يطرح مواضيع تاريخية, ولكن لها امتداداتها في حاضرنا, ليس أقلها تلك المتعلقة بالمجازر والتعذيب والسجون والمعتقلات, وضرورة الاعتراف, وخاصة من قبل الفاعلين, وهذا مطلب أخلاقي وسياسي وتاريخي يعمل من أجله عدد من المناضلين في الجزائر وفرنسا على السواء.

          ومن هؤلاء المؤرخين والسياسيين, نجد (أوليفيه لوكور جرانميزون) صاحب كتاب (الاستعمار, التصفية: حول الحرب والدولة الاستعمارية) الذي أكّد أن (ليس هناك دولة ديمقراطية تجرأت على التشريع لإنتاج فهم معين للتاريخ, وبذلك أصبح قانون 23 فبراير سابقة فرنسية خطيرة), وبالتالي فإن هذا القانون, بجميع المعايير, هو قانون ضد التاريخ.

          وفي السياق نفسه, يرى الكاتب (كلود ليوزي) صاحب كتاب (الاستعمار, حق الرصد) إن هذا القانون يفصل في مسائل عالقة كعلاقة الذاكرة بالتاريخ, وعلاقتهما بالسلطة, ويفرض نوعًا من التاريخ - الذاكرة الشرعية - منافيا لحرية الفكر ولروح العلمانية, ويتعارض كلية مع قواعد البحث العلمي. ليس من الفشل السياسي, أن يعمد السياسيون, إلى حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية  بالاعتماد على مصوغات ومبررات المؤرخين, من هنا يدعو هذا المؤرخ, إلى فتح الحوار والنقاش, والاستفادة مما أنجزته مدرسة ما بعد الاستعمار, التي يمثلها المفكر والمؤرخ (إدوارد سعيد) الذي ناضل ضد الإمبريالية وضد الهويات المغلقة.

          كما لا يتردد المؤرخ (جيل منصرون) في الإقرار بأن جماعات الضغط في فرنسا أو (اللوبيات) هي التي تريد فرض تاريخ رسمي. كما بين (مارك فيرو) صاحب كتاب (الكتاب الأسود للاستعمار) إن الشكل الاستعماري قد انتقل إلى البلدان الاستعمارية ذاته, وفيما يتعلق بقانون 23 فبراير, فإنه يرى أنه من غير المقبول للحكام السياسيين أن يبينوا الطريقة, التي يجب أن نحلل بها المسائل التاريخية, يكفي الحكام أنهم يحكمون إن مثل هذه القوانين موجودة في الاتحاد السوفييتي في زمن الستالينية والحكم الشمولي, وبالتالي فإن قانون 23 فبراير يشكل صورة من صور الشمولية أو التوتاليتارية. لذا فإن المؤرخين الموضوعيين, يرفضون هذا القانون جملة وتفصيلا, ففرنسا بلد ديمقراطي, وعلى الحكام ألا ينسوا ذلك?

          وبالنسبة للمختص في آثار الحرب على الذاكرة, الباحث (جي بارفيي), فإنه يرى أن القانون يعاني من اضطراب واضح, لأنه يبين أن الحكومة الفرنسية, قد تجاوزتها المطالب المتصلة بالفئات المهمّشة. كما يرى المؤرخ (جيرار نواريال), وهو من المؤرخين الذين وقعوا على التصريح المندد بالقانون, إن هذا القانون, يفرض تاريخًا رسميًا, يتعارض كلية مع مبدأ حرية الفكر الذي هو عماد العلمانية.

          وأنه بإقرار الدور الإيجابي للاستعمار, فإن القانون يفرض أكذوبة رسمية على جرائم  ومذابح تصل في بعض الأحيان إلى درجة الإبادة, وبالتالي فإن هذا الاستعمال السياسي السافر للتاريخ الاستعماري, لا يعادله إلا الاستعمال السياسي لمشكلة الهجرة. وإذا كان المؤرخون يحاولون إنجاز بحوث معقدة, فإن قانونًا كهذا يجعل النقاش متحزبًا من أقصاه إلى أقصاه, ولا يبقي أي إمكان لمعرفة الحقيقة.

آلام الاستعمار

          ذلك أن أحد أبعاد الحقيقة التاريخية, هو أشكال الألم والاستغلال والجرائم المرتبطة بالاستعمار. ولقد قيل هذا الأمر, من قبل الجميع, لكن أن يتم توثيقه تاريخيًا, فإن ذلك هو العمل العلمي الأصيل, لأنه يرفعه من مستوى القول إلى مستوى الحجة العلمية. إن هذا القانون, لا يعكس إلا التوجه اليميني والمحافظ للحكومة الفرنسية, وهو توجه يتعارض كلية, مع التوجهات العالمية الحالية, التي ترى أن الميراث الاستعماري بكل وجوهه, يتوجب مواجهته, بالبحث العلمي والمسئولية الأخلاقية.

          ولذا, فإن من واجب المؤرخين, قول الحقيقة, لأن هذا القانون, لا يريد شيئًا آخر, غير إقصاء واستبعاد الحقيقة. وبالتالي, فمن حق المؤرخين الاعتراض  والتنديد بهذا القانون, على الأقل في مستويين, المستوى الأول يتعلق بأخلاق المهنة, وهو تدخل الدولة في البحث العلمي, وهو ما يعني إقصاء أحد القواعد الأساسية في المجتمع الديمقراطي, إذ ليس من حق الدولة التدخل في البحث العلمي, ولا أن تملي على الباحثين ما يتوجب فعله أو القيام به. والمستوى الثاني يتعلق برهانات الذاكرة في بلد ديمقراطي, لأن الاستعمار ظاهرة غاية في التعقيد, حيث من الممكن أن تكون له بعض الجوانب الإيجابية, ولكنه يدخل ضمن نظام ومنطق لا يمكن إلا أن يكون منطقًا ونظامًا مدانًا.

          ولقد توقفت مجلة (فكر) عند الموضوع ذاته وخصته بدراسة, حملت عنوانًا بليغًا: (نزاع حول تصفية الاستعمار), بينت فيه, أن النزاع حول تصفية الاستعمار وتقييمه إيجابيًا أو سلبيًا, يخفي أمرًا مسكوتًا عنه, ويدخل في باب ما لا يقال, وهو الهجرة وفشل نظام الإدماج المتبع في فرنسا, من هنا تعالت أصوات القائلين بجمهورية الأهالي, وبذلك, فإن مواقف النواب الفرنسيين, التي تريد فرض تاريخ رسمي, والمواقف الانتهازية للحكومة الجزائرية, تلتقي كلها في موضوع الماضي الذي لم يتم استيعابه بعد.

          من هنا ارتأت المجلة, أن تعود إلى مرحلة الخمسينيات والستينيات, حيث كان الاستعمار موضوع صراع ونزاع ونقاش واسع, مستشهدة بما كتبه الفيلسوف الوجودي (جان بول سارتر) في هذا الموضوع, وخاصة ما نشره في مايو 1955بعنوان (الجزائر ليست فرنسية) وفي مارس 1956 (الاستعمار نظام قائم بذاته). مؤكدة على ضرورة التمييز بين (فعل الاستعمار), الذي يحتاج إلى دراسة تاريخية كافية, والاستعمار بوصفه نظامًا وإيديولوجية, لم يعد له مكانة في عالم الديمقراطية والحرية, ونشرت بالمناسبة ما كتبه سارتر كمقدمة لكتاب (فرانز فانون) (معذبو الأرض). إن هذه العينات الثقافية والفكرية, تبين بجلاء, حجم التحول الحاصل في الوعي السياسي الفرنسي ممثلا بنخبه المثقفة, وهو تحوّل لاتزال أوساط سياسية فاعلة في المجتمع الفرنسي لم تدرك بعد أبعاده.

          ولكن بالرغم من هذه التفسيرات المختلفة, فإننا نعتقد أن هنالك عنصرًا نتجاهله عندما نكون بصدد مناقشة التاريخ الاستعماري, ويتمثل في واقع تلك البلدان المستقلة حديثًا ووزنها السياسي والاقتصادي, إذ كيف يمكن أن نفسر, حنين المستعمر إلى مستعمراته القديمة, ومطالبته بالتعويض عن أملاكه وحقه في العودة, ثم بروزه في هذا الشكل القانوني السافر, لو لم تكن تلك الدولة المستقلة حديثا, الحاملة للمشروع الوطني, في حال أزمة متعددة الأشكال. من هنا نعتقد أن سؤال الاستعمار ليس مطروحًا على (المتربول) أو الدولة الأم, وإنما هو مطروح أيضًا, وبشكل أقوى, على الدول المستقلة حديثًا, وإن الأمر لا يقتصر على تعيين المصالح المعلنة, وغير المعلنة لأصحاب القرار, ولكن في تحليل وضعية تلك البلدان, وما آلت إليه عهود حروب التحرير والمقاومة, وكيفية انحصار آمال وطموحات الاستقلال, وتراجع الفكرة الوطنية, وبروز الصراعات الحيوية والقبلية, واستغلالها السياسي المفرط للاستعمار, في جميع المعارك الحقيقية, والوهمية, وتوظيفه لخدمة السلطة وتجاوزاتها وخيباتها وأزماتها, التي أدت إلى حروب أهلية, أصبح من خلالها المواطن العادي, ينظر إلى الاستعمار كصفحة مشرقة, مقارنة بواقع بلده الهزيل.

          وإن الوقوف عند عنصر واحد, يعد دليلاً كافيًا في هذا السياق, إذ كيف يمكن أن نفهم حركة الهجرة المتنامية والمتزايدة, بجميع أشكالها الشرعية وغير الشرعية, نحو الشمال عبر البحر الأبيض المتوسط? كيف نفهم الرغبة الشديدة لشبابنا في الهجرة مهما كلفهم ذلك من ثمن? كيف نفهم تصاعد الأعداد الكبيرة المهاجرة من بلدانها المستقلة, يوما بعد يوم? كيف نفهم الإجراءات الأوربية حول الحد من الهجرة? كيف يمكن أن نفهم تلك الشراكة المزعومة مع الدول الأوربية, التي غرضها الحد من الهجرة? أن تصاعد وتيرة الهجرة دليل كاف على فشل السياسات التي تتبعها تلك البلدان, التي ترفع شعار الوطنية وتمثل النظام الوطني, وتتخذ من الاستعمار مشجبًا تعلق عليه مشاكلها, مبررة به, ألوانًا من الاستبداد والفساد وغياب الحريات الأولية, ومصادرة أصوات المواطنين في كل اقتراع, بل وأكثر من هذا, نجد أن تلك الحكومات تعيد إنتاج السياسات الاستعمارية في تسييرها الإداري, وفي توزيعها للثروات وفي خنقها للحريات, وفي عودة الزعيم الأوحد وتقديس القائد, وتحويل الانتخابات إلى مجرد مسرحية هزلية, الدور الوحيد الذي يقوم به الممثلون هو تثبيت النظام القائم, بأي طريقة كانت, حتى وإن اقتضى الأمر المخاطرة والرهان بحياة المواطنين, وهو ما تعكسه الحروب الأهلية المعلنة, وغير المعلنة التي عرفتها ولاتزال تعرفها عديد من البلدان المستقلة حديثًا? ناهيك عن فرضها لتاريخ رسمي على المناهج التربوية, يتغير بتغير الزعماء والحكومات, حاجبة الحقيقة التاريخية عن مواطنها, باسم الاستعمار دائمًا, وبحجة المصلحة الوطنية!

من أجل نقاش حر

          إن السبيل الذي يمكننا من الخروج من كل هذه الأعراض, وردود الفعل التي تلحق بالموضوع, وخاصة في البلدان المستعمرة, هو فتح نقاش وحوار نقدي وحر, وإن الخطوة الأولى لذلك هي تدريس علمي ونقدي لواقعة الاستعمار, وتحرير الأرشيف من القيود والموانع, وضمان حرية البحث العلمي في المراكز العلمية, ونقد أشكال التوظيف السياسي للتاريخ, الذي يستعمل من قبل أطراف لها مصالح مختلفة, يمكن حصرها في توجهين كبيرين, التوجه الذي يعمل على لم جراح الماضي, والاعتزاز بدور عالمي يتراجع في زمن العولمة, وتوجه يعمل على بعث خطابات وطنية ضيقة, خطابات استعملت ولاتزال تستعمل بغرض استبعاد أي تناول نقدي للمسألة الاستعمارية, ولتوظيفاتها المختلفة من قبل الدولة الوطنية, التي تجد فيه دائمًا, حلاً سحريًا, لمشاكلها التنموية المختلفة, ولسياساتها الفاشلة, ولتسييرها الفاسد.

وقفتم بين موت أو حياة فإن رمتم نعيم الدهر فاشقوا
وللأوطان في دم كل حرٍّ يد سلفت ودين مستحقُّ
وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يُدَقُّ


(أحمد شوقي)

 

الزواوي بغورة