ما معنى كاتب؟

ما معنى كاتب؟

هل يبدو هذا السؤال بديهياً... أم أنه لا يني يثير تلك العلاقة الحسّاسة بين الكاتب وعلائقه المادية, وبين تحديده لمفهومي الحرية والإبداع?

يبدو هذا السؤال, لأول وهلة, وكأنه غير ذي موضوع لأن المتلقين والنقّاد يتوفّرون على حاسة التمييز بين مَن هو كاتب وبين مَن قد لا تنطبق عليه هذه الصفة في نظرهم, لكن هذا التساؤل الذي يبدو وكأنه يفتح أبواباً مفتوحة سرعان ما يفضي بنا - عند التحليل المتأني - إلى متاهات تنزع سمات الوضوح والبداهة عن "الكاتب" ووضعه الاعتباري ووظيفته وعلائقه بما يكتب.

والملاحظ, خلال العقود الأخيرة وإلى اليوم, أن إعادة طرح هذا السؤال غالباً ما تقترن باتساع نطاق التكنولوجيا وابتكاراتها لحوامل ثقافية تنافس الكتابة والكتاب, وتسجل الغلبة لوسائل التعبير الإلكترونية والرقمية, وتبوّئ الصورة الصادرة في مجال التواصل والتعبيرات المختلفة.

هذه التحوّلات هي التي تطرح مسألة الوضع الاعتباري للكاتب: هل يكتسب صفته من اعتراف خارج ذاته? هل معيار هذه الصفة هو نجاحه في السوق باعتباره يملك "بضاعة" وحقوقاً? أم أن صفة كاتب تعود إلى معايير داخلية تتمثل في أنه يتوافر على أسلوب وتقنية في الصنع وقدرة على الاحتراف, وطريقة في العيش ومواجهة العالم?

ما يزيد من طُفوّ معنى كاتب والتباسه, أن الأدب والكتابة غير مدرجين ضمن "حقوق الإنسان" ومن ثم فإنهما لا يعتبران حاجة ولاحقاً لازمين للإنسان. بتعبير آخر, فإن الكتابة تندرج ضمن مجال اللاماديات, أي ما له علاقة بالمخيلة والاحتمال, وما هو متصل بممارسة الحرية.

هناك - إذن - التباس يحف بمعنى كاتب ويلامس أسئلة متشابكة تمس مفهوم الأدب والكتابة بإطلاق لأنها لا تقتصر على الشعر والتخيل, فضلاً عن ذلك, فإن هذا المعنى عرف تحوّلات جوهرية عبر الانتقال من عصور قديمة إلى العصر الحديث, وارتباط ذلك الانتقال بمسيرة الكاتب ومساره من التبعية (للقبلية والكنيسة والسلطة بتجليّاتها المختلفة) إلى الاستقلال الذاتي عبر انتظام العلاقة بالقرّاء من خلال دور النشر وسوق الكتاب.

الوجود الاجتماعي للكاتب

ولعل في طليعة العوامل المبررة للالتباس المتصل بمعنى كاتب, أن هذا الأخير يعرب عن وجوده داخل المجتمع والحياة من خلال وضعيتين متلازمتين ومتفاعلتين: الأولى تتصل بالشروط الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والتي تحدد شخصيته وهويته ووجوده "الملموس", والثانية تتصل بعلاقة الكاتب بالنصوص التي يكتبها والتي يمارس من خلالها نشاطه وينتج عمله الأدبي أو الفكري أو التاريخي, وهذه الوضعية الثانية هي التي تقدم الخصائص التي يتفرّد بها.

هناك - إذن - باستمرار تجاذب وتداخل بين الشخصية المهنية, الملموسة للكاتب, وبين الصفة الإنتاجية, الإبداعية المتحكّمة في علائق الكاتب بنصوصه.

لكن هذا الالتباس زاد حدة مع ظهور آراء نقدية وفلسفية, خلال الستينيات, تقول بـ"موت الكاتب" على ضوء تحوّل مفهوم الكتابة والأدب انطلاقاً من دعوة الشاعر "مالارميه" إلى تحقيق "الكتاب المطلق" واختفاء المؤلف... لأجل ذلك, نلاحظ اليوم ونحن نسترجع عناصر إشكالية الكاتب وتحديد وضعه الاعتباري, أن التحليلات اتخذت منحيين مختلفين: أحدهما اهتم بالوضعية المهنية والوجود الملموس عبر أبحاث سوسيولوجيا الأدب التي تبلورت منذ نهاية الخمسينيات, والآخر صبّ جهوده على نظرية الأدب وتحديد مفاهيم الكتابة والكاتب والحوافز الكامنة وراء الإبداع والجمهور المتلقي للأدب, وهذا المنحى الثاني هو ما سنحاول التوقف عنده من خلال محاضرة شهيرة ألقاها "ميشيل فوكو" العام 1969 أمام أعضاء الجمعية الفرنسية الفلسفية, وبحضور شخصيات لامعة من أمثال "لوسيان جولدمان", و "جاك لاكان", ذلك لأن ما طرحه "فوكو" يذهب بعيداً في زحزخة صورة الكاتب المألوفة ويعيد تحديد وظائفه باعتبارها وظائف متغيرة ومعقدة للخطاب الثقافي ككل, بدلاً من أن تكون وظيفة تنجزها ذات الكاتب وفق اختيارها.

لكن قبل عرض طروحات "فوكو" وتصوّراته لإشكالية الكاتب, نشير بإيجاز, إلى النقلة الكبيرة التي تميّز الوضع الاعتباري للكاتب في العصور الحديثة عمّا كانت عليه قديماً, وبخاصة قبل القرن السابع عشر.

لقد أوضحت دراسات سوسيولوجيا الأدب, التي يعتبر "روبير اسكاربي" أحد روّادها, إنه لم يتم الاعتراف بمهنة "رجل الأدب" إلا بكيفية متقطعة.

ومن خلال قرارات عدة اتخذتها السلطات الفرنسية خلال السنوات المتوالية الآتية: 1793 ثم 1838, ثم 1957. وتلك القرارات ساعدت على إدماج الملكية الأدبية ضمن النسق الاقتصادي العام, وأتاحت علاقة مباشرة بين الكاتب والقارئ, ودعمت استقلاليته النسبية عن مؤسسات السلطة.

لقد أجمعت دراسات كثيرة متصلة بالحقل الأدبي الفرنسي, على أن القرن السابع عشر, عصر الكلاسيكية, هو منطلق سيرورة الاستقلال الذاتي للأدبي, وذلك عندما قررت السلطة, ممثلة في الوزير "ريشليو", المبادرة إلى إنشاء الأكاديمية الفرنسية لمنح رجال الأدب مؤسسة تدعم استقلاليتهم من جهة, وتفيد الدولة بالدفاع عن قيم كلاسيكية معينة تتلاءم وتطلعات لويس الرابع عشر إلى فرض اللغة والثقافة الفرنسيتين على أوربا, لكن المذهب الكلاسيكي ومؤسسة الأكاديمية لم ينجحا في أن يلجما "الكاتب" سواء كان شاعراً أو مسرحياً أو مؤرخاً.

ولقد أوضح "كرستيان جوهر" في كتابه "سلطات الأدب" - باريس 2000 - بأن تجربة القرن السابع عشر بفرنسا لم تقتصر على تسييس الأدب, بل خلقت جدلية أتاحت للكتاب والشعراء (باسكال وراسين وموليير على سبيل المثال), أن يمرروا تجاربهم الأدبية ورؤاهم الحياتية التي لم تكن متطابقة مع تعقيدات وبنود الكلاسيكية.

الكاتب وقيوده

ويمكن أن نشير أيضاً إلى الوضع الاعتيادي للكاتب والشاعر في العصور العربية القديمة حيث كان الحقل الثقافي العربي يعيش علائق تبعية تامة للبلاط والسلطان والأمراء والولاة على الأمصار. لكن هذا الوضع السوسيولوجي الذي لم يكن يعترف للكاتب العربي القديم باستقلاليته عن مؤسسات السلطة, لم يحل بينه وبين التعبير عن مشاعر وتجارب تعلو على تلك الشروط أو تتحداها, أحياناً, لتدرك مستوى الأدب الإنساني العميق. وأعتقد أن دراسة د. جمال الدين بن الشيخ عن "الشعرية العربية في القرنين الثالث والرابع الهجري" - صدرت ترجمتها إلى العربية عن دار توبفال منذ سنوات - قد أوضحت, بشكل مدعم ومقنع, أن القيود الكثيرة التي أحاطت بالشاعر العربي "الكلاسيكي", سواء على صعيد البنيات الاجتماعية والسياسية, أو على صعيد شكل القصيدة الموروث, لم تعق ظهور شعراء مبدعين, متميزين بالرغم من تلك القيود (أبي تمام - البحتري - المتنبي - أبي نواس...) والشيء نفسه نجده عند كتّاب يستحقون هذه التسمية من أمثال الجاحظ وأبي حيان التوحيدي.

نستطيع القول, إذن, مع ما في ذلك من تعميم, بأن الوضعية السوسيولوجية للكاتب ليست هي العنصر الحاسم في توجيه وبلورة نصوصه لأن هناك عوامل أخرى ذاتية وبينذاتية, فنية وشكلية ولغوية, تتضافر جميعها على تحريك وتفعيل جدلية النص - الواقع, النص والذات, النص وحقل الخطابات الثقافية الأخرى. وهذا الجانب هو ما سنتعرف على بعض من ملامحه ونحن نعرض لتطوّرات "فوكو" المتصلة بمحاولته الإجابة عن سؤال: ما معنى كاتب?

فوكو: وظيفة الكاتب

يسترعي الانتباه في التحليلات المتصلة بنظرية الأدب وأسئلته الحداثية, أن مسألة الكاتب كاسم يتملك نصوصاً, ويحتل موقعاً داخل حقل الخطابات الثقافية لم تحظ باهتمام كبير. وغالباً ما كانت الأسئلة تنصب على: ما الكتابة? لماذا نكتب? لمن نكتب? مثلما نجد في كتاب سارتر الشهير "ما الأدب?" - 1947 - لأجل ذلك فإن محاضرة "فوكو": ما معنى كاتب? (مؤلف), تكتسي أهمية خاصة لأنه ربط الإجابة بإشكالية أوسع كانت تشغله وهي المتعلقة بـ"نظام الخطاب" وصيغ وجوده وتداوله وتقييمه وتفصل كل خطاب مع خطابات أخرى. ولا بأس من أن نشير إلى أن مشروع "فوكو" الفلسفي كان ينحو إلى اعتبار أن الذات الفاعلة لم تعد هي صاحبة المبادرة, بل هناك بنيات ومحافل سلطة ومؤسسات تتحكم في توجيه الوظائف والعلائق.

وفي هذه المحاضرة, ينطلق "فوكو" من جملة وردت على لسان إحدى شخصيات بيكيت: "ما هَمّ مَن يتكلم? ليناقش الرأي الشائع خلال الستينيات بأن الكاتب قد مات, ولا يهم في شيء معرفة شخص الكاتب وحياته, وإنما المهم هو النص وما يقوله.

لتوضيح مقاصد "فوكو" من هذه المحاضرة, نبادر إلى القول بأنه لا يوافق القائلين بموت الكاتب أو بوجوب محوه لفائدة ظهور أشكال خطابات خاصة. أمام هذه الدعوى, طرح فوكو سؤالاً محدداً وهو: ما الذي تسمح هذه الدعوى بأن نكتشفه? إنها تتيح لنا - عبر التحليل - اكتشاف لعبة "وظيفة - كاتب". بتعبير ثان, يقترح فوكو تعويض شخص الكاتب بوظيفة - كاتب التي يمكن رصدها من خلال تجليات وممارسات ومن خلال جريان النصوص وطرائق تداولها وتقييمها, وبذلك نخرج من التجريد إلى ربط الكاتب بمجموعة من الخصائص تحدد "وظيفة - كاتب". من هذا المنظور, إذن, يتساءل "فوكو", وانطلاقاً من الثقافة الغربية, عن الصفات التي يحملها خطاب يضطلع بوظيفة - كاتب ويجعله متعارضاً مع الخطابات الأخرى.

يجمل فوكو خصائص "وظيفة - كاتب" في أربع:

1 - اسم الكاتب: إننا لانستطيع أن نجعل من اسم العلم للكاتب مرجعاً محضاً لأدبيته, لأن الاسم يضطلع بوظائف مختلفة تؤشر على صفات متباينة في الحياة العملية, وعندما يكون الاسم اسماً لكاتب, فإنه يتعدى تعيين الشخص وتمييزه إلى وصفه بصفات معينة. فعندما أقول اسم أرسطو, فإنه يكون بمنزلة جملة من الأوصاف: صاحب كتاب "الشعر" مؤسس فلسفة الوجود... ومن ثم فإن الاسم الخاص واسم الكاتب يوجد ما بين هذين القطبين: التعيين, والوصف.

لذلك فإن اسم الكاتب ليس مجرد عنصر داخل خطاب, بل هو يؤدي دوراً بالنسبة للخطابات, إذ تكون له وظيفة تصنيفية, فيتيح لنا أن نجمع عدداً من النصوص ضمن مجموعة متجانسة أو ضمن اتجاه في الكتابة, إلى جانب أن وجود الاسم يشير إلى أن الخطاب المنسوب له يخرج عن الكلام المعتاد, اليومي وينبّهنا إلى أن تلقينا لذلك النص يستدعي مراعاة صيغة معينة تحددها الثقافة التي ينتمي إليها الكاتب. ومن ثم فإن نصّاً نقرؤه على الجدار مغفلاً من اسم صاحبه أو رسالة خاصة لا يمكن نسبتهما إلى كاتب. وهذا هو ما يجعل اسم كاتب عنصراً مميزاً للخطابات التي لها صفة "وظيفة - كاتب".

2 - تملّك النص: قبل ظهور قوانين تثبت الملكية الأدبية والثقافية والفنية, كان الخطاب, في كثير من الثقافات القديمة, بمنزلة فعل يتموضع ضمن الحقل الثنائي للمقدس والدنيوي, للديني والتجديفي, وكان إشارة محمّلة بالمخاطر قبل أن يندرج ضمن دائرة الملكيات. ومنذ أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر, وجد نظام لملكية النصوص وقوانين تحدد حقوق المؤلف وعلائقه بالناشر, فأخذنا نلاحظ أن إمكان انتهاك القيم القائمة من خلال الكتابة قد اكتست طابعاً ملحّاً خاصّاً بالكتابة الأدبية. ويلاحظ "فوكو" أن الكاتب, وقد أصبح متوافراً على نظام الملكية, كأنما أراد العودة إلى الحقل الثنائي القديم للخطاب من خلال ممارسته المنهجية للانتهاك والمحافظة على خطر الكتابة التي أصبحت تتمتع بأرباح الملكية الأدبية.

3 - إسناد النصوص إلى كتابها: يذكّرنا فوكو بأن وظيفة - كاتب لا تمارس بكيفية كونية وثابتة على جميع الخطابات, ففي الحضارة الغربية لا نجد أن النصوص نفسها طلبت إسنادها إلى أصحابها. ذلك أنه خلال فترة سابقة, كانت النصوص التي أصبحنا نسمّيها "أدبية" - الملاحم - القصص - التراجيديات - المحكيات. تُتلقى وتتداول دون أن تطرح مسألة كتابها ومؤلفيها, أي أن غُفلية تلك النصوص ضمانة كافية. بينما النصوص التي قد نسمّيها علمية لم تكن تحظى بالمصداقية, في العصور الوسطى, إلا إذا اقترنت باسم كاتبها. لكننا بدأنا, منذ القرن الـ18, نتلقى خطابات علمية غفلا, غير أنها تستمد ضمانها من انتمائها إلى مجموعة أنساق معترف بها, دون حاجة إلى أسماء من أنتجوها. في المقابل, نجد أن الخطابات "الأدبية" لا يمكن بعد تلقيها إلا مصحوبة بوظيفة كاتب: من أين أتى النص? مَن كتبه? في أي تاريخ? بعبارة أخرى, فإن الغفلية التي كانت مقبولة, قديما, بالنسبة للنص الأدبي, لم تعد كذلك في العصر الحديث لأن وظيفة - كاتب تلعب دوراً كبيراً اليوم في تلقي وتقييم الأعمال الأدبية.

القوة المبدعة

ويمضي فوكو في التحليل ليبرز أن وظيفة - كاتب هي نتيجة عملية معقدة تئول إلى تشييد كيان نحاول أن نعطيه وضعاً اعتبارياً واقعياً, فنقول بأنه توجد داخل الفرد قوة "مبدعة" و "مشروع" يكونان الموضع الأصلي للكتابة, لكن ما نعتبره مكوّناً للكاتب ما هو, في الواقع, سوى إسقاطات سيكولوجية نلقي بها على النصوص. وهي عمليات تختلف بين عصر وآخر, إذ لا يمكن أن نحدد وظيفة - كاتب في الشعر مثلما نفعل بالنسبة لكاتب فلسفي, ولا أن "نشيّد" كاتباً روائياً في القرن الثامن عشر مثلما نفعل ذلك بالنسبة لنظيره في القرن الحالي, وهذا ما يبيح القول بأن النص يحمل دوماً عدداً معيناً من العلامات التي تحيلنا على الكاتب. غير أن هذه العلامات لا تشتغل بالطريقة نفسها في الخطابات التي تتوافر على "وظيفة - كاتب" والخطابات التي لا تتوافر على هذه الصفة. ولتوضيح ذلك, يضرب فوكو مثل الرواية التي يشتمل خطابها على مجموعة من الضمائر والعلامات التي لا تحيل أبداً على الكاتب, وإنما على الأنا الآخر الذي تفصله مسافة ما, عن الكاتب. أكثر من ذلك, يفضي بنا التحليل إلى حتمية تعدد الأنا في الخطاب الروائي حيث نلتقي بثلاث أنوات على الأقل. إنه خطاب لا يحيل على شخص حقيقي, بل يمكنه أن يخلق وأن يوجد أنوات عدة تشخّص أوضاعاً لذوات كثيرة يمكن أن تحتلها وتتقمّصها عيّنات مختلفة من الأفراد.

4 - عبر الخطابية ومؤسسو الخطابية: يلاحظ فوكو, في تحليله لنظام الخطاب بصفة عامة, أننا نعثر على كتّاب كتبوا ما هو أكثر من كتاب (نظرية, تدشين - فرع معرفي يتيح لكتّاب آخرين أن يأخذوا داخله موقعهم ككتّاب...)? وهذا النمط من الكتاب يوجدون في وضع عبر خطابي (position transcursive) ونجد نماذج لهؤلاء في الثقافة القديمة "هوميروس, أرسطو..." فتحوا الطريق ليستوحيهم آخرون فينتجون خطابات داخل الدائرة نفسها, لكننا نجد, منذ القرن التاسع عشر, صنفاً آخر من هؤلاء الكتّاب, يمكن أن نسمّيهم بـ "مؤسسة الخطابية" وهم الذين لم يكتفوا بكتابة أعمالهم, وإنما هم يمتلكون شيئاً آخر يتمثل في كتاباتهم قدمت إمكانات ومنطلقات لإنشاء نصوص تشتمل على تشابهات معها, وجعلت أيضاً - وبالقدر نفسه - بالإمكان ظهور اختلافات ومعارضات. إنهم قد فتحوا الطريق لشيء آخر مغاير لما كتبوه إلا أنه ينتمي إلى ما أسسوه.

على ضوء هذاالعرض الموجز لآراء "ميشيل فوكو" المتصلة بمعنى كاتب, يتبين أن منظور تحليلاته يلامس إشكالية أوسع من "شخص" الكاتب ومن شروطه الاجتماعية والمهنية. إن فوكو يسعى إلى مجاوزة تحليل النصوص والكتابات فيما تشتمل عليه من قيم تعبيرية وتحوّلات شكلية, ليقترب أكثر من صيغ وجود الخطاب بصفة عامة. ومن ثم ركّز تحليله على وظيفة - كاتب انطلاقاً من الاسم, ثم تملك النص وطرائق إسناده إلى كاتبه ووصولاً إلى الخطاب المؤسس لخطابات أخرى. وهو بهذا المنحنى في التحليل والطرح, يبرز أن تتبع الطريقة التي يتمفصل بها الخطاب الأدبي والثقافي والعلمي مع علائق اجتماعية أخرى يكون أوضح عندما ندرس "وظيفة كاتب" وتحوّلاتها. أما الاقتصار على دراسة الثيمات والمفاهيم التي يشغلها الخطاب, فإنه لن يقودنا إلى فهم رهانات الخطاب داخل الثقافة والمجتمع, فالكاتب, في نظر فوكو, لا يسبق وجود عمله الأدبي. لأجل ذلك ينتهي "فوكو" إلى القول بضرورة قلب المسألة التقليدية المتمثلة في سؤال: كيف يمكن لحرية ذات فاعلية أن تندرج ضمن كثافة الأشياء لتعطيها معنى, ليصبح السؤال هو: كيف, وحسب أي شروط يمكن لشيء مثل الذات أن يظهر داخل نظام الخطابات, أي مكان يمكنه أن يشغله داخل كل نمط من الخطاب? باختصار, يتعلق الأمر بأن ننزع من الذات (أو مَن يعوّضها) دورها كأساس أصلي, وأن نحللها بوصفـها وظيـفة للخطاب, متغيرة ومعقدة.

وهكذا يتضح أن سؤال: ما معنى كاتب? هو أكثر تعقيداً من الإجابات التي تطالعنا في استجوابات ونصوص معظم الأدباء, والتي كثيراً ما تقتصر على إبراز الرغائب والتصوّرات الطوبوية التي يكوّنها الكاتب عن نفسه وكأنه ذات مطلقة الحرية. لذلك فإن ربط سؤال معنى كاتب بأسئلة الأدب والخطاب الثقافي وشروط تداوله, ووظائفه التي تحددها بنيات ومؤسسات وصراعات, هو ما قد يسعف الكاتب على تحديد استراتيجية تدخّله وسط حقل معقّد تتجاذبه باستمرار قوى المحافظة المجمّدة, وقوى الاستكشاف والابتداع المتوسلة بالخطاب المؤسس, وبالتخييل المحرر للذاكرة والجسد.

 

محمد برادة