الصانع {وعلّمناه صنعة لبوس لكم}

الصانع {وعلّمناه صنعة لبوس لكم}

صانعوا الحضارة العربية الإسلامية

الوظيفة وليس الاسم, هذه هي الرؤية التي ينتهجها أستاذنا د. نقولا زيادة لدراسة حضارتنا الإسلامية ونحن في بداية هذا القرن الجديد, فالحضارة هي مجموعة من الأدوار والوظائف المتواصلة التي تسيّر الحياة البشرية, لا تتوقف بتغير الحكام وتوالي الدول, كما أن الانتكاسات السياسية لا تشل من فاعليتها, إنها تصنع نوعاً من الوتيرة الثابتة تحقق في النهاية ذلك التراكم الحضاري الذي أهل الحضارة الإسلامية أن تقوم بدورها وأن تأخذ سمتها.

كل حضارة بحاجة إلى جماع الطاقات البشرية كي تنبت جذور المدنية, وتقوي بنيتها ليفيد منها الشعب نفسه, وهذا هو الدور الذي يقوم به الصانع.

لم يكن العرب يختلفون في ذلك عمّن سبقهم أو مَن لحقهم. فهم لم يكد يستقر بهم المقام في هذه الرقعة الواسعة التي احتلوها, والتي كانت تمتد من أواسط آسيا والهند شرقاً حتى جبال البيرينيه في شمال جزيرة إيبيريا غرباً حتى أخذوا بما وجدوه في بعض تلك الديار, ثم عكفوا على تطويره. فكانت لهم حضارة عظيمة في جميع نواحي الحياة زراعة وتجارة وصناعة وعلوما أصيلة نقية وعلوما دخيلة عقلية ورياضيات وفلكاً وطباً وفلسفة. وكان لكل فئة عمل تتقنه في نهاية المطاف, ويفيض من هذا الاتقان الكثير مما نُقل إلى الغير فأفادت بعد أن استفادت هي.

لكن ما دور الصانع في هذه الحضارة? وما الدور الذي قام به كي يحسب له حساب في صنعها?

الصانع ينتج, في الخطوة الأولى من عمله, ما يحتاج إليه الناس في الثياب والأثاث والبناء وتوزيع المياه إلى حيث يحتاج إليها القوم. وهو الذي يصنع الحلي للتزخرف والزخرفة. وهو الذي كان يعد الكاغد (الورق) للكتابة والذي يجلد الكتب بعد أن ينتهي نسخها. فهو أساس من الأسس الرئيسية لرفد المجتمع بالكثير من حاجاته.

لكنه وهو ينتج هذه الأشياء يتطور معها ويطوّرها معه فتخرج عن كونها أموراً عادية إلى أن تبدو أشياء متقنة جميلة معدة لا لمجرد الانتفاع المباشر العادي, بل إنها تصبح أشياء فنية جميلة تدخل البهجة إلى النفس والسرور إلى القلب. وعندها يكون الصانع قد مهر أساليبه وطرقه, فيكون إخراجه الأمر من القوة إلى الفعل عملاً يدعو إلى الإعجاب.

ولنضرب الأمثلة على ذلك. فالفلاحة صناعة مهمة جداً في حياة البشر. فالفلاح هو الذي يزوّد القوم بالعناصر الأساسية اللازمة لحياتهم - الحبوب والخضار والدجاج والخراف. لكن هذا الفلاح ينتقل إلى دور يصبح عمله سبيلاً لإنتاج الزهور.

وعندها يزوّد الجماعة بما يمكنها من تزيين المنازل, وخاصة الكبرى منها بالحدائق التي تدخل البهجة والسرور إلى سكان المنازل. فضلاً عن ذلك فإن زهوره تنتقل إلى داخل المنازل في أصص تجعل الإقامة في المنزل متعة خاصة.

لكن عمل هذا الفلاح لا يقف عند هذا الحد. إنه يزوّد صانع العطور بالمادة الأصلية التي يستخرج منها عطوره. وهذه تنعش مستعملها ومَن يرافقه أو يجالسه أو يجانبه.

وهناك النجار الذي يتناول المادة الخشبية ليصنع منها الأثاث الضروري للمنازل كالمقاعد والموائد والأبواب وما إلى ذلك. لكن النجار لم يتوقف عند هذا, فمع التقدم في حياة الناس حضارياً, تراه يتفنن في صنع هذه الأشياء فينوّع الخشب في الأبواب, ويتفنن في صنع الموائد والصناديق والمقاعد. فيطعمها بالصدف راسماً أشكالاً جميلة, فتصبح مدعاة للسرور, بدل أن تكون شيئاً صالحاً للعمل فقط. وينتقل النجار إلى صناعة المراكب وهذه تختلف حجماً ونوعاً بالنسبة لاستعمالها. وهنا تدخل في صناعة النجارة استعمال أنواع مختلفة لجمع الأخشاب. فثمة الغراء لإلصاق الأخشاب, وهناك الخيوط المتينة لربطها والمسامير لتثبيتها. ويتضح من هذا أنه (عندما تعظم الحضارة ويأتي الترف ويتأنق الناس تتنوع مهارات النجار في سبيل اتخاذ الأثاث المونّق والأبواب المقرنصة طاقاتها وما إلى ذلك). (ابن خلدون).

وثمة من الصناعات (الحياكة والخياطة, والأولى تعنى بأحكام الغزل, أما الثانية, وهي بالحضارة ألصق, تعني تلاؤم المنسوج بحيث يصبح ثوباً على البدن بشكله وتعدد أعضائه واختلاف نواحيها. وهذا كله من مذاهب الحضارة وفنونها) (ابن خلدون).

ومن أهل الصنائع الذين كان لهم شأن في الحضارة العربية الإسلامية الطباخون. فقد انتقلت صناعة الطبخ على أيدي هؤلاء من مجرد غلي المواد الغذائية الأصلية كالحبوب والخضار واللحوم أو شيّها, إلى مئات الطرق والوصفات, مزجاً لهذه المواد الطبيعية وتقليباً لها على النار, في حلة أو مباشرة, وخلط البهارات والتوابل بها, وتنويع الحلويات بحيث أن الإرث الطعامي (إن صحت التسمية) الذي خلفته هذه الحضارة والذي مازال معمولاً به حتى يوم الناس هذا, أمر يدهش الباحثين.

ونحن لم نعد بعد الحاجات الأساسية للمجتمع البشري. لكن البنّاء يقحم نفسه الآن. فهو كان أصلاً يقيم جداراً إلى جانب جدار, وقد يكون هذا من الحجر إذا تيسّر أو من الآجر عندما يوجد. وقد كان أصلاً من الطين مع قطع من الأخشاب.

لكن البنّاء ومعاونيه انصرفوا مع التقدم الحضاري إلى الحجر فشذبوه ومسحوه ونقشوا عليه رسوماً أو كتابات وإلى الباب, فجعلوا جزءه الأعلى قوساً على أشكال متنوّعة, بعضها منقول عمن سبق من الأمم, والكثير منها من اختراع هذه الحضارة بالذات.

وكان من الطبيعي, وقد تعاظمت الحضارة وانتشرت الثروة فوصلت, بشكل خاص, إلى أيدي أولي الأمر وكبار التجّار, أن تطوّرت المنازل هندسة وتقطيعا - لأهل الدار جزء, وللزوار ناحية, وللاجتماعات قاعة.

وتفنّن البنّاء في زخرفة هذه الأجزاء, بحيث يتسق ذلك مع الغاية من المكان أو القاعة.

أجمل الأبنية

وأجمل ما تم من الأبنية على أيدي هؤلاء المعماريين هو المساجد والجوامع بصحونها الواسعة المبلطة وقبابها التي تتجه نحو السماء, ومآذنها (أو صوامعها كما يقول المغاربة) التي يدعى منها إلى الصلاة, فيما تكون هي واحدة من السبل التي يتجه البشر عبرها لشكر الله بكرة وأصيلا.

وهنا, أكثر من سواها من الأبنية, يشترك البناء والمزخرف والخطاط والنجار في سبيل إتقان هذا المكان - مكان العبادة والشكر. فالبناء عمله الجدران والقباب. والمزخرف عليه أن يختار الألوان الصالحة لزخرفة هذه الأبنية بحيث تظل أماكن للعبادة. والنجار هو الذي يعد المنابر, التي كانت تنقل من مكان إلى آخر, بقصد الحصول على الأجود منها. والخطاط هو الذي يرسم في الأماكن التي تُرى فيها الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة, بما يذكر المتعبّد بنعم الله على عباده. ومع هؤلاء وإليهم يتقدم الفسيفسائي ليزخرف الأجزاء المختلفة من الجدران أو السقوف أو البلاط بهذه الأشكال الهندسية الرائعة.

النساج وخيوطه

أشرنا من قبل إلى الحياكة والخياطة. لكن الأمر لا يقف عند صنع الثياب, البسيطة والأنيقة, بل إن النسيج انتقل إلى صنع البسط والسجاد. وهذه صنعت أصلاً من الصوف للتدفئة, لكن النسّاج الماهرين انتقوا خيوطاً لوّنوها بمختلف الألوان وصنّعوا منها بسطاً جميلة, كما صنّعوا سجاداً أنيقاً. وصناعة بلغت في إطار الحضارة العربية الإسلامية درجة كبيرة, خاصة عندما كان السجاد يزيّن المساجد والجوامع. أما سجاد القصور فكان يختلف حجماً وإتقاناً بقدر ما يمكن أن يدفع ثمنه.

وتطورت صناعة النسيج, على اختلاف ما تنتج, أعانتها التجارة واسعة النطاق التي كانت طرقها تخترق بلاد الحضارة, فتحمل المواد الخام اللازمة لذلك من الأماكن القاصية إلى حيث النّوْل واليد الصناع. وهذه تنسج هذه الخيوط, بعد صبغها, وتستعملها بحسب الحاجة إليها. فإذا تم للنُسّاج العمل, عادت القوافل إلى حمل النسيج إلى الأسواق المتباعدة, حيث يتناوله الخيّاط فينتج منه الثياب, والبسّاط حيث يحيله إلى بسط وسجاد.

وتعود هذه القوافل, مجتازة فيافي وجبالاً, متعرّضة لكل أنواع الأخطار إلى الأسواق حيث يُباع.

كانت أوراق البردي تستعمل للكتابة حيث توجد, أو حيث يمكن ابتياعها, هي الوسيلة الوحيدة المتقدمة في الاستعمال لما فتح العرب البلاد, ولما أخذ علماؤهم, خاصة الأوائل الذين عنوا بالتفسير الحديث, ثم الذين تبعوهم, بالتأليف كان من حسن حظهم أن وصل الكاغد (الورق) من الصين. وانتشرت صناعته بسرعة نسبياً إلى بخارى ودمشق وطبرية و (مصر) والأندلس.

وهذا الاهتمام العلمي من جهة, والرسمي من الجهة الثانية, اقتضى أن تتطور صناعة الخط من الحرف غير المنقط إلى المنقط ومن مجرد رسم الحروف رسماً عادياً بسيطاً إلى الحرف مختلف الشكل والنوع.

فالعادي ظل يستعمل في التأليف والتراسل, أما المزخرف, فقد اقتصر استعماله على كتابة المصاحف. (مع مراعاة حركات الكلمات فيما بعد) والزخارف في المساجد والجوامع وخزائن الكتب وقصور أولي الأمر وأصحاب المال. وتفنن الخطاطون تفننا عجيباً غريباً. خاصة أن الصورة اعتبرت حراماً, فحلت زخرفة الخط بديلاً للتعبير عن الفن. وتداخل ذلك مع توقيع هذا في أماكن مهمة وبارزة.

ومن هنا, كان الخطاط موضع اهتمام الكبار للزخرفة والكاتب للتعليم.

الطب والتوليد

وثمة صناعة نالت عناية واهتماماً كبيرين واحتلت مكانة متميزة في هذه الحضارة الشامخة هي صناعة التوليد.

ومع أنها مرتبطة بالطب, فإن التوليد بحد ذاته كان صناعة خاصة لها أربابها الذين لم يكونوا أطباء. إذ إن هذه الصناعة كانت وقفاً على النساء. لكن القيام بها كان يقتضي التعرّف على علامات اقتراب الوضع من الطلق, وسبل إخراج الجنين والمخالطات التي ترافق التوليد, وما يتبع ذلك من دقائق هذه الصناعة. فثمة تدريب الأم على العناية بالطفل من حيث الرضاعة والنظافة. وقد حظيت بعض الدايات (المولّدات) بمنزلة كبيرة في قصور أصحاب الثراء والنفوذ, وكوفئن بهدايا قيّمة, خاصة إذا كان المولود ذكراً.

وأخيراً فهناك صناعة كان القصد منها إدخال المرح إلى النفوس وهي صناعة الغناء. وكانت مادة الغناء الشعر, وإذ أن هذا كان يتبع أوزاناً معينة, كان على المغني "أن يقطع الأصوات على نسب منتظمة معروفة, يوقع كل صوت منها توقيعاً عند قطعه فيكون نغمة. ثم تؤلف تلك النغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة فيلذ سماعها لأجل ذلك التناسب, وما يحدث منه من الكيفية في تلك الأصوات. وذلك لأنه تبين في علم الموسيقى أن الأصوات تتناسب" (ابن خلدون).

والمغني يرافقه أصحاب الآلات الموسيقية ولكل دورها في الصوت الذي تخرجه وكيفية ضبط ذلك. ولكل من هذه القطع الموسيقية لاعب خاص يتقن صناعته مثل أصحاب الشبابة والمزمار والبوق والعود والرباب.

ولنتذكر هنا أن صنّاع هذه الآلات الموسيقية كانوا صنّاعاً فنيين ماهرين, وإلا لما تيسّر لهم إنتاج هذه الأدوات الدقيقة التي تنتج الأصوات الجميلة.

نكتفي بهذا القدر من الحديث عن الصناعات, إذ نحسب أننا وضعنا أمام القارئ صورة قريبة من الوضوح ولو أنها مقتضبة. فالصانع, العادي والماهر, كان جزءاً رئيسياً وعاملاً أساسياً في تطور الحضارة العربية الإسلامية.

الصناعة والعمران

وابن خلدون الذي أولى الصنائع دوراً رئيسياً في الحضارة العربية الإسلامية إلى عهده (732-809/1332-1406) وهي الحضارة التي اتخذها منطلقاً لدراسة شئون العمران, له ملاحظات تتعلق بالصنائع وأهميتها نجملها فيما يلي:

1 - إن الصنائع في النوع الإنساني كثيرة, لكثرة الأعمال المتداولة في العمران (الحضارة أو المدنية).

2 - إن الصنائع ليست لكسب المعاش فحسب, لكن لها أهمية حضارية.

3 - الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري, والملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكراره حتى ترسخ صورته.

4 - والصنائع منها البسيط ومنها المركب. والبسيط هو الذي يختص بالضروريات, والمركب هو الذي يكون للكماليات.

5 - والمركبة يخرج الفكر أصنافها ومركباتها من القوة إلى الفعل بالاستنباط, حتى تكمل, ولا يحصل ذلك إلا في أجيال وأجيال.

6 - عند تزايد الحضارة, تدعو أمور الترف إلى استعمال الصنائع, فتخرج من القوة إلى الفعل. أي أن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضاري وكثرته.

7 - إن رسوخ الصنائع في الأمصار إنما يتم برسوخ الحضارة وطول أمدها. ويدلل على ذلك بقوله (وهذا هو الحال في الأندلس في أيامنا. فصنائع تلك البلاد مستحكمة, وإن كان عمرانها قد تناقص, لأن الحضارة في الأندلس قد رسخت من أيام القوط وبرسوخ الدولة الأموية ودولة الطوائف). ويرى أن مثل ذلك ينجر على العراق ومصر والشام, وذلك بسبب طول آماد الدول فيها.

 

نقولا زيادة