الآثار الغرقى... مَن ينقذها?

  الآثار الغرقى... مَن ينقذها?
        

علم آثار ما تحت البحر, هو فرع من علم الآثار, يتقصى أسرار الكنوز الأثرية الغارقة, ويهتم بإعادتها إلى الحياة مرة أخرى. سواء كانت مدنًا غارقة, أو سفنًا ابتلعهاالموج, أو شواطئ منسية هجرتها الأحداث, وخلفتها في عالم النسيان.

          تحتفظ البحار بهياكل السفن التي غرقت, منذ مئات أو آلاف السنين, وتعتبر شحناتها من أوان وقوارير, وأسلحة وعملات وغيرها, ذات أهمية بالغة لدراسة ومعرفة تاريخ الحضارات البشرية.

          إن علم الآثار البحرية هو علم جديد, ظهر مع بداية القرن العشرين, وتحديدًا في عام 1900, بانتشال بعض القطع البرونزية, من مياه خليج (أنتيكيثيرا) في جنوب بلاد اليونان, وهو لم يتوقف منذ ذلك الحين, ولن ينتهي عند حدّ, وقد ظهرت مدارس ومؤسسات وجمعيات علمية, جعلت ميدانها أعماق البحار. ويساعد على البحث والتنقيب الأثري, تحت سطح البحر, المعلومات الواردة في النصوص القديمة, والأساطير والعادات المحلية, والحفريات الأثرية, والتصوير الجوي, وهناك دلائل عدة للتعرف على الآثار الغارقة منها:

          1- إن أي تحدّب غير طبيعي, في مستوى قاع البحر, دليل على احتوائه على أثرما, أو جسم ما.

          2- ما يتم اكتشافه بطريق المصادفة, عن طريق صيادي الأسماك والإسفنج, والغطاسين الهواة, أو المحترفين.

          3- عن طريق الرجوع إلى المؤلفات التاريخية والجغرافية, للكشف عن مواقع السفن الغارقة, وتحديد هذه المواقع.

          4- إن احتمال وجود الآثار البحرية, يكون كبيرًا في الموانئ القديمة, وقريبًا من الشواطئ, وحول الجزر, وفي المناطق الضحلة, خاصة عندما تكون شفافية الماء جيدة, لا ريح ولا أمواج, وسطح البحر هادئ, حيث يمكن استخدام زورق صغير, لمراقبة القاع.

          وشفافية المياه, تكون أنقى ما يمكن خلال شهري أبريل ومارس, حتى منتصف مايو, ومن منتصف شهر سبتمبر, حتى نهاية نوفمبر, حيث يهدأ البحر, وتترسب العوالق البحرية العائمة, وتسقط الحشائش, وتتعرى اللواصق اللاصقة بالقعر, فيظهر الرمل والطين والصخر نظيفًا, مما يسّهل عملية البحث عن الآثار, بدقة وسهولة.

          يقدم هذا العلم خدمات كبرى لعلم الآثار, فالسفن الغارقة المكتشفة, تقدم معلومات مهمة عن كيفية بناء السفن في العصور الماضية, وكيفية إبحارها, والمواد التي كانت تنقلها.

          وقد عينت الكسر الفخارية, لعلم آثار ما تحت الماء, والمراسي الحجرية للعصر البرونزي, وأمكن بمساعدتها رسم مسار الطرق التجارية البحرية, التي كانت جميعها تحاذي الشواطئ, وتخضع لاتجاه التيارات البحرية والرياح المتأثرة بالفصول.

          وقد تم العثور في قيعان الشاطئ السوري, وشواطئ قبرص وبلاد اليونان وبلاد الأناضول, وشواطئ إيطاليا وإسبانيا وغيرها, على أدوات, وأوزان من الرصاص أو البرونز, وقطع من الفخار, والجرار المتشابهة إلى حدّ بعيد. وهي تثبت أنه كان ثمة أسس تجارية, متفق عليها دوليًا, لمثل هذه الأشياء. كما أن أوعية المئونة, والتحاليل والسبائك, والأختام والأسلحة وغيرها, مما تم اكتشافه تحت سطح البحر, لا تخلو من دلالات حضارية, وإن أخبار الحملات البحرية, والرحلات البعيدة, التي قام بها الكنعانيون, في بلاد الغرب البعيدة, كشبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال) والمحيط الأطلنطي, وكذلك الرحلات البحرية الهيلادية, تبيّن كم كان النشاط البحري, خلال العصر البرونزي وبداية العصر الحديدي, شديدًا وجسورًا, ومفعمًا بالحيوية, وإذا كان البرّ لا يعطي صورة كاملة عن المظاهر الحضارية المتعددة, فإن التنقيب الأثري تحت سطح البحر, يكمل صورة تلك المظاهر.

          كان البحر المتوسط واسعًا, في المقياس القديم للشراع والمراكب, والبحر المتوسط ألف شيء مرة واحدة, فهو ليس مشهدًا, إنما عدد لا يُحصى من المشاهد.

          وقد ولدت حضارات كبرى على شواطئه, وكان الكنعانيون سكان الساحل السوري, أول شعب بحري في التاريخ, اعتمدت حضارته وتجارته على استخدام السفن, وركوب البحر.

          وعلى الساحل الشرقي للبحر المتوسط, كانت تلتقي الطرق التجارية, الذاهبة إلى أعماق القارة الآسيوية, مع الطرق المتوجهة إلى أوربا. وقد تم العثور في بلاد اليونان, وفي جزيرتي صقلية وسردينيا, على كثير من أوعية المئونة الكنعانية, وتماثيل عدة, بعضها من البرونز أو العاج, وبعضها الآخر من النحاس المذهب, وعلى سبائك من البرونز, وهي مجلوبة من الشرق البعيد, من سورية. وليس من قبيل المصادفة, أن تتم في مدينة أوجاريت, مركز التقاء الشعوب ولغات وأجناس مختلفة, تلك القفزة المهمة, من الكتابة المسمارية المقطعية المعقدة, إلى الكتابة الأبجدية, وإن السفن التي غرقت في شرقي البحر المتوسط, بأعداد كبيرة, في العصور القديمة, والعصور اللاحقة, جعلت من هذا البحر, قبلة المكتشفين الرئيسة, للآثار الغارقة تحت الماء.

الغوص والاكتشاف

          قدم الغوص مجالات واسعة للاكتشافات الأثرية, فقد قام الغواصون بالبحث عن الكنوز الغارقة, سواء من أجل البحوث العلمية, أومن أجل المكاسب التجارية, وكان بين هؤلاء الغواصين علماء ومؤرخون ومغامرون أيضًا.

          ولم يستطع الإنسان, أن يغوص لفترة طويلة تحت سطح الماء, إلا بعد نجاحه في ابتكار جهاز الغوص, الذي يسمح له بالتنفس فيه. وقد طوّر العالم الفرنسي جاك كوسكو جهاز الغطس (سكوبا) حين اخترع منظم الهواء, الذي يسمح بمرور الهواء المضغوط من الأسطوانة, بضغط يعادل ضغط الهواء الجوي الطبيعي.

          وبالرغم من  هذه الإنجازات, فإن الغوص يتوقف عند عمق معين هو 70 مترًا تقريبًا, أما في الأعماق, التي هي خارج نطاق تحمّل الجسم البشري, فإن (القمرات البحرية) هي خير وسيلة, للتغلب على مثل تلك الصعاب, والغوص إلى أعماق كبيرة, كما تم تزويد القمرة, بأذرع ميكانيكية, لتنفيذ أعمال بحرية عدة.

          يستعمل المنقبون, وعلماء آثار ما تحت سطح البحر, ما يلزمهم مما قدّمته لهم الاكتشافات العلمية, والاختراعات العديدة, فقد تطورت أساليب الغوص, وأجهزة تسجيل الأعماق البحرية الإلكترونية, فأصبح بالإمكان رسم خرائط محددة لقاع البحر.

          ويستعمل المنقبون الطوافات الكبيرة العائمة, التي تقام عليها غرف العمليات, والرافعات. وقد ابتكر العلماء طريقة جديدة, للمسح الأثري تحت سطح الماء, وهي التصوير الفوتوغرافي لكل التفاصيل, وتوجيه التصوير التلفزيوني, ليتركّز على المنطقة الأثرية, فيما يجلس عالم الآثار في حجرته, على ظهر السفينة, ليتتبع المشاهد, ويراقب عمليات الفحص والترتيب. ويستعين هؤلاء المنقبون أيضًا بالمراكب وبوحدات التصوير التلفزيوني في أعماق البحر, إضافة إلى أجهزة التصوير الأخرى, وأجهزة الرصد والتسجيل.

          ومن أحدث الأجهزة في هذا المجال (القاطر الكهربائي) وهو عبارة عن جسم إسطواني, مزوّد بمحرك كهربائي, ومروحة دافعة, ويمكن توجيه هذا القاطر حسب رغبة الغواص. كما يستخدم جهاز (الأزدك) للبحث عن الآثار البحرية, في المناطق ذات القاع الرملي أو الطيني, وهو جهاز يرسل نبضات صوتية نحو القاع, ويستقبلها ثانية بعد ارتدادها, فإذا اصطدمت تلك النبضات بجسم قاس, يعرف ذلك بشكل صوتي, أو ترسيمي, على لوحة بيان خاصة.

          وبدأ التنقيب عادة بالإعداد لعملية الإنقاذ, بعد أن يكون قد حدد موقع الآثار بدقة, وهنا تختلف الاستعدادات اللازمة, حسب نوع الآثار ومكان وجودها وعمقها, والإمكانات المتوافرة, لدى القائمين بهذا العمل, وكذلك فإن رفع الآثار البحرية, ونقلها إلى مكان آخر, يتطلب المزيد من الدقة والعناية, وترسل هذه الآثار عادة إلى المخابر الخاصة بالصيانة والترميم. وقد أصبح ترميم وصيانة وتخزين الآثار البحرية, بإشراف فنيين مختصين, هو أفضل تصرّف, يمكن عمله في جميع الحالات.

أهم الاكتشافات

          لقد توالت الاكتشافات, التي قامت بها فرق الدراسة والتنقيب تحت سطح البحر, وهذه نبذة منها على سبيل المثال:

          1- في عام 1900, وفي الشهور الأخيرة منه, تم إخراج أول دفعة من التماثيل والآثار البرونزية, من مياه خليج (أنثيكيثيرا) في بلاد اليونان, وقد اعتبر ذلك, أو محاولة جادة, لاستعادة الآثار الغارقة.

          2-  في عام1907 انتشل الغواصون تحفًا من المرمر والبرونز من شواطئ (المهدية) التونسية, ما لبثت أن أصبحت محط أنظار السيّاح, في متحف (باردو).

          3- في عام 1960 عثر على حطام سفينة كنعانية, تعود إلى العصر البرونزي, وأخرى بيزنطية, تعود إلى القرن السابع, قرب سواحل الأناضول الغربية.

          4- في عام 1964 تم اكتشاف سفينة محمّلة بسبائك الفضة والمجوهرات, قرب سواحل فلوريدا الأمريكية.

          5- في عام 1982 عثر غواص على أقدم حطام سفينة, وجدت حتى الآن, قرب الساحل الجنوبي الغربي للأناضول, في موقع (أولو بورون), وتعود هذه السفينة الكنعانية غالبًا إلى القرنين 13-14ق.م, وقد وفّر هذا الاكتشاف خريطة مفصلة ونابضة بالحياة, لطرق التجارة والشحن, في البحر المتوسط, لأكثر من ثلاثة آلاف سنة خلت.

          6- في عام 1984عثر على حطام سفينة, كانت محملة بالجرار, قرب مدينة طرطوس الساحلية السورية, وهي تعود إلى العصر الهلنستي.

          7- في عام 1992تم اكتشاف عدد كبير من قطع التماثيل البرونزية, في شواطئ مدينة (برنديزي) في جنوب إيطاليا, تعود إلى العصر الروماني المتأخر.

          8- بين عامي 1984-1998تم انتشال بعض قطع وكنوز (نابليون) الغارقة في مياه خليج (أبي قير) قرب مدينة الإسكندرية.

          9- في عام 1993 اكتشف حطام سفينة إسبانية غارقة, قرب شواطئ (مانيلا) في الفلبين, حيث عثر على أكثر من 13000 قطعة من حلي الذهب.

          وقانون البحار الدولي, يعطي الحق لكل من ينقذ شيئًا, من حطام سفينة غارقة, في خمسين في المائة من قيمته.

المتاحف البحرية

          توجد في العديد من دول العالم اليوم متاحف بحرية, أفردت قاعات فسيحة للسفن القديمة, المنتشلة من قيعان البحار, وصالات أخرى لكل موضوع من مواضيع البحر مثل أدوات الملاحة, الوثائق البحرية, اللوحات البحرية وغيرها.

          وفي المتحف البحري الوطني في بريطانيا, الذي يحتل مجموعة أبنية فخمة على ضفة نهر (التايمز) في الجنوب الشرقي من مدينة لندن, وإضافة لما تقدم, هناك مكتبة تضم 80000 مجلد, وهناك 30000 لوحة بحرية, وليس عجيبًا أن يسمى هذا المتحف باسم: (بيت الكنوز البحرية), وأن يطوف بأرجائه كل عام أكثر من مليون ونصف المليون من الزوار.إننا نحلم اليوم بجمعية علمية عربية, تنتدب نفسها لمثل هذه الأعمال المثيرة, وتقوم بانتشال آثارنا الغارقة تحت الماء, لتأخذ مكانها في متحف بحري, وتكمل السطور الضائعة, في سجل حضارتنا المجيدة.

          لقد كانت الآثار البحرية, ولاتزال, وستبقى حلمًا يراود مخيلة كل عالم يبحث عن المعرفة, وكل هاوٍ ينشد المتعة والشهرة, أو مغامر يبحث عن الكنوز, وإن الدراسات والاكتشافات البحرية, تسفر كل يوم عن اكتشاف جديد, فغواصو الآثار, مازالوا يجوبون أرجاء البحار, وعلى قوائمهم أسماء سفن كثيرة, مرهونة في العباب, ومناجم آثار ثمينة مرشوقة في الأعماق, واللقاء بين الماضي والحاضر, لايزال مستمرًا.

أَبا الهَوْلِ, طالَ عليكَ العُصُرْ وبُلِّغْتَ في الأَرْضِ أَقصى العُمُرْ
فيا لِدةَ الدَّهرِ, لا الدّهرُ شَـ  ـبَّ, ولا أَنت جاوزتَ حدّ الصِّغَرْ
إِلامَ ركوبُكَ متنَ الرما لِ لِطَيِّ الأَصيلِ وَجَوْبِ السّحَرْ?
تُسافر منتقلاً في القرو نِ, فأَيّان تُلْقي غُبارَ السَّفرْ?
أَبينكَ عَهْدٌ وبين الجبا لِ, تزولان في الموعدِ المنتظرْ?
أَبا الهولِ, ماذا وراءَ البقا ءِ - إِذا ما تطاولَ - غيرُ الضَّجَرْ?


(أحمد شوقي)

 

حسني حنا   

 
  




عالم البحار الفرنسي (جاك كوستو)





عالم البحار الفرنسي (جاك كوستو)





جانب من أعمال التنقيب الأثري تحت سطح البحر





سفينة أبحاث (آثار ماتحت سطح البحر)





الاحفورة السورية (شاطئ طرطوس) سورية





جرة وأوان فخارية (من السفينة الكنعانية الغارقة في أولوبوروف) الشاطئ الجنوبي الغربي للأناضول





غواصان وكأس معدنية (السفينة الكنعانية) الغارقة في (أولوبوروف) الساحل الجنوبي الغربي للأناضول





الطوافة وفريق العمل الياباني - شاطئ طرطوس





التصوير التلفزيوني تحت سطح البحر - شاطئ طرطوس