الفضائيات العربية.. هل من دور تعليمي لها?

 الفضائيات العربية.. هل من دور تعليمي لها?
        

هل هناك فضائية عربية تقوم بالدور الذي قامت به إسرائيل من أجل لغتها العبرية, حيث قامت بنشرها بطريقة فصيحة وصحيحة توحد بين أشتات المهاجرين اليهود. ماذا علينا أن نفعل?

          إن الفضائيات العربية يجب ألا تكون بوقاً ناطقاً باسم أنظمة الحكم للدول التي تقع فيها هذه القنوات. ويجب عليها أن ترفع من مستوى مشاهديها تربوياً وتعليمياً. وبما أن هذه الفضائيات تبث برامجها للعرب وباللغة العربية فعليها أن تستفيد من ملتقطيها وتفيدهم. ولتنجح في ذلك لا بدَّ لها من أن تحرص على شيئين اثنين لا يكون لها النجاح من دونهما, وهما:

          أ ـ ضرورة التركيز على تقديم برامج هادفة تربوياً وأخلاقياً بشرط أن تكون معدة بأسلوب ترفيهي أو على صورة رسوم متحركة تتناسب مع أعمار الأطفال والشباب لأن هذه الفئة العمرية هي التي يجب أن تؤسس على أساس سليم, لتكون خير استثمار للوطن والأمة حاضراً و مستقبلاً.

          ب ـ أن تكون هذه البرامج بلغة عربية سليمة ولكنها ليست لغة متقعرة, بل لغة إعلامية بسيطة يفهمها النشء المستهدف. ومن خلال هذه الوسيلة ـ اللغة العربية السليمة البسيطة ـ يتعلم أبناؤنا بطريقة تلقائية التربية والأخلاق والمثل العليا إلى جانب اللغة العربية.

          والمقال الذي بين أيدينا الآن يحاول أن يوضح كيفية الوصول إلى تطبيق هذين الهدفين حتى نصل بقنواتنا العربية الفضائية إلى المستوى المنشود, فيتعلم أبناؤنا ما يفيدهم ويفيد وطنهم وأمتهم بدلاً من أن يتجهوا إلى المحطات التي لا تهدف إلا إلى تدمير الشعوب من خلال تدمير الشباب وأخلاقهم.

          لقد اطلعت على مخطوط عربي لترجمة كتاب إنجليزي بعنوان: التخطيط اللغوي والتغيّر الاجتماعي لمؤلفه: بروفيسور كوبر.

          واسترعت انتباهي في هذا الكتاب أمور عدة أهمها:

          أ ـ أنَّ اللغة العبرية كانت محصورة في أداء الطقوس الدينية في المعابد اليهودية (كوبر 81). وعندما أقام اليهود دولتهم في فلسطين, كان لزاماً عليهم أن يتكلموا لغةً مشتركةً

          ـ وهي طبعاً اللغة العبرية ـ. وبما أن اليهود الذين تقاطروا على الدولة الجديدة جاءوا من خلفيات لُغوية مختلفة, فإنهم بطبيعة الحال كانوا يتكلمون لغات متعددة, ومن ثم تدخلت الدولة لتوحيد لغة كلّ اليهود داخل دولتهم الجديدة بل وخارجها أيضاً. وكان لابدّ للدولة أن تعزف على الوتر الحساس, خاصةً وأن اليهود ولغتهم ـ كانوا ـ يشعرون بالخطر والتهديد فرفعت الدولة شعارات تنادي بضرورة التكلم بالعبرية منها شعار: (اليهودي يتكلم عبري) وقد وضع هذا الشعار على الجدران وفي كل مكان حتى يشعر كل يهودي أنه لا يكون يهودياً حقاً إلا إذا تكلم اللغة العبرية.

          كما وظَّفت إسرائيل إذاعتها الرسمية لنشر اللغة العبرية الصحيحة والفصيحة وذلك بإرشاد المستمعين اليهود إلى استعمال اللغة السليمة التي يمكن لها أن توحِّد اليهود تحت لغة واحدة مشتركة بين جميع اليهود.(انظر كوبر ص 75 ـ 77).

          ب ـ إثيوبيا جنّدت حملات مكثفة لمحو الأمية وأرسلت الإرساليات والبعوث لكل القرى والأرياف لمحو الأمية. وقد قامت بتشجيع أولئك الذين يقومون بهذه المهمة من الموظفين حديثي التعيين للعمل بالدولة. وكان لتلك الحملة مردود إيجابي بفضل الجهود المبذولة في هذا الصدد.

          جـ ـ حفاظاً على اللغات في كل من إيرلندا, وويلز, والهند, فإن الحكومات بهذه الدول استطاعت أن توظف الأطفال لخدمة اللغة, وذلك بأن حفَّزت الأطفال بمنحهم جوائز قيمة جداً لمن يقوم بإعداد أي عملٍ مبتكرٍ بإحدى هذه اللغات.

          وقد نتج عن ذلك أن الأطفال وجدوا أنفسهم مدفوعين لتعلم اللغة الصحيحة والسليمة, وبذلك تكوّنَ لديهم رصيدٌ لغوي كافٍ للحفاظ على لغتهم أمام أي زحفٍ عليها من أي لغة أخرى.

          فماذا عن العرب وحكوماتهم وقنواتهم الفضائية في هذا الشأن?

          إنَّ القنوات الفضائية الناطقة بالعربية ـ أغلبها على الأقل ـ تمثل لسان حال الدولة أو السلطة. والذي نشاهده على شاشات الفضائيات العربية هو سياسة الدولة التي تبثّ منها كل واحدة من تلك الفضائيات.

          إنّ لغتنا العربية قد أصبحت مهددة بعد 11/9 وستبقى محصورة في المساجد.فما لم تقم الحكومات العربية بتوظيف قنواتها الفضائية لخدمة اللغة العربية والحفاظ عليها فإن اللغة العربية ستتحول إلى تاريخ بدلاً من واقع معيش.

          إنني أعتقد أن خير وسيلة لخدمة اللغة هو غرسها في النشء الصغير بسلاسة وتلقائية حتى يكبر وتكبر معه اللغة العربية السليمة كما لو كانت من سليقته.

          إنّ تلقين اللغة للكبار عن طريق دورات محو الأمية أو غيرها ـ لا يكون بالجدوى نفسها, التي تتم عندما يتلقى الطفل الصغير لغة سليمة منذ صغره بطريقة آلية طبيعية لا تكلف فيها.

          إنّ المشاهد العربي يلاحظ أنّ الفضائيات العربية يمكن تصنيفها إلى:

          1 ـ فضائيات مغرقة في استعمال اللهجات المحلية, ومغرقة في إيراد المفردات والمصطلحات غير العربية. وهذا الصنف من القنوات الفضائية هو الغالب كمًّا على الفضائيات الأخرى. وهذه القنوات بها برامج تخص الأطفال وتشدّهم إليها ولكنها ليست بلغة فصيحة أو لغة سليمة. (المستقبل, LBC مثلاً).

          2 ـ قنوات فضائية لا تقدّم شيئاً باللهجات المحلية ولا تستعمل إلا اللغة العربية الفصحى ولكن هذه الفضائيات ليس بها أي برنامج أو فضاء أو ركن خاص بالأطفال. ولذلك فإن مثل هذه الفضائيات لا تخدم اللغة العربية من حيث إنها لا تستثمر الأطفال في هذه القضية (مثل الجزيرة). ومن حيث العدد أو الكم فإن هذا الصنف يأتي في المرتبة الثانية.

          3 ـ فضائيات خاصة بالأطفال وهي قليلة جداً جداً وأهمها قناة  (SPACE TOON) وهذه القناة فعلاً تخدم الطفل واللغة العربية معاً فبرامجها تخص الأطفال, ولغتها لغة عربية سليمةٌ وواضحةٌ وبسيطة تتماشى مع مستوى الأطفال عمرياً وتعليمياً. ولكن يؤخذ على هذه القناة أنها ليس بها نشرات خاصة بعالم الطفل. وهذا الصنف من الفضائيات ـ مع الأسف ـ هو آخر الأصناف من حيث العدد.

واجب الإعلام

          فإذا سلمنا بأنَّ خير وسط لخدمة اللغة هو الطفل, فعلينا أن نفيد الطفل ونستفيد منه, تربوياً وتعليمياً. وإذا سلمنا بأن الإعلام له على الأطفال تأثيرٌ كبيرٌ, فإن دور الإعلام على الأطفال دورٌ خطيرٌ من حيث التنشئة والتعليم. ولذلك فإن من واجب الفضائيات العربية أن تشدّ النشء إليها حتى لا ينصرف إلى الفضائيات الغربية أو العربية الهدامة. فعلى الفضائيات العربية أن تعلم الطفل كيف يتعامل مع الثقافات الغربية بمعيار المقارنة والمفاضلة بين ما تقدّمه الفضائيات الغربية والفضائيات العربية وذلك من حيثُ:

          أ ـ تقديم ما يخدم الطفل ويربطه بالوسط الذي يعيش فيه وعدم التحليق به في عالم الخيال

          واللاواقع واللامعقول.

          ب ـ تقديم ما يخدم الطفل من حيث الأخلاق والمثل والخصال الحميدة.

          جـ ـ التناسب بين مستوى العرض ومستوى الطفل عمرياً وتعليمياً.

          د ـ احتواء العرض على مشاهد وصور ترفيهية باهرة للطفل حتى ينشدَّ إليها فتنغرس فيه الخصال المرجوّة والأهداف المنشودة لا شعوريا.

          هـ ـ أن يكون العرض بلغة عربية سليمة ومبسطة حتى يفهمها الطفل المستهدف وتصبحَ جزءاً منه.

          إنَّ الطفل العربي ـ كغيره من الأطفال ـ لم يعد رفيقاً للكتاب أو المجلة أو الصحيفة, بل أصبح لصيقاً بجهاز الاستقبال المرئي, فإذا لم نُقدم له زاداً مفيداً يحميه حاضراً ومستقبلاً, فإنه سيصبح صنيعة للفضائيات التي لا همّ لها إلا القضاء على المثل والأخلاق والصفات النبيلة.

          لقد قام فريق من المختصين عام 1998 ـ تحت إشراف اتحاد الإذاعات العربية ـ بدراسات ميدانية في كلٍ من مصر, الأردن, تونس, الإمارات العربية, من بينها بحث أعدّه الدكتور محمد حمدان مع الأستاذ عبد القادر بن الشيخ بعنوان:( الجمهور العربي والبث التلفزيوني المباشر عبر القنوات الفضائية (. وقد أثبتت هذه الدراسة وجود انخفاض ملموس في حجم مشاهدة القنوات التلفزيونية الوطنية (القُطْرية) مقابل ارتفاع ملحوظ في مشاهدة الفضائيات الأجنبية والفضائيات العربية الأخرى. وأوضح البحث أن تدني مشاهدة الفضائيات المحلية يرجع إلى:

          1 ـ رغبة المشاهد في الخروج من السجن المفروض عليه من قبل القنوات المحلية الرسمية.

          2 ـ أن الإنتاج المرئي الأجنبي يظهر دائماً بصورة جيدة وذلك لجودة إنتاجه بغض النظر عن محتواه, وهذا خلاف المنتج المحلي الذي لا يتّسم بالجودة التقنية مع احتمال جودة محتواه.

          كما أثبتت الدراسة أيضاً أن شريحة الشباب أكثر إقبالاً على مشاهدة الفضائيات الأجنبية من شريحة الكهول والشيوخ.

          ويرى د.محمد حمدان أن البرامج الترفيهية لها تأثير ثقافي كبير ولكنه ليس تأثيراً مباشراً ô إنَّ الأفلام والمنوعات والبرامج الترفيهية ـ غير العربية ـ تحمل في طياتها قيماً وثقافاتٍ وسلوكيات تختلف عما لدينا نحن العرب والمسلمين, وتصور العلاقات الاجتماعية, وأنماط الملبس والمأكل والمسكن تصويراً مغايراً لما لدينا في ثقافتنا, فيقع تمرير هذه المفاهيم من خلال هذا النوع من البرامج فيكون تأثيرها أكبر وأخطر على المشاهد.

          ويصل الدكتور حمدان إلى نتيجة مفادها أنَّ القنوات العربية لم تستطع أن تجذب إليها المشاهد العربي إلا بأن أخذت تقلد الإذاعات الغربية في العديد من الأفكار مثل: النموذج الثقافي الغربي من حيث الإيقاع الموسيقي أو مظهر المنشطين وسلوكهم, وبرامج المسابقات وربح الأموال ô. إلخ.

          وهذه كلها مستوحاة من برامج سبق عرضها في إذاعات غربية. ومِنْ ثم فإن توجه المشاهد العربي إلى مشاهدة الفضائيات العربية ـ كما هي الآن ـ لن يكون له مردود إيجابي لأن المشاهد العربي ـ في الحقيقة ـ ما زال يشاهد برامج وقيمًا أجنبية في أثواب عربية. فهكذا يتبين لنا أن النشء العربي في حاجة إلى برامج مكثفة تحمل في طياتها القيم والمبادئ والمثل والأخلاق الحميدة ولكنها في صور وأساليب ترفيهية وبلغة عربية بسيطة سلسة تتناغم مع إدراك المستهدف من الأطفال.

          ولا أعتقد أن هناك فضائية تتناسب مع النشء مثل فضائية (SPACE TOON) مع العلم بأن اسمها كان ينبغي أن يُعرّب ليصبح محطة الرسوم أو فضاء الرسوم أو فضائيات الرسوم.... أو شيئاً من هذا.

حتى لا نهمل الأطفال

          إنّ المجتمع ـ أيّ مجتمع ـ هو جماعة ممَّن كانوا يوماً ما صغاراً. فعلينا ألا نهمل شريحة أساسية من شرائح المجتمع وهي الطفل. وهذه الشريحة لا غنى عنها في أي مجتمع, فلا مجتمع بلا أطفال, ولا مشاهير أو علماء أو عظماء قبل أن يكونوا أطفالاً.

          ولذلك فإنني أطلب ـ إذا جاز لي ذلك ـ من أغلب الفضائيات العربية ألا تستصغر الأطفال فتهملهم ولا تكترث بهم. ولربما نقترح عليها أن تستحدث نشرة أخبار خاصة بالأطفال تحت أي اسم. بشرط أن تكون بلغة عربية إخبارية بسيطة ويكون همها بالدرجة الأولى تثقيف الطفل وتعريفه بما يدور حوله وفي عالمه ومجتمعه.

          وفي هذه الحالة تكون الإذاعة من خلال هذه النشرة قد حققت أكثر من هدف منها:

          1 ـ الحرص على كسب الأطفال, وعدم إهمالهم, وربطهم بإحدى القنوات الفضائية العربية حتى تكون العلاقة التي تنشأ بين الطفل وهذه القناة علاقة محبة تجعل الطفل يتعلق بها فينفق معها شيئاً من وقته.

          2 ـ بما أنَّ القناة تهدف إلى خدمة المواطن العربي, فإنها ستقدم ثقافةً ومعلومةً للطفل, كما أنها ستقوم بتعليم الطفل لغته الصحيحة بطريقة تلقائية لا تلقينية.

          3 ـ إذا أرادت الفضائية كسباً مادياً فبإمكانها أن تمرِّرَ بعض الإعلانات الدعائية والإشهارية المتعلقة بالطفل حيث هناك الكثير من المنتجات التي لا يمكن تمريرها إلا من خلال برامج الأطفال.

          فمما سبق يتضح أنّ أطفالنا في حاجة إلى:

          1 ـ فضائيات تنطلق من أرضية عربية صحيحة بحتة وليست استنساخاً من إذاعات غربية.

          2 ـ فضائيات تقدّم برامج ذات إنتاج جيد راقٍ يشد المشاهد إليها.

          3 ـ فضائيات تقدم إنتاجاً ترفيهياً يحمل القيم والمبادئ والخصال المراد غرسها في لا شعور الطفل.

          4 ـ فضائيات تهتم بسلامة النطق أثناء تقديم كل برامجها بحيث تكون اللغة متواكبة مع مستوى العمر المستهدف ومستوى تعليمه.

          5 ـ فضائيات تهتم بسلامة الإملاء وذلك في الإعلانات أو الأخبار التي تكتب على شاشات أجهزة الاستقبال.

          6 ـ فضائيات قادرة على تحفيز الأطفال ودفعهم إلى التنافس من أجل الحصول على جوائز وهدايا مقابل إسهامهم أو تميّزهم في أي مجال من مجالات الإبداع.

          7 ـ فضائيات قادرة على استقطاب الصغار والكبار من خلال إجراء مسابقات على الهواء تتعلق باللغة العربية نحواً وصرفاً وأدباً.... إلخ. بحيث تنظم لها بطولات دورية سنوية أو نصف سنوية أو شـهرية.... إلخ. وربما يستفاد من برنامج (سوبر ستار) الذي تقدمه قناة المستقبل, في كيفية تنظيم مثل هذه المسابقات.

          8 ـ فضائيات تشجع الكتّاب والمبدعين والمنتجين وذلك لإنتاج مسلسلات خاصة بالأطفال, أو رسوم متحركة تعتمد على عنصري الترفيه والتشويق وتحتوي على القيم والأخلاق وتُقدّمُ بلغة عربية بسيطة وسليمة. فقد يحسن التركيز على تجسيد مشاهد من التاريخ العربي أو الإسلامي المشرّف, أو شخصيات مرموقة تمثل العروبة والإسلام, أو قصص من القرآن الكريم تصوّر فوائد الإيمان والصدق والعفّة والنزاهة في مقابل الخسران لأصحاب المثالب والمناقص... إلخ, أو قصص حياة المشاهير من العلماء, ودورهم في خدمة البشرية قاطبة.  وربما يقعُ على اتحاد الإذاعات العربية عبءٌ من هذه الأعباء وذلك بالإنفاق أو الإسهام في إنتاج بعض هذه المواد ولو كان ذلك بالتنسيق مع جامعة الدول العربية بصفة عامة أو مع منظمة التربية والعلوم والثقافة العربية (الألكسو) أو باللجوء إلى إحدى الدول المانحة لتمويل بعض هذه الفضائيات أو هذه البرامج.

قُمْ للمعلّمِ وَفِّهِ التبجيلا كادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا
لأعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي يبني وينشئُ أنفساً وعقولا?
سبحانكَ اللهمَّ خيرُ معلّمٍ علَّمتَ بالقلمِ القرون الأولى
أخرجتَ هذا العقلَ من ظلماتهِ وهديتَهُ النورَ المبينَ سبيلا


(أحمد شوقي)

 

الطاهر خليفة القراضي