محمود درويش.. أبعد من زهر اللوز

   محمود درويش.. أبعد من زهر اللوز
        

الشاعر الفلسطيني محمود درويش واحد من الشعراء القلائل الذين عملوا على تطوير أنفسهم, وتطوير القصيدة العربية,وتنقيتها من شوائب النمطية وفقر الدم واللغو المجاني.  

          لا يعود ذلك - بالطبع - إلى الموهبة وحدها- وهي في حال درويش عالية ومتأججة - بل إلى الإخلاص لقضية الشعر واعتباره عصب الحياة ومدارها ونقطة ارتكازها الأساسية. فبالرغم من أن الشاعر قد حصل خلال حقب مختلفة من حياته على امتيازات اجتماعية ومادية, وعلى مناصب سياسية, كان يمكن لها أن تعيق أي تجربة أخرى,  فإنه ضرب بكل الامتيازات عرض الحائط, وانحاز إلى القصيدة التي رأى فيها حصته وملاذه ومشروع حياته الأهم.

          منذ مجموعته المنشورة الأولى (أوراق الزيتون) وصولاً إلى مجموعته الجديدة (كزهر اللوز أو أبعد), ودرويش لا يأنس إلى نمط أسلوبي أو طريقة في الكتابة أو نظام إيقاعي. فهو ما إن ينجز عملاً جديدًا حتى يملّه ويتبرّم منه باعتباره جزءًا من ماض شعري ينبغي تجاوزه باتجاه مقاربة أخرى للقصيدة. كأن فيه بهذا المعنى الكثير من قلق المتنبي وضجره السريع وهاجسه الدائم في المغامرة وارتياد الآفاق, وهو ارتياد لا يقتصر في الحالتين على جغرافيا الخارج فحسب, بل يطاول جغرافيا الداخل وكشوف اللغة وإيقاعاتها اللانهائية. لكن اللافت في هذا السياق, أن قصيدة درويش كانت أكثر اطمئنانًا إلى نفسها, وإلى تدفقها العفوي وصدقها العاطفي أثناء إقامة الشاعر في وطنه الأم, لكنه ما أن خرج إلى (المنفى) حتى فقدت هذه القصيدة طمأنينتها ووقوفها بأي شكل نهائي. كأنها قابلت المنفى الجغرافي بمنفى تعبيري, أو كأن غياب الوطن ومكان الإقامة الأول جعل اللغة بدورها في حال (استيطان) دائمة لأشكال وبنى تعبيرية لا تستقر على حال.

الوطن والمنفى

          لا يعني ذلك بأي وجه مفاضلة بين شعر الوطن وشعر المنفى لدى محمود درويش, وكلاهما يكمل الآخر ويحاوره, بل يعني أن المنفى على قسوته هو الذي أتاح للشاعر أن يزحزح عن صدره حجر الطمأنينة والوثوق بالشعر والهوية, ويطرح أسئلته على الذات والعالم بشكل مختلف عما سبق. فمنذ (سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا), التي كتبت بعيد خروج الشاعر من الأرض المحتلة بقليل, تلمّس قرّاء محمود درويش أبعادًا جديدة في كتاباته, طاولت شكل القصيدة, الذي أصبح أكثر تعقيدًا وميلاً إلى المسرحة والبناء الدرامي والتنوع الإيقاعي بقدر ما طاولت المفاهيم والرؤى والكشوف المعرفية المتصلة بالمكان والزمان والتاريخ وعلاقة الوطن بالمنفى, والأنا بالآخر في جدليتهما المستمرة. منذ سبعينيات القرن الماضي, لم يعد الشعر عند درويش مجرد غناء صرف على طريق الفقدان, أو مجرد نشيد عاطفي يعلن انحيازه الواضح للضحايا ضد الجلادين, وللفقراء ضد الأغنياء, وغير ذلك من الثنائيات الضدية, التي كرّستها الواقعية الاشتراكية في حقبتها الجدانوفية, بل أصبح مساءلة صعبة للأجوبة الجاهزة نفسها, ومحاولة دءوبا لإعادة النظر بالمسلمات السابقة المتعلقة بمفاهيم الوطن والمنفى والعدالة والظلم والأنا والآخر.

          أول ما يلفت نظرنا في مجموعة درويش الأخيرة (كزهر اللوز أو أبعد) هو استشهاد الشاعر بقول أبي حيان التوحيدي: (أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر, ونثر كأنه نظم). فهذا الاستشهاد يضيء بشكل واضح المآل الذي وصل إليه درويش في عراكه مع الشعر, حيث تبدت لنا في محطات كثيرة ماضية غلبة الشعرية, في توترها الإيقاعي أو انسيابها الصافي, على ما عداها من العناصر. ودرويش الذي وصل بالغنائية العربية إلى أقصى ما شهدته الكسور الخليلية الوزنية من إيقاعات بدا وكأنه سئم من الغناء والإنشاد الملحميين, ومن استنفار الجمال والجرس التعبيريين, وأراد عبر مزاوجة الشعري والنثري أن يكسر الثنائية الضدية بين الشعر والنثر, وأن يفتح للقصيدة مسارب أكثر هدوءًا وقابلية للتماهي مع الحياة العادية. فالحياة وفق منظوره الجديد ليست استنفارًا دائمًا للأعصاب أو للقوى المتقابلة, وأطراف الصراع, ولا تجييشًا مستمرًا للمشاعر والانفعالات, بل هي تجري, بمعظمها, في الشوارع والمقاهي وأماكن العمل, والانشغال بلقمة العيش, أو سرير الحب. وقد حقّ للقصيدة تبعًا لذلك أن ترتاح من أعباء القضايا (الكبرى) وتأنس إلى ما يفعله الناس في عاديّات أيامهم ولياليهم. هكذا باتت قصيدة درويش قادرة على كسر طوق جماليتها الفائقة, وهو ما لمسناه في بعض المجموعات الأخيرة أيضًا, والتعامل مع ما كان يظنه البعض من سقط العيش أو من اقتصاص النثر وحده كالتحدث عن فطور الصباح, أو تسديد فاتورة الكهرباء:

وأنت تعدُّ فطورك, فكّر بغيرك
(لا تنس قوت الحمام)
وأنت تخوض حروبك, فكّر بغيرك
(لا تنسى من يطلبون السلام)
وأنت تسدّد فاتورة الماء, فكّر بغيرك
(من يرضعون الغمام)

          في هذا المقطع وغيره, يشعر قارئ محمود درويش بخطورة المجازفة التي يقدم عليها شاعر (أحمد الزعتر) و(بيروت) و(الجدارية), حيث يتخفف من شعرية التوتر العالي والإنشاد الملحمي ليدخل في تسبيح إيقاعي وتعبيري دائم بين الشعر والنثر, ويقيم فوق الخيط الرفيع الذي يفصل أحدهما عن الآخر. واللافت هنا أن الشاعر يختار تقسيمًا للأبيات, شبيهًا بنظام الشطرين في عروض الخليل, كما أنه يختار للقصيدة برمتها قافية واحدة على عادة الأقدمين, إلا أن ذلك بدا من باب ذرّ الرماد في العيون, لأن الشكل هنا يخترق شكلانيته, ليندمج في تلقائية المعنى وقوة الحياة وصدقها الظاهر. أما في قصيدة (مقهى وأنت مع الجريدة), فينتقل درويش من (المتقارب), الذي يسهل ترويضه بوصفه يكرر تفعيلة ملتبسة الجرس بين الهدوء والإنشاد, إلى (الكامل) الذي كتب فيه الشاعر معظم قصائده, ووصل به إلى أقصى تخوم الغنائية والتفنن الإيقاعي. لكنه في قصيدته هذه يعمل على تهدئة البحر المذكور وترويضه إلى أبعد الحدود, لكي يصبح متوائمًا مع مشهد الرجل الهادئ الذي يقرأ جريدته من خلف زجاج المقهى, متيحًا لنفسه فرصة الاختفاء عن أعين العابرين, والتفرّج على الحياة من خارجها:

مقهى, وأنت مع الجريدة جالسٌ
لا, لست وحدك. نصف كأسك فارغٌ
والشمس تملأ نصفها الثاني...
ومن خلف الزجاج ترى المشاة المسرعين
ولا تُرى (إحدى صفات الغيب تلك:
ترى ولكن لا تُرى)
كم أنت حرٌّ أيها المنسي في المقهى

الشاعر مفكرًا

          تشتمل مجموعة درويش الأخيرة على أربع وثلاثين قصيدة تتوزع بين القصائد القصيرة والطويلة, وبين ثمانية عناوين أساسية. العناوين الأربعة الأولى مقسمة على الضمائر الأربعة: أنت, هو, أنا وهي. أما العناوين الأربعة الأخرى, فمقسمة بين أربعة منافي, وآخرها المنفى الذي يخص صديقه المفكر الراحل إدوارد سعيد. وهذا التقسيم للمجموعة, لا يتأتى على الأرجح عن طريق الصدفة, بل هو نتاج ميل الشاعر على إخراج الشعر من إطار الغناء الرومانسي, والترجيع الوجداني إلى إطار آخر يربط الشعر بالفكر ويحوّله إلى مشروع رؤيوي ومعرفي في الآن ذاته. وإذا كان الفكر نقيضًا للشعر, ومفسدًا له, كما يرى الناقد الفرنسي جان ليسكور, فإن ما يمنع محمود درويش من الوقوع في فخ البرودة الذهنية, أو المعادلات العقلية الصارمة هو قوة موهبته المستندة دائمًا إلى عصب مشدود, وعاطفة متوقدة, ولغة دائمة الفوران. أما استخدام الضمائر في المجموعة, فليس مجرد لعب لغوي صرف, بقدر ما هو تفكيك معرفي لمفهوم الهوية, ووضع للأنا في سياق ارتباطها بالآخر (أو الآخرين) بعيدًا عن العزلة والانغلاق, ومفهوم الهوية الصافية. ومع ذلك, فثمة أربعة ضمائر وأربعة منافٍ تتقابل وجهًا لوجه, حيث لكل ضمير منفاه, ولكل حقيقة صحراؤها المتربصة. وإذا لم تكن هنالك من حلول يقينية للغز الوجود, وما يتفرع عنه من قضايا الحياة والموت والظلم والمنفى واغتصاب الوطن, وانكسار الحب, فإن الشاعر يقترح علينا وعلى نفسه ألا تنتظر شيئًا أو أحدًا لكي يتم الخلاص على يديه. فلربما كان أجدى لنا أن نكتفي بالتمتع بما أعطيناه من مشاهد الطبيعة وجمالاتها بعيدًا عن قسوة الأسئلة وقلق الانتظارات الطويلة. وربما كانت قصيدة درويش (لم ينتظر أحدًا) هي الوجه الآخر لقصيدة (الحلم), حيث تشترط الأحلام لكي تأتي ألا ننتظرها أبدًا,  وإلا ظللنا نتقلب بشكل دائم على فراش اليقظة المؤرقة:

لم ينتظر أحدًا أمام النهر
في اللا انتظار أصاهر الدوريّ
في اللا انتظار أكون نهرًا - قال -
لا أقسو على نفسي,
ولا أقسو على أحدٍ,
وأنجو من سؤال فادحٍ:
ماذا تريد?

مرارة وألم

          ثمة ألم شديد المرارة في مجموعة درويش الأخيرة. لعله الألم الناجم عن تقاطع الخسارات وتضافرها على الشاعر الستيني الذي أنهكه المرض, بقدر ما أنهكته صورة الوطن, التي تبتعد كلما اقتربت, والتي تتمزق أوصالها تحت حراب الأعداء وإمعانهم في القتل. وفي حين كانت القصائد في الماضي تشحذ تفاؤلها وإيقاعاتها العالية على سكين الشباب والنضارة الجسدية, لا تجد ما يسندها الآن سوى قوة الحكمة المجربة وبلاغة التسديد إلى جوهر المعنى. لقد فات أوان الوعود والأحلام الكبيرة, فالنوم نفسه لم يعد يتم بقصد الحلم, بل بقصد النسيان, كما يعبر الشاعر في قصيدته: (لا أنام لأحلم). والحب بات مثقلاً بفارق السنوات بين طرفيه, كما في قصيدة: (قال لها: ليتني كنت أصغر).

          (والحياة التي لا تعرّف إلا بضدّ هو الموت, ليست حياة), كما في قصيدة (طباق المهداة إلى إدوارد سعيد). ومع ذلك, فثمة فرح ما يجيء من جهة التفاصيل الصغيرة, والطبيعة المتغيرة, وضحكة الفتاة التي تعبر الشارع. وثمة فرح ما يطل من الشعر نفسه حيث (في البال أرضٌ سماوية الاسم تحملها الكلمات).

 

 

شوقي بزيع