أصداء العولمة في سفينة نوح

أصداء العولمة في سفينة نوح

حملت إلينـا الأنباء الثلاثاء الموافق الثاني عشر من سبـتمبر 2000, أنه على غرار ما حدث أثناء انعـقـاد المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية في مدينة سيـاتل الأمريكية في أواخر العام الماضي, تسبب الآلاف من المتظاهرين الرافضين للعولمة, في تأخير بدء اجتماعات المنتدى الاقتصادي العالمي الذي استضافته مدينة ملبورن الاسترالية. إن هذه الصور الاحتجاجية التي نراها تظهر في الغرب بصفة خاصة ـ المستفيد الأول من العولمة, لهي صيحة ضمير, أو قل صيحة تحذير, تصدر من هذا العالم ـ الذي نبتت في تربته بذرة العولمة توقظ الجمهرة الكبرى من الناس ـ وخاصة في عالمنا العربي ـ إلى أن الأمر ليس قدرا مكتوبا لابد أن ننصاع له ونرضخ, وأن الأمر ليس خيرا للجميع في كل الأحوال, ويحتاج إلى مراجعة وفحص ونقد.

منذ سنوات قليلة ونحن نشهد أنهارا من المداد أصبحت تجري على صفحات الجرائد والمجلات والكتب, حديثا عن العولمة, مفهـوما وتحليلا وتتبعا للعوامل المنشئـة, والآثار الناتجة, والواجبات المنتـظرة, مما يعفيـنا إلى حد كبيـر من التوقف عند كثير من هذه النقاط كي ندلف بسرعة إلى جوهر موضوعنا. وهو موقف التعليم من هذا التوجه المعاصر, أو "قل سفينة نوح" التي نرى وجوب اعتصام التعليم بها إزاء طـوفان العولمة.

وبداية فإن أحد معاني العولمة أننا بصدد عالم على وشك أن يصبح سوقا واحدة تنزاح فيه الحدود بين الأسواق المحلية, ليصبح محك مرور السلعة هو مدى توافر المواصفات القياسية فيها. والسلع المشار إليها هنا ليست فقط السلع المادية من غذائية وهندسية مثلا, وإنما يمتد مفهوم السلعة ليشمل الإنسان, وبمعنى أصح عمل الإنسان, تفكيره ومهاراته, فإذا كان جواز المرور لسلعة دوائية هو مدى توافر الشروط المتفق عليها, بحيث لا يجوز لسلطة محلية أن تمنع دخولها البلاد بحجة أن هناك إنتاجا محليا بحاجة إلى الحماية, فكذلك الأمر في القوى العاملة, فإذا كان هناك, مثلا, طبيب إنجليزي يتوافر في إعداده ما هو مطلوب فله أن يحصل على ترخيص بالعمل في أي بلد يريد.

وأمر مثل هذا يستتبع بالضرورة أن نأخذ هذا المبدأ الذي بدأنا نسمع عنه منذ سنوات في مجال التجارة والصناعة, في مجال التعليم كذلك, ألا وهو مبدأ "الجودة الشاملة", وإن كان من الحق أن نقول إن عالم التعليم قد عرف منذ عدة سنوات مبدأ مشابها ألا وهو: "التعليم للإتقان", وحرص كثيرون على أن يقوم التعليم على تحليل للكفايات اللازمة للمهارات المطلوبة لأي عمل, والكفايات هنا مقصود بها مجموعة "الاداءات" الكفيـلة بأن يتم العمل على أحسن ما يمكن الوصول إليه. فإذا كان العمل المطلوب هو عمل من الأعمال المتصلة بالكمبيوتر ـ على سبيـل المثال ـ فإن هذا العمل يحلل إلى مجمـوعة من الكفـايات التي لابد من التعليم وفقا لها, ولابد للطالب من تعلـمها إلى درجة الإتقان.

لكن مثل هذا الأمر إذا كان تعليمنا قد عرفه, فقد عرفه على مستوى "البحث والدراسة", حيث أجريت دراسات كثيرة في مجاله, من مستوى درجتي الماجستير والدكتوراه, فضلا عن بحوث ودراسات قام بها أساتذة في العلوم التربوية والنفسية وخبراء في التعليم, وعلى مستويات فردية, بينما المفروض أن يتحول إلى "اتجاه" و"سمة" تعم جميع أشكال التعليم ومستوياته من الحضانة إلى الجامعة "وهو الأمر الذي لم يحدث", وإلا فكيف يمكن أن يتنافس خريجو معاهدنا التعليمية مع خريجي المعاهد الأخرى في الدول المتقدمة? إننا كثيرا ما نستسلم ونقول إننا لن نستطيع منافسة الولايات المتحدة واليابان وألمانيا مثلا في صناعة السيارات, أو الصناعات الثقيلة, أو إننا لن نستطيع منافسة الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا وروسيا في صناعة السلاح, لظروف متعددة لا محل هنا للإشارة إليها, لكننا نستطيع ـ إذا أردنا ـ أن ننافس في مجال التعليم وإعداد القوى البشرية, إن لم يكن في مختلف القطاعات, ففي بعضها على الأقل, وفي أسوأ الفروض أن نضيق الفجوة شيئا فشيئا.

ومع الأسف الشديد فإن جهودنا في هذا الكلام يغلب عليها الاتجاه "الدعائي" أو "الإعلاني" إذا صح هذا التعبير, ففي كثير من التصريحات والكتابات التي تصدر من جهات رسمية يصور ما يحدث على أرض التعليم في كل دولة من عالمنا العربي وكأننا قد تقدمنا العالم كله. وفي نفس الوقت تتصاعد الشكوى ـ من قطاعات متعددة ـ من سوء مستوى التعليم, وأن مستوى الخريجين لا يتجه إلى التحسن إلا في قطاعات محدودة للغاية.

أقول هذا وأنا أؤكد للقاريء أننا نمارس التدريس منذ أول الستينيات ويلفت نظرنا بالفعل تلك المقارنة المؤلمة التي يمكن أن نعقدها بين خريجي كل عقد من الزمان, حيث تكون النتيجة غالبا في صالح الأقدم, لا نقول هذا بحكم الحنين التقليدي من كل إنسان إلى الزمن الماضي, وإنما من واقع شواهد وبراهين وقياسات, وإن كان هذا لا يجعلنا ننكر وجود عكسه أحيانا في بعض المواقع التعليمية.

إن الأعداد تتكاثر, ومجموع الدرجات يرتفع, وهذا صحيح, لكن, من قال إن هذا مؤشر على التعليم الجيد? ويبدو أنه من الضروري أن نذكر القراء بأن تعليمنا في معظمه يدور حول امتحانات لا تقيس إلا مدى تذكر الطالب لمجموعة من المعلومات التي شبهها "هوايتهد" يومها بأنها معلومات "ميتة" وقصد بذلك أنها ليست من ذلك النوع الذي يتفاعل مع مفردات الحياة الاجتماعية والطبيعية فيدفع بها إلى التغير والتطور, فكأننا ونحن نعلم مثلنا مثل البائع أو المنتج الذي يضع فاكهة أو خضارا أو أي سلعة من السلع داخل الصندوق, ثم يأتي وقت لنفرغ ما في الصندوق, فهل يتصور أحد إمكان حدوث تأثر السلعة بالصندوق, أو تأثر الصندوق بها? كلا.. هكذا ما نعلمه للتلاميذ, إنه عملية "تخزين" لا يستتبعها تفاعل بين المتعلم والمعلم, ولا بين المتعلم وما يتعلمه, ومتغيرات السياق الحياتي الذي يجرى من حوله.

وعلى هذا فهناك من يريد أن يتخذ موقفا من العولمة في هذا السبيل بالمخاصمة والرفض, وهذا سبيل العاجزين, وإبقاء الحال على ما هو عليه, كما أن هناك من يرفع الراية البيضاء ويتصور أنه "لا فائدة", وبالتالي يدعو إلى فتح الأبواب على مصراعيها للقوى العاملة الأجنبية "الغربية" ما دامت تتوافر لديها شروط الجودة. وهذا أيضا منطق المتخاذلين القانطين, لكن المنطق الإيجابي حقا هو أن نستنفر الطاقات كلها كافة, ونجيش الجهود كي تصل قوانا العاملة المتعلمة إلى أقصى ما يمكن تصوره من إتقان وجودة, خاصة ـ كما أكدنا ـ أن هذا هدف لا يقع في مجال المستحيلات, فـ "لله عباد إذا أرادوا أراد"!

أي مستقبل?!

ومن الأمور الأخرى التي لابد من أن يواجهها التعليم في بلادنا, هذا المبدأ الذي اصطلح على تسميته "بالشفافية", أو قل "المكاشفة" و"الصراحة" و"الصدق". فما من تعليم في أي مجتمع, في أي فترة من الزمان إلا ويعاني من مشكلات, وأزمات, وهذا لا يشين مجتمعا ما, وإنما الذي يشين المجتمع أن يسود الخطاب التربوي فيه حديث عن غير ما يحدث, وتغطية وتعتيم على ما يحدث. ولعل المثال الشهير الذي يمكن أن نذكر القاريء به, هذا الذي أعلنته الولايات المتحدة الأمريكية في أوائل الثمانينيات عن حالة التعليم فيها. وكيف أنه "مأزوم" بحيث جعل الولايات المتحدة, أقوى دولة في العالم "أمة في خطر! هل عاب أمريكا هذا? هل تضاءلت مكانتها في أعين العالم, العكس هو الذي حدث.

هذا في الوقت الذي رفعنا نحن فيه شعارا يقول: "أمة لها مستقبل.. إلخ". حيث كانت عبارة لها رنينها اللفظي دون أن يكون لها مضمونها المحرك لحركة الواقع, فما من أمة إلا ولها مستقبل, المهم هو: أي صورة من صور المستقبل? بل إن كل حجر, وكل حيوان له مستقبل, لكن: ماذا سيكون عليه شكل هذا المستقبل?! ومن ثم فلا ينبغي أن نخشى أن نفعل شيئا من الشفافية والمكاشفة, خاصة أن شبكة الإنترنت أصبحت شبكة من العيون التي تتسلل إلى كل بقعة من بقاع العالم ملقية عليه الضوء وكاشفة الغطاء عنه, حتى أصبح عالمنا عالما مكشوف الغطاء, وأصبحت القنوات الفضائية قادرة على أن تسمعنا وترينا كل ما كان خافيا علينا, في التو واللحظة.

ولابد من الكف عن تلك النغمة التي أصبحت اسطوانة مشروخة, عندما تتاح الفرصة لرأي من الآراء أن يعبر عن رأيه المناقض للرأي الرسمي السائد فنتهمه بأنه يريد الإساءة إلى الوطن, تأمل في حالة إنسان عزيز عليك: أخ أو أخت أو أم أو أب أو صديق, أصيب بمرض من الأمراض, وتصور أن هناك من يريد التعتيم على هذا المرض, وآخر يريد الكشف عنه, فمن الذي يريد الإضرار بمن تحب وتعتز? الإجابة معروفة.. إنه هذا الذي لا يصارح ويكشف.

ويتصل بهذا مدى توافر "المعلومات" عن كل صغيرة وكبيرة في التعليم. إننا مع الأسف الشديد مازلنا نتعامل مع البيانات والإحصاءات بمفهوم أمني متخلف, كانت له دواعيه في فترة مضت بحلوها ومرها, ومع ذلك فما زالت هناك بعض القوانين والقرارات التي تقيد الباحثين عندما يريدون الحصول على بيانات تخص جانبا من جوانب التعليم, وكما يقولون "يدوخ" الباحث من مكتب إلى مكتب, ليصل في النهاية مقطوع الأنفاس. ودون أن يحصل على "كل" ما كان يأمل فيه, خاصة أن هناك جوانب لا تغطيها الإحصاءات الرسمية, وتقف عند عموميات بحيث تضعف قدرة الأرقام عن أن تكون ميكرسكوبا حقيقيا يكشف عن حقيقة الواقع. وأبسط مثال يساق لذلك أن يحصل باحث على رقم يقول إن رواتب المدرسين قد أصبحت كذا, فهذا الرقم يكون خادعا, إذا لم يرتبط به رقم آخر عن القوة الشرائية في الفترات التي تقارن بينها, فقد يكون المرتب البالغ خمسين جنيها شهريا في فترة أكثر كفاية من مرتب يبلغ مائتي جنيه في فترة أخرى. وكذلك عندما يقال إن ميزانية التعليم قد أصبحت كذا مليار من الجنيهات, فهذا الرقم لا دلالة له إلا إذا ارتبط كذلك بأرقام أخرى تتصل بسعر العملة المحلية, وبالأسعار القياسية لمختلف السلع والتجهيزات الرأسمالية التي يحتاج إليها التعليم, وهكذا الأمر في كثير في كل ما يتصل بالتمويل والتكلفة والإنفاق.

ومبدأ "المشاركة" ليس مجرد مبدأ سياسي يفرض مشاركة كل القوى والمؤسسات في ما يتصل بالقضايا الكبرى التي تخص مستقبل الأمة, ولكنه مبدأ "ديمقراطي" يشكل نهجا للحياة التعليمية, أيا كان مجال التعليم, وأيا كان المستوى, يفرض ألا ينفرد بالقرار أحد, فالأمر شورى بين الجميع, وفق قواعد وأصول يتفق عليها, ففي أمور التعليم الهندسي, مثلا, لا يشارك إلا من هم أهل لذلك, وهم أعضاء المجتمع الهندسي الجامعي, ومن لهم صلة بهذا المجال في مجتمع العمل الهندسي الخارجي.. وهكذا, لكن هناك أمورا عامة مشتركة تقتضي مشاركة كافة أطراف التعليم.

ويمكن أن نسوق مثالين مما تفرضه العولمة من تسيد لمبدأ المشاركة في مجال التعليم, ما يتصل بالإدارة, وما يتصل بالعملية التعليمية.

ففي مجال الإدارة, نحن نعترف بأن هناك مجالس على كافة المستويات, لكن المشكلة أن تكوين هذه المجالس يكون عادة بيد المسئول, بحيث يشيع معيار للتقريب والاستبعاد يقوم على الخواطر أحيانا, والعلاقات والمواقف الشخصية أحيانا أخرى, وعلى تفضيل السائرين على "نهج المسايرة", واعتبارهم "متعاونين", أما السائرون على نهج "المغايرة" فيحوطهم الشك عادة, وينظر إليهم باعتبارهم "مشاغبين", ولا يملك الأعضاء سلطة المحاسبة والمساءلة, مما يجعل كثيرا من هذه المجالس "غطاء" يضفي المشروعية والتبرير على بعض القرارات, وبالتالي فلابد من التفكير في كيفية أن تكون سلطة تشكيل هذه المجالس وإقرار أو رفض ما تصل إليه في غير يد الوزير القائم بسلطة التعليم, حتى يمكن ضمان أن يجيء تشكيلها ضاما آراء مختلفة, وأصحاب مواقف متنوعة, فيثري الفكر التربوي, وتتعدد زوايا الرؤية, ونقترب أكثر من الحق ومن الحقيقة.

أما بالنسبة للعملية التعليمية, فنجد من المستهجن أن يقف المعلم وحده في الفصل أو قاعة المحاضرات باعتباره مصدرا وحيدا للمعرفة, والطلاب مجرد "سميعة".. كأن المعلم! مثلما شبهه المفكر التربوي البرازيلي الشهير "باولو فرير" ـ وهو "مودع" أموال في بنك, وبعد فترة يجيء كي يسترد ما أودعه من مال, حتى لقد أطلق على هذه النوعية من التعليم الذي يقوم على التلقين بالتعليم "البنكي" وإذا كان هذا التعليم البنكي يقوم على "الإبداع", فإن عالمنا المعاصر ـ فضلا عن عالم الغد ـ يستهدف تعليما يقوم على "الإبداع". عالم العولمة الذي يتطلب تنشئة شخصية منفتحة مبدعة مبادئة محاورة, يتطلب معلما يقف عند حدود دوره كمنظم لعملية تعليم وتعلم, ربما يقف هو معلما في موقف, ويستعد لأن يكون متعلما في موقف آخر, إذا حرص على إشراك الطلاب في الحصول على المعلومات وإبداء الرأي, وبالتالي لا يكون هناك ما يمنع أبدا أن يكون هناك من الطلاب "المتعلمين" من يمكن أن يمارس مهمة "تعليم", ولو لبضع دقائق, بمعلومات يكون قد حصلها هو بمجهوده الخاص خارج قاعة الدرس, وخارج نطاق "المقرر".

هل هذا صحيح?

وتقودنا النقطة السابقة توا إلى الهدف الأساسي الذي ينبغي أن تركز عليه عملية التعليم, ألا وهو "التفكير" على وجه العموم, و"الناقد" منه على وجه الخصوص. لقد أصبح الرأي مستقرا الآن في الفكر التربوي ـ بل وقبل أن يتعالى التصايح باتجاه العولمة ـ أن المهم في التعلم ليس هو "ماذا يتعلم التلميذ?", ولكن المهم أكثر هو "كيف يتعلم?" وهو الأمر الذي تعبر عنه الحكمة الصينية الشهيرة القائلة بأنك إذا وجدت جائعا فليس المهم أن تعطيه سمكة وإنما المهم أن تعلمه كيف يصطاد! فتعلم كيفية التفكير, يعني تزويد الطالب بالأداة التي تمكنه من أن يفتش ويبحث ويدقق وينظر ويستنتج ويلاحظ, والأكثر أهمية ألا يكون التفكير أي تفكير, وإنما يكون من ذلك النوع الذي يقوم على الشك.. الشك المنهجي الذي لا يسلم بصحة ما يسمع أو يقرأ إلا إذا توافر لديه الدليل على ذلك, ومن ثم فهو يقف أمام كل شيء ليرفع شعارا على جانب كبير من الأهمية: هل هذا صحيح?! لقد قيل بحق إن "جاليلو" قد قفز بالفكر الإنساني خطوات ضخمة إلى أمام عندما توقف أمام آراء لفيلسوف اليونان الشهير "أرسطو" وسأل نفسه: "هل هذا صحيح"? إذ إنه, لكي يجيب بالنفي أو التأييد, كان لابد أن يجرب, وعندما جرب اكتشف أن رأي أرسطو ـ الذي سارت وراءه الإنسانية عدة قرون ـ كان رأيا خاطئا, وتم تصحيح المسار.. صحيح لقد حكم على جاليليو بأحكام قاسية من السلطة القائمة في زمنه, لكن البشرية كسبت الكثير والكثير.

إن البعض من الطلاب يقف أمام الكلمة المطبوعة في الكتاب المقرر وكأنها قد اكتسبت قداسة تبعد بها عن احتمالات الشك, وكيف لا? ألم يكتبها أساتذة عظام? وراجعها أساتذة كبار? لكن لابد من تذكر أن فوق كل ذي علم عليم, وما أوتيتم من العلم إلا قليلا و"جل من لا يسهو".. وهكذا, فالخطأ محتمل, وكذلك تغير ما تصورناه حقائق وفقا للتطور المعرفي المتزايد. ونفس الشيء بالنسبة لما يقوله المعلم. إن أهمية هذا الأمر أنه يمتد بالطالب الذي تربى على التفكير الناقد كي يتعامل بنفس المنهج مع ما قد يسمعه أو يقرأ عنه من خرافات أو إشاعات أو معلومات مرسلة, خاصة وأننا نردد ليل نهار أننا في عصر المعلوماتية وتدفق المعارف, فمثل هذا السيل الجارف يتطلب عقلا يحمل "فلترا" ينقي به ما يتلقاه ليميز الصحيح من الزائف, ويقوم بترتيب للأولويات.

حتى لا نكون "إمعة"

وإذا كان العالم باتجاه أن يكون عالما واحدا, ذا حضارة واحدة, فلا يعني هذا, الذوبان وفقدان معالم الذاتية الثقافية, وإلا تحولت العولمة إلى صورة الإمبريالية في ثوب جديد, وهو الأمر الذي يشعر به معظم أبناء شعوب العالم النامي, والذي يحمل قدرا من الحقيقة, على الأقل من وجهة نظرنا الخاصة. وما نريد التأكيد عليه أن الانفتاح على الآخر, لا ينبغي أن يكون مدعاة للتفريط في الهوية القومية والذاتية الثقافية, ولعلنا في عجالة نشير هنا إلى ما يحدث بالنسبة لتعليم اللغة في بعض البلدان العربية في السنوات الأخيرة, فهناك زحف واضح نحو تعلم اللغة الإنجليزية, والتعليم بها, ولا بأس أبدا بالنسبة للمسألة الأولى, بل هي حتمية, لكن لماذا يستتبع هذا التفريط بهذه الصورة المؤسفة في تعلم اللغة العربية والتعليم بها, حتى أصبحت كليات كثيرة حريصة على اجتياز طلاب الدراسات العليا امتحان "التويفل" للاطمئنان إلى معرفتهم باللغة الإنجليزية, في الوقت الذي لا يزعج فيه أحدا أنه ما من رسالة للماجستير أو الدكتوراه تخلو كل صفحة فيها من أخطاء شائـنة في اللغة العربية? بل وصل بنا الأمر إلى ما هو أدهى وأمر, أن عددا غير قليل من بحوث أعضاء هيئة التدريس بعدد غير قليل من الجامعات أصبحت "معوجة اللسان", منحرفة القواعد! ألا يمكن أن نتعلم من جارتنا "غير العزيزة" إسرائيل التي أحيت لغة ميتة هي "العبرية" وفرضتها على ملايين جاءوا من أنحاء شتى من دول العالم, حيث كان كل منهم يتكلم لغة مختلفة عن الآخر? إلا إن هذا مظهر من مظاهر قوة هذا العدو اللعين. إذ ليست القوة فقط في الأسلحة والمعدات العسكرية, ولكنها كذلك في قوة الثقة بالذات.

وهل نتحدث أيضا عن التراجع الذي شهده تعليم التاريخ? إن الأمر بهذه الصورة قد يطول بنا, ويكفي هنا أيضا أن نشير إلى أن تعليم التاريخ في إسرائيل قضية حيوية في كل مراحل التعليم وكافة أنواعه, ولم يقل أحد منهم إن العناية بالتاريخ "بلا فائدة", أو أنها عودة إلى الكهف, بل إن الوعي التاريخي لديهم هو من أحد مظاهر القوة, ويتبدى هذا جيدا في أثناء المفاوضات التي تجريها بعض الأطراف العربية معهم. إن الاهتمام بتعليم التاريخ ليس مرادفا للعودة إلى وراء, وإنما هو اهتمام بتوافر الوعي بالذات, فتعليم التاريخ عندما يكون صحيحا يمد المتزودين به بعنصر قوة.. لا ينسحبون للتقوقع في كهف التاريخ وإنما يسحبون منه ما يمكن أن يعزز ثقتهم بالذات ويصوب المسار.

ومن ثم فإن التأكيد على الذاتية الثقافية لا ينبغي أن يحمل على أنه دعوة إلى التقوقع, فهذا قد أصبح مستحيلا حتى لو أردناه. إن الأمر مثله مثل حالنا كأفراد عندما يتعامل بعضنا مع بعض, فكل منا يستهجن أن يكون "إمعة" لا يملك من أمره شيئا, وما عليه إلا أن يستحسن ما يستحسنه الآخرون ويستهجن ما يستهجنونه, ولابد لكل منا من "شخصية" تميزه بالفعل, حتى يكون التعامل والتفاعل مع الآخرين منتجا, وإلا أصبح ما نفعل وما نقول مجرد نسخة من الآخر لا تضيف جديدا.

عينة أمصال

إنني أصارح القاريء بأن ليس هذا هو كل ما يمكن أن يقال في الموضوع, وإنما هو مجرد "عينة" لما يمكن أن يقال, عينة لعدد من "الأمصال" التي لابد من أن "نتطعم" بها ونحن نواجه طوفان "العولمة", وبذلك نكون متمثلين للدعاء العظيم: اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكننا نسألك اللطف فيه! وقديما قال أحد الفلاسفة المسلمين في مقدمة كتاب له: "إن مصنف الفن ليس عليه أن يستوفيه جميعه وإلا ما ترك السابق للاحق شيئا"!!

 

سعيد إسماعيل علي