الصهيونية بذور سوداء داخل ديانة قديمة

الصهيونية بذور سوداء داخل ديانة قديمة

تعودنا أن نفصل بين اليهودية كديانة والصهـيونية كحركة سيـاسية. ولكن هذا المقال يقدم رؤية مختلفة فهو يغوص في نصوص الدين اليهودي ليكشف عن جذور الحقد الأسود التي يبررون بها اغتصاب الأرض وقتل الآخر.

لقد مرت مأساة الشعب الفلسطيني بعدة مراحل ولعل أولاها هي المرحلة التي إنحاز فيها إله العبرانيين إلى بني إسرائيل انحيازا مطلقا في مقابل العداء المطلق المصوب ضد غيرهم من الشعوب. والمرجعية الأساسية لهذا الانحياز تستند إلى كتب العبرانيين التي يقدسونها حتى اليوم, ومنها العهد القديم, فنجد إله العبرانيين يوزع أراضي الشعوب المستقرة, ومنها الشعب الفلسطيني, على بني إسرائيل دون وجه حق: "وكان في الأرض جوع غير الجوع الأول الذي كان في أيام إبراهيم. فذهب إسحق إلى أبيمالك ملك الفلسطينيين إلى جرار. وظهر له الرب.." إلخ إلى أن قال: "لإني لك ولنسلك أعطي جميع هذه البلاد وأفي بالقسم الذي أقسمت لإبراهيم أبيك" (تكوين, إصحاح 26: 1 ـ 4) وكذلك: "وقال الرب لموسى اذهب اصعد من هنا أنت والشعب الذي أصعدته من أرض مصر إلى الأرض التي حلفت لإبراهيم وإسحق ويعقوب قائلا لنسلك أعطيها. وأنا أرسل أمامك ملاكا وأطرد الكنعانيين والأموريين والحثيين.. الخ" (خروج 33:1 ـ 3) وإله العبرانيين يحرض موسى قائلا: "احترز من أن تقطع عهدا مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فخا في وسطك. بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم" (خروج 34: 11 ـ 16) كما أن الاتقياء من بني إسرائيل المعاصرين مازالوا يرددون "وكلم الرب موسى في عربات موآب على أردن أريحا قائلا كلم بني إسرائيل وقل لهم إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان. فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وتمحون جميع تصاويرهم.. وتخربون جميع مرتفعاتهم.. تملكون الأرض وتسكنون فيها لأني قد أعطيتكم الأرض لكي تملكوها وتقسمون الأرض بالقرعة بين عشائركم" (عدد 33: 50ـ 54).

إن هذا الإله المنحاز لشعبه المختار لا يكتفي بطرد السكان الأصليين من أجل عيون بني إسرائيل, وإنما يحذرهم قائلا: "وإن لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم يكون الذين تستبقون منهم أشواكا في أعينكم ومناخس في جوانبكم ويضايقونكم على الأرض التي أنتم ساكنون فيها. فيكون أني أفعل بكم كما هممت أن أفعل بهم" (عدد 33: 55 ـ 56) إن مهمة هذا الإله هي توزيع أراضي الغير على بني إسرائيل. فبعد أن مات موسى استدعى الرب يشوع وقال له "موسى عبدي قد مات. فالآن قم. اعبر الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل. كل موضع قدم تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى. من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات. جميع أرض الحثيين وإلى البحر الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخمكم" (يشوع/1: 1ـ9).

إن المؤمنين الاتقياء من بني إسرائيل المعاصرين يلغون عقولهم في سبيل التمسك بالنص. فإذا كانت الشعوب المنتمية إلى أوطان لها حدود جغرافية محددة. واكتسبت هذه الحدود بحق الاستقرار الذي جاء تتويجا لظروف النشأة والعمل والبناء والتشييد الخ, فإن مشيئة إله العبرانيين تقرر سلب أراضي الشعوب التي زرعت وشيدت وتسليمها إلى شعبه المختار: "ومتى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي حلفت لآبائك إبراهيم واسحق ويعقوب أن يعطيك إلى مدن عظيمة جيدة لم تبنها وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها وآبار محفورة لم تحفرها وكروم وزيتون لم تغرسها وأكلت وشبعت. فاحترز لئلا تنسى الرب الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. الرب إلهك تتقي وإياه تعبدوباسمه تحلف" (تثنية/6: 10ـ13).

إن الحركة الصهيونية في العصر الحديث, التي استهدفت تجميع اليهود من كل بلاد العالم, من أجل استيطانهم في أرض ليست لهم, وهي الحركة التي انتهت بطرد الشعب الفلسطيني من أرضه, هذه الحركة الصهيونية إنما تستند إلى مرجعية الديانة العبرية, فها هي مشيئة إله العبرانيين تقرر "متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها وطرد شعوبا" كثيرة من أمامك.." إلى أن يقول "لا تقطع لهم عهدا ولا تشفق عليهم ولا تصاهرهم. إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعبا أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض" (تثنية/7: 1ـ 6) ولأنه إله ملاكي فهو يكرر ذات المعنى في ذات السفر (9/1 ـ 6) وفي غيره من أسفار العهد القديم.

مرجعية العنف

والعنف الذي يمارسه المتدينون الأتقياء من بني إسرائيل المعاصرين, له مرجعيته الدينية في كتابهم المقدس, ففي سفر التثنية يقول موسى لبني إسرائيل إنه عند الدخول إلى مدينة لمحاربتها وقبلت الصلح, فإن أبناء الشعب المغزو يتحولون إلى عبيد لبني إسرائيل. أما في حالة رفض الصلح, يقول موسى: "وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك" (تثنية/20: 10 ـ 15).

وفي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي أصدر الكاتب الألماني "موزيسي هيسي" كتابا عن "تاريخ البشرية" قال فيه: "إن شعب الله المختار ينبغي أن يختفي إلى الأبد, ليفسح الطريق لحياة جديدة أكثر نقاء وطهرا" ولكنه بعد عدة سنوات تراجع عن أفكاره الأولى, وقرر اعتناق الصهيونية ذات المرجعية الدينية, فأصدر عام 1862 كتابه "روما والقدس" دعا فيه إلى تجميع اليهود من شتاتهم واحتلال فلسطين لتكون وطنا لليهود. وبذلك يكون "موزيسي هيسي" قد سبق "تيودور هرتزل" الذي نجح في عقد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 في مدينة بازل بسويسرا. بعد هذا المؤتمر تم الاستعداد لتوطين اليهود في أوغندا أو في سيناء, ونظرا لرفض الإنجليز هذا الاقتراح, فقد استقر الرأي على الاستيلاء على فلسطين.

في هذه الفترة يبرز كاتب ألماني آخر هو "آرثر روبين" الذي شد أنظار زعماء الحركة الصهيونية إليه بكتابه "اليهود في الزمن الراهن" فطلبوا منه ترك ألمانيا والتوجه إلى فلسطين, وذلك بغرض محدد وهو إعداد تقرير عن أوضاع المستوطنات الصهيونية في فلسطين, وكان ذلك عام 1907, وفي العام التالي عينته الحركة الصهيونية رئيسا لمكتب المنظمة الصهيونية في فلسطين.

والسؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح هنا هو: إذا كانت الحركة الصهيونية قد نجحت في "زرع" مكتب لها في فلسطين مع بداية القرن العشرين, فكيف تم ذلك وبهذه البساطة? وإذا كان العرب في ذاك الوقت مجرد قبائل متصارعة, ولم يستقروا في "أوطان" وفق التعريف العلمي لمفهوم الوطن, أو مفهوم الدولة, فلماذا لم ينتبه الفلسطينيون للخطر المحدق بهم وللمخططات التي بدأ تنفيذها, خاصة أن الصهاينة أصبحوا في عقر دارهم?

مرحلة وعد من لا يملك

وهي المرحلة التي شهدت انحياز أكبر دولة استعمارية في ذاك الوقت للحركة الصهيونية, وذلك لمؤازرة اليهود وتأييدهم في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين. وإذا كانت هذه المرحلة التي تنتهي في 14 مايو 1948 تاريخ إعلان الدولة العبرية, قد شهدت انتفاضات عديدة للشعب الفلسطيني, أبرزها تصاعد الصراع ضد المحتل في الثلاثينيات, فإن الباحث عن الحقيقة وحدها لابد أن يسأل: لماذا لم يحدث التراكم الكيفي بعد كل التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني قبل قرار التقسيم رقم 181 الصادر عام 1947 والذي مهد لإعلان الدولة العبرية? وما هي العوامل التي أدت إلى انتصار العصابات الصهيونية المعتدية على أصحاب الحق التاريخي? والسؤال بصيغة أخرى: لماذا لم يكن التراكم الكيفي للصراع مع أصحاب الحق? وهل يكون السبب أن تضحيات الشعب الفلسطيني كانت بعيدة عن التعريف العلمي لحرب التحرير الشعبية التي خاضتها شعوب عديدة مثل الشعب الفيتنامي?

أعتقد أن محاولة الإجابة الجادة سوف تساعد في فصل الأوهام عن الحقائق والأساطير عن الواقع. ومن أمثلة الأوهام/الأساطير, الدور الذي لعبه الخطاب الإعلامي الثقافي العربي, الذي ركز خطابه على أن الحكومات العربية وشعوبها مسئولة عن تحرير فلسطين. وقد ترتب على ذلك, بمفهوم المخالفة, كما يقول القانونيون, أن مسئولية الشعب الفلسطيني عن تحرير أرضه, مسئولية ثانوية. وهكذا تسبب الخطاب الإعلامي/الثقافي العربي في تعميق مأساة الشعب الفلسطيني, لأن خبرة الشعوب التي ناضلت من أجل تحرير كامل ترابها, تؤكد أن الاعتماد على الذات, أولا وقبل كل شيء, هو الأساس في الانتصار على المحتل. لقد ساعدت الشعوب الحرة الشعب الفيتنامي بالمال والسلاح, ولكن كان الشعب الفيتنامي هو المسئول الأول الذي قاد حرب التحرير الشعبية حتى تحقق له النصر على أكبر دولة قادت الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية.

كما اعتمد الخطاب الإعلامي العربي على الشعارات والخطب مثل التركيز على أن الفلسطينيين أصحاب حق, مع التغاضي عن عوامل القوة التي تدعم هذا الحق. ومنذ بداية المرحلة الرابعة للصراع "مايو 1948" حتى الآن, يلاحظ أنه كلما تصاعد الخطاب العربي الإنشاني, تفاقمت مأساة الشعب الفلسطيني في نفس الوقت الذي تراكمت فيه انتصارات الدولة العبرية المعتدية, وهي الانتصارات التي تم تتويجها في يونيو 1967 بهزيمة أكثر من دولة واحتلال أجزاء من أراضيها في أقل من ست ساعات. وهي الحرب التي قد يصعب تصديق نتائجها بالنسبة لأجيال الألفية الرابعة, وقد يحسبون روايتها من باب الأساطير أو الغيبيات والخرافات.

كعب أخيل

رغم أن الدولة العبرية أصبحت قوة نووية تستطيع قمع كل الدول المحيطة بها, ورغم أنها أصبحت دولة معترفا بها دوليا منذ قرار التقسيم رقم 181 الصادر عام 1947 وإعلان الدولة في مايو 1948 حتى الآن, الأمر الذي يصعب تجاهله لوضع نهاية لمأساة الشعب الفلسطيني, ورغم أنها أصبحت دولة متقدمة في مجالات التعليم والبحث العلمي والتصدير ومستوى المعيشة.. إلخ رغم ذلك فإن الدولة العبرية تعاني من صراع حاد يكاد يقسمها نصفين: صراع يقف في إحدى جبهتيه الحاخامات اليهود الذين يتشبثون بالمرجعية الدينية العبرية. وأن بني إسرائيل هم شعب "يهوه" المختار, ويحق لهم إبادة غيرهم من الشعوب, ولهم حق طرد كل سكان الأرض لإقامة مستوطناتهم. وأن كل موضع تدوسه بطون أقدامهم هو حق إلهي لبني إسرائيل.. إلخ. وعلى الجبهة الأخرى يقف العلمانيون الذين يرفضون المرجعية الدينية العبرية, ويستهدفون إقامة دولة علمانية ديمقراطية, يتساوى فيها الجميع وفقا لحق المواطنة لا وفقا للانتماء الديني. ويرفضون التوسع على حساب أراضي الغير وفقا لتعاليم إله العبرانيين المنحاز لشعبه المختار, وبالتالي فهم مع إقامة الدولة الفلسطينية.

ومشاهد الصراع بين الحاخامات والتيار العلماني كثيرة يصعب رصدها في هذا الحيز, وإنما اكتفي بالإشارة إلى الخبر الذي نشرته صحيفة الأهرام "المصرية" نقلا عن وكالات الأنباء حيث جاء به "تصاعد الجدل الذي يمزق المجتمع الإسرائيلي منذ أكثر من شهر, بشأن الإصلاحات العلمانية واسعة المدى, التي طرحها إيهود باراك رئيس الوزراء السابق, بهدف تقليص الهيمنة الدينية للمتطرفين اليهود, وتقليص سلطة الحاخامات على شئون الحياة اليومية في إسرائيل, وسيطرتهم على الحياة الخاصة, والزواج والطلاق وتربية الأطفال. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن المجتمع الإسرائيلي منقسم بين مؤيد ومعارض بشأن هذه الإصلاحات العلمانية".

إن الصراع بين الجبهتين: جبهة الحاخامات وجبهة العلمانيين, هو صراع دراماتيكي, وأن الفائز في نهاية الصراع هو الذي سيشكل استراتيجية السياسة الإسرائيلية في المنطقة. فإذا فاز الآيات/الحاخامات, ومعهم جنرالات العنف والدم والإبادة, فلابد من تنفيذ مشيئة إله العبرانيين القائمة على سلب أراضي الغير, والتوسع في الاستيطان وإبادة السكان الأصليين. ولابد أن يصاحب ذلك الهجوم على الحضارة المصرية, وهو ما يفعله الآيات/الحاخامات الآن, إذ يشبهون أي طاغية في إسرائيل بأنه مثل "فرعون" مصر الطاغي المستبد.. إلخ, كما يواصلون مسلسل التزوير, وذلك بإدعاء أن بني إسرائيل هم الذين بنوا الأهرام وشيدوا مجمل الحضارة المصرية. وقد فعلها "مناحم بيجين" وأعلنها مرة في "الكامب" ومرة ثانية في مصر تحت سفح الأهرام عندما قال "إنني أشعر بالزهو والفخر وأنا جالس وسط الأهرام التي بناها أجدادي" ووصل التزوير إلى درجة أن القناة الفضائية الإسرائيلية تضع ثلاثة أهرامات رمزا لها.

سر كراهية اليهود

لقد ظللت لعدة سنوات أفرق بين اليهودية والصهيونية, بمراعاة أن الأولى دين, والثانية مذهب سياسي عنصري, ولأن الدين يدخل في إطار حق الاعتقاد, فيجب بالتالي احترام معتنقيه. أما الصهيونية, فلأنها تستهدف الاستيلاء على أراضي الغير, فيجب بالتالي مقاومتها. إلى أن قرأت ما كتبه مؤرخون وعلماء أوروبيون "موسويون ومسيحيون" عن اليهود في البلاد الأوربية, وإجماع هؤلاء المفكرين على كراهية الشعوب الأوربية لليهود. وبدأ السؤال يكبر في رأسي: ما هي أسباب كراهية الشعوب الأوربية لليهود? واكتشفت أنني لم أتعمق ـ أو لم أتوقف ـ أمام الصورة المزرية لليهود في كتابات المبدعين, مثل وليم شكسبير في مسرحيته الشهيرة "تاجر البندقية" أو جيمس جويس في رائعته "عوليس" في هذه الرواية يتحدث مستر "ديزي" عن عصابة ليفربول التي تهدد تجارة الأيرلنديين, فقال: "خذ بالك من كلامي يا مستر "ديدالوس" إنجلترا في قبضة اليهود. في كل مراكز النفوذ: مراكزها المالية وصحافتها, وهم امارات الاضمحلال لأي أمة أينما يتجمعون, يستنفدون طاقة الأمة الحيوية. إن التجار اليهود قد بدأوا عملهم التخريبي" وفي نهاية اللقاء وبعد أن هم مستر ديزي بالانصراف يتوقف ليقول لمحدثه "أردت فقط أن أقول لك هذا: إن أيرلندا, كما يقولون لها الشرف أن تكون البلد الوحيد الذي لم يضطهد اليهود" أما عن السبب فلأنها "لم تسمح لهم بدخولها أبدا".

وبدأت أربط بين صورة اليهود البشعة في كتابات المبدعين الأوربيين وصورتهم في تحليلات العلماء والمؤرخين, إلى أن وجدت الإجابة عن السؤال الذي ظل يشغلني: لماذا "لفظت" الشعوب الأوربية اليهود? ولماذا كانوا يعاملونهم باحتقار وازدراء وحذر وأحيانا بقسوة وصلت إلى حد الإبادة? إن الباحث لابد وأن يتوقف ليسأل: لماذا دبر الرومان لليهود تلك المذبحة البشعة المعروفة باسم مذبحة "تيتوس"? ولماذا أجهز عليهم "هارديان" في مذبحة نهائية? وأن من بقي منهم تم بيعهم كعبيد وذلك كما ذكر المؤرخ اليهودي "يوسيفوس" ولماذا أحرق الصليبيون اليهود في معبدهم عندما استولوا على القدس عام 1099م? والأمثلة كثيرة وكلها تشير إلى كراهية الشعوب الأوربية لليهود.

فلماذا هذا الموقف منهم? لقد وجدت ضالتي عند بعض العلماء, منهم على سبيل المثال "جوستاف لوبون" الذي كتب "أسفر تعصب اليهود عن عدم احتمال جيرانهم وجودهم, فلم يشق على هؤلاء الجيران أن يستعبدوهم" وكتب أيضا "كان بنو إسرائيل أقل من أمة حتى شاؤول, كانوا اخلاطا جامحة, كانوا مجموعة غير منسجمة من قبائل سامية صغيرة, أفّاقة بدوية, تقوم حياتها على انتهاب القرى الصغيرة" وكتب الكاتب اللبناني محمد السماك "الشخصية اليهودية قائمة على أساس استعداء الآخر, ذلك أن هذا الاستعداء يثير ردود فعل تتجسد في الكراهية والتمييز والإيذاء, وهي مشاعر تبلور الشخصية اليهودية وتكون عناصر تضامنها الجماعية", حتى أن "البرت اينشتاين" يقول في كتابه (حول الصهيونية: خطابات ورسائل) الذي صدر عام 1931 "إننا ندين إلى اللاسامية بالمحافظة على وجودنا واستمرارنا" أما الفيلسوف "سارتر" فيقول في كتابه "اليهودي واللاسامية, بحث في علم أسباب الحقد" الصادر عام 1948 "إن العامل الوحيد الجامع بين اليهود هو عداء المجتمعات المحيطة بهم وكراهيتها لهم".

وبهذا يكون "سارتر" قد لخص موقف المفكرين والمبدعين الذين تناولوا اليهود في كتاباتهم, وهو كراهية الشعوب الأوربية لهم. أما العالم الكبير "أينشتاين" فهو يعلن بكل شجاعة رفـضه لـ "السامية" وأن سبب المحافظة على الوجود والاستمرار يعود الفضل فيه إلى "اللا سامية" ولعل موقف أينشتاين "الفلسفي" هذا يفسر رفضه رئاسة الدولة العبرية رغم عروض وضغوط اليهود عليه.

أما المفكر الكبير "كارل ماركس" الموسوي الديانة فقد لخص وجهة نظره عن اليهود في كتابه المهم "المسألة اليهودية" وهي أن "اليهود اعتبروا المال هو إله إسرائيل المطماع. ولا ينبغي لأي إله آخر أن يعيش معه, لأن المتاجرة بالمال هي الإله الحقيقي لليهود" والأهم من ذلك في تحليل "ماركس" هو أن اليهودي رفضوا أن يعيشوا في مجتمعاتهم كمواطنين, لأن تمسك اليهود باليهودية تغلب على "الجوهر الإنساني الذي كان ينبغي أن يربطه ـ بوصفه إنسانا ـ بسائر الناس" وانتهى ماركس في تحليله الأخير الى أن خلاص البشرية من اليهود, بل والتحرر الاجتماعي اليهودي نفسه "إنما هو تحرير المجتمع من اليهودية" وأن التحرر اليهودي في معناه الأخير "يقوم في تحرير الإنسانية من اليهودية".

وإذا كان العهد القديم يمتليء بالحقد على مصر والمصريين, فإن لغة العلم تختلف عن لغة الأيديولوجيا. ومن ذلك مثلا أن بسماتيك الأول "سمح لليهود أن يتدفقوا على مصر, وأن ينشئوا لأنفسهم مستعمرة خاصة بهم, بل سمح لهم أن يقيموا معبدا لإلههم "يهوه" بل إنه بفضل تسامح المصريين ورحابة صدورهم عاش اليهود في مصر" وبعد هذا العطاء وهذا التسامح, ماذا حدث? "وهكذا انتهت الأمور باليهود أن نسوا لمصر أنها أطعمتهم من جوع وآوتهم من تشرد وكستهم من عري, فردوا لها الجميل نكرانا وكانوا عليها للفرس أعوانا وفي حاميتهم جنودا". وكان لابد أن تزداد كراهية المصريين لليهود "بعد أن رأوهم بعد طول إقامة في البلاد خونة وجواسيس ومثار فتن وأذنابا لأعداء البلاد".

وإذا كان هيرودوت الرحالة الإغريقي "أبوالتاريخ" الذي زار مصر في القرن الخامس ق. م وصف المصريين بأنهم "يزيدون كثيرا عن سائر الناس في التقوى" فإن العالم الكبير سيجموند فرويد يؤكد على ذات المعنى "بعد حوالي 2500 سنة من شهادة هيرودوت" عندما وصف المصريين القدماء بأنهم "ودعاء" بينما وصف الساميين بأنهم "همج" وأن "الشعب اليهودي قد قيض له القدر سلسلة من الامتحانات القاسية والتجارب المؤلمة, ومن ثم صار إلهه إلها صلبا قاسيا مندثرا بالكآبة", ولأن "فرويد" عالم يحترم لغة العلم فقد كتب (رغم أنه موسوي الديانة): " ليس بوسع أي مؤرخ أن ينظر إلى القصة التي ترويها التوراة عن موسى والخروج بأكثر من أنها أسطورة دينية" وذلك لمصلحة اتجاهاتها الأيديولوجية.. إلخ ثم أضاف في نهاية الفقرة: "ولكننا لا نستطيع أن نبقى بغير اكتراث عندما نجد أنفسنا في تعارض مع البحوث التاريخية اليقظة لعصرنا".

أعلى مراحل اليهودية

لقد قفزت باعتقادي قفزة واسعة, وانتقلت من ضرورة التفرقة بين اليهودية والصهيونية, إلى عدم الفصل بينهما, وأن الثانية ما هي إلا تتويج للأولى, أو "على نسق الصيغة الماركسية الشهيرة" أن الصهيونية أعلى مراحل اليهودية. وأن تشبث اليهود بـ "درع اليهودية" كان من الحتم أن يقابله رفض مفهوم "المواطنة" وأن رفض اليهود الفرنسيين الانتماء لفرنسا الوطن, ورفض اليهود الألمان الانتماء لألمانيا الوطن.. الخ, كان سببه تمسك اليهود بالمرجعية الدينية لتنفيذ مشيئة إله العبرانيين بضرورة العودة إلى "أرض الميعاد" ومن هنا نشأت ظاهرة "الجيتو" في المجتمعات الأوربية, وبسبب إصرارهم على فكرة "الجيتوهات" ورفضهم الاندماج والانتماء "الوطني" نجحوا ـ يجب الاعتراف بذلك ـ في تكوين أكبر "جيتو" بعد استيلائهم على أرض الشعب الفلسطيني.

لقد تحولت اليهودية من عقيدة دينية إلى مذهب سياسي, ثم امتزجا فصارا كوجهي العملة, لا انفصام ولا انفصال بينهما, وكان اسم هذه العملة "الصهيونية" وبالتالي فإنه لا خلاص للبشرية "واليهود أيضا كبشر" من هذه النزعة الصهيونية, إلا عبر تحرير الإنسانية من اليهودية, كما تنبأ "ماركس" بحق وهو ما يفعله التيار العلماني في إسرائيل حاليا.

وإذا كان الأصوليون اليهود يستندون إلى العهد القديم في تمسكهم بأرض الميعاد وطرد الشعب الفلسطيني من أرضه, فلمصلحة من يدعي بعض الكتاب المصريين, ذوي الصيت الإعلامي/الثقافي, أن يهود اليوم غير يهود الأمس, استنادا إلى عنصر ضعيف للغاية هو "الأنثروبولوجيا"?

ولماذا لم يسأل هؤلاء الكتاب أنفسهم: إذا كان يهود اليوم غير يهود العهد القديم "أنثروبولوجيا" فلماذا يرددون في صلواتهم "قال موسى يقول الرب إني نحو نصف الليل أخرج وسط مصر, فيموت كل بكر في أرض مصر, من بكر فرعون الجالس على كرسيه, إلى بكر الجارية التي خلف الرحى وكل بكر بهيمة ويكون صراخ عظيم في كل أرض مصر لم يكن مثله ولن يكون مثله أيضا" كما أن هذا الإله المنحاز يخاطب شعبه المختار قائلا "ويكون لكم الدم علامة على البيوت التي أنتم فيها. فأرى الدم وأعبر عنكم. فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين أضرب أرض مصر ويكون هذا اليوم تذكارا فتعيدونه عيدا للرب في أجيالكم تعيدونه فريضة أبدية". "الخروج 11: 4ـ7, 12: 13 ـ 14".

وإذا كان صهاينة اليوم غير يهود الأمس, فإلى من ينسب الباحث العهد القديم الذي يتمسك به الأصوليون في إسرائيل اليوم, ويرددون في صلواتهم بكل خشوع المؤمن "فخلص الرب في ذلك اليوم, إسرائيل من يد المصريين. ونظر إسرائيل للمصريين أمواتا على شاطيء البحر" "خروج 14: 30 ـ 31".

وإذا كان الباحث الذي يكتب باطمئنان العلماء عن غياب الصلة بين صهاينة اليوم ويهود الأمس, ويتصور بذلك أنه يدافع عن الفلسطينيين, فإنني أحيله إلى كتاب عن "أبوحصيرة" الولي اليهودي القابع ضريحه في دمنهور المصرية, حيث ذكرت مؤلفة الكتاب أن ثمة صلاة تقام أثناء الاحتفال السنوي, وأن هذه الصلاة تقام عند الحائط الغربي للضريح, إشارة إلى المعبد اليهودي في أورشليم وحائط المبكى. وتبدأ الصلاة بالافتتاحية التالية "لكل إسرائيل نصيب في العالم الآتي كما قيل: وقومك كلهم صالحون وسيرثون الأرض إلى الأبد" كما ذكرت المؤلفة أنه أثناء الصلاة تتم تلاوة فقرات من سفري التثنية والعدد, وهما سفران "مثل باقي أسفار العهد القديم" يبخان سما على الشعب الفلسطيني وعلى غيره من الشعوب. وذكرت مؤلفة الكتاب أيضا "أنه أثناء الاحتفال يتم تلاوة بعض القصائد المنسوبة إلى "أبوحصيرة" ومنها "وعلمت أن الله هناك/ أحكم فرعون وجنوده الحصار فخرجت جنود الله كل رجل بسلاح, وتحول البحر لهم يابسة, وعبرته طائفة مقدسة وتغنى كل رجل وامرأة أغنية حتى من في بطن أمه غنى" فهل هناك شك أن المسألة ليست "أنثروبولوجيا" كما كتب من يرون أنفسهم أنهم من العلماء? والسؤال بصيغة أخرى: هل المسألة مسألة "أنثروبولوجيا" أم مسألة معتقد ديني مستمد من العهد القديم, ذلك الكتاب المعادي للشعوب المتحضرة, والمنحاز لشعب واحد ضد باقي الشعوب, ذلك الكتاب الذي يُعلي من شأن إله دموي لصالح شعب أكثر منه دموية. وقد عقبت المؤلفة على كلام "أبوحصيرة" قائلة "وهذا الشعر يظهر به أثر نشيد الإنشاد في مخاطبة إسرائيل باعتبارها الحبيبة, وهو يروى عن خلاص إسرائيل من مصر الذي وافق عيد الفصح والأمل في خلاص إسرائيل القريب" ,والمؤلفة, رغم مراجعها العبرية, لم تذكر آية واحدة من آيات العهد القديم الذي يطفح بالحقد على مصر والمصريين لدرجة تحويل أرض مصر ونيلها إلى دم وبعوض وذبان.. إلخ, وإلى درجة التحريض على سرقة المصريين, والتحريض على قتل كل بكر في أرض مصر من بكر الناس إلى بكر البهائم.

فإذا كان الأمر كذلك فكيف نفصل بين صهاينة اليوم ويهود الأمس, خاصة إن إسرائيل ليس بها خريطة تحدد حدودها منذ إنشائها عام 1948 حتى اليوم, بل أكثر من ذلك فإن الأصوليين اليهود مازالوا يفرضون على الأجيال الجديدة أن تردد في طابور المدرسة الصباحي وفي صلواتهم في المعابد الآية الشهيرة التي تنص على "في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام "إبراهيم فيما بعد" قائلا لنسلك أعطي هذه الأرض, من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات" (تكوين 15:18) ولو أن أي أصولي استخدم عقله لعرف أن هذا الإله العبراني صناعة يهودية, لأن التخريف والهراء دليل على الكذب السافر, لأنه من المعلوم أن نهر النيل أكبر من نهر الفرات (نهر النيل من أطول أنهار العالم ـ حوالي 6640 كم في حين أن نهر الفرات 2330 كم منها 1200 كم في العراق, 675 كم في سوريا, 455 كم في تركيا), فلو أن هذا الإله العبراني رأى نهر النيل, أو لو أنه كان يعرف أبسط المعلومات الجغرافية التي يعرفها تلميذ في المرحلة الإعدادية, لما وقع في هذا الخطأ الذي يدل على الكذب,وهو يلجأ إلى الكذب حتى يهب أراضي الغير لشعبه المختار.

وإلى الذين يروجون لمقولة أن يهود القرن العشرين ب.م غير يهود القرن العشرين ق.م على أساس الصفات التشريحية الجسمانية ليهود اليوم, أي على أساس العامل الأنثروبولجي, وهو جهد عبثي, لا طائل من ورائه في الرد على الأصوليين اليهود المتمسكين بأرض الميعاد, لأن الجهد الضائع في مسألة الصفات التشريحية كان يجب أن يتجه إلى التعصب المستمد من المعتقد العقيدي ومرجعيته الدينية, إلى هؤلاء فإنني أنقل إليهم الخبر الذي نشرته صحيفة الأهرام عن مراسلها في باريس "أ. أحمد يوسف" الذي نقل ما ذكرته مجلة "لونوفيل أوبزرفاتور" أن هناك انشقاقا "حادا" بين اليهود في فرنسا, حول القضايا الرئيسية التي تمس وجودهم ومنها تعريف اليهودي نفسه.. من هو? وقالت المجلة إن حاخامات فرنسا وكهنتها وعلى رأسهم جان كاهان رئيس المجمع المركزي اليهودي يطالبون اليهود بأن يكون ولاؤهم الأول لدينهم وبالتالي لإسرائيل قبل أن يكون لوطنهم الذي يعيشون فيه.

في ضوء ما تقدم فإني أعتقد أن خلاص الشعب الفلسطيني والدول المجاورة لإسرائيل, من الفكر الصهيوني المؤمن بالتوسع والاستيطان, لن يكون إلا بدعم وتأييد التيارات العلمانية في بلدانها. ولن يكون إلا بالتفوق على إسرائيل في مجالات البحث العلمي والتعليم والتصدير والمستوى المعيشي, وصناعة السلاح ذاتيا ورفع الوصاية من على الشعب الفلسطيني, وذلك بدعمه ليخوض حرب التحرير الشعبية, من خلال حرب العصابات بالأسلوب العلمي وبقيادة وطنية, مستفيدين ومتعلمين من تجربة الشعب الفيتنامي. وفي كلمة واحدة : فإن دعم التيارات العلمانية في إسرائيل وفي الدول المحيطة بها, هو السبيل الوحيد لهدم المشروع الصهيوني المؤمن بالتوسع والاستيطان على أسس من مرجعية دينية. وهو المشروع الذي يتبناه الأصوليون اليهود داخل إسرائيل وخارجها.

فهل تقبل الدول التي لها مصلحة في التخلص من المشروع الصهيوني التحدي, من أجل مستقبل أفضل لسكان المنطقة? أم تظل على سياستها الحالية المتمثلة في العداء لقيم العلمانية والمتمثلة ـ كذلك ـ في العداء لمعنى الانتماء الوطني لصالح الانتماء الديني, الأمر الذي يؤدي إلى تدعيم الأصولية في بلدانها وفي إسرائيل? ومع ملاحظة أن التصدي للأصولية اليهودية لابد أن يتزامن ويرتبط بالتصدي للأصولية في البلاد المحيطة بإسرائيل التي تساند وتدعم هذه الأصوليات.

وتكمن الخطورة في أن الأصوليين في إسرائيل وفي البلاد المجاورة لها يتشابهون في الكثير من المعتقدات والمنطلقات, لعل أخطرها أن يكون الولاء للدين وليس للوطن.

 

طلعت رضوان

 
 




يعتقد اليهود المتعصبون بأحقيتهم في طرد السكان لإقامة المستوطنات





صراع بين اشياع "يهوه" والعلمانيين داخل الدولة العبرية





للعنف الذي يمارسه المتعصبون اليهود مرجعية دينية