موهبة التمثيل.. حقيقة أم خداع؟!

موهبة التمثيل.. حقيقة أم خداع؟!

عندما يلعب الإعلام دوراً مخادعاً فإنه يستطيع أن يقنع الجمهور بمسلمات غير حقيقية, ليس أقلها ترويج فكرة وجود "موهبة التمثيل"!!

موهبة التمثيل التي يروج لها الخطاب الإعلامي, على أنها موهبة أو قدرة أعطيت للبعض وحرم منها الآخرون, هل هي حقيقة? هل فعلا هناك إنسان أعطي موهبة التمثيل وآخر لم يعطها?

وهل هذه الموهبة قسمها الله تعالى إلى درجات, حيث نجد الممثل الموهوب والممثل الكبير والممثل القدير والممثل العظيم وغيرها, وهل هي أنواع فنجد موهبة تمثيل المأساة وموهبة تمثل الملهاة, وهذا موهوب في تمثيل دور الباشا وهذا موهوب في تمثيل دور ابن البلد وهكذا? وهل هناك موهبة لا تظهر إلا على المسرح, وأخرى للكاميرا فحسب, وثالثة للميكروفون فقط, وهل هناك موهبة شاملة?

وماذا عن مناخ الحرية وعلاقته بموهبة التمثيل, فالبعض يدعي أن هذه الموهبة تظهر وتنمو في مناخ الحرية, وأن الكبت والاستبداد يقلصها ويخمدها, في حين يشهد الواقع أن هناك من الممثلين والممثلات من ظلوا يمثلون لعقود طويلة سادت فيها فترات حرية وفترات كبت متعاقبة, وكان اداؤهم بنفس الكفاءة في كل الفترات.

وإذا كانت القدرة على التمثيل موهبة أو ملكة أعطيت للبعض فقط, فأين حق الإنسان في اكتشاف موهبة التمثيل لديه? وأين حق الإنسان في إبراز هذه الموهبة? ألا ترون أننا في حاجة إلى ميثاق حقوق إنسان يعنى بالموهبة من حيث اكتشافها وصقلها وإبرازها?!

وإذا كانت الموهبة تولد مع الإنسان الموهوب فمعنى ذلك أنها وراثية, فهل الموهوب لديه جين معين ليس لدى غير الموهوب, أم أن الجين موجود لدى الاثنين ولكنه نشيط لدى الأول وخامل لدى الثاني, وبعد اكتشاف خريطة الجينات أخيرا فلماذا لا يقوم علماء الوراثة بمحاولة إضافة هذا الجين إذا كان غير موجود أو تنشيطه إذا كان خاملا لدى غير الموهوب? وذلك حتى نكون جميعا ذوي مواهب وقدرة على التمثيل.

اختراع لحاجة

موهبة التمثيل, بدأت دواعي اختراعها في بداية القرن العشرين حيث المجتمع لا يزال متمسكا بالتقاليد, وحيث الأصوات التي تعارض وتحارب الانحلال الديني والأخلاقي ـ من وجهة نظرها ـ وحتى المناديات بتحرير المرأة لم يكن ليوافقن على ما كن يرين أنه عري وانحلال, فهذه باحثة البادية ملك حفني ناصف تهاجم الذين يستميتون في تقليد الغربيين ويعلمون بناتهم الرقص الإفرنجي والتمثيل, وترى أنهما أمران أحلاهما مر, وأنهما منافيان للدين الإسلامي هادمان للفضيلة, وتدعونا إلى محاربتهما, ما استطعنا, وأن نظهر احتقارنا لمن تفعلهما من المسلمات اللاتي إذا شجعناهن بالسكوت فإنهن لا يلبثن أن يعدين الغير. وحتى المجلات النسائية في ذلك الوقت كانت تبدي قلقها الشديد إزاء اتجاه بعض النساء إلى تقليد الأجانب في السفور والاختلاط بالرجال.

في مثل هذا المجتمع ومع هذه الأفكار كان لابد من خدعة ماكرة تمكن من التغلغل في أحشاء المجتمع المحافظ, فكانت هذه الفكرة أو هذه الخدعة هي موهبة التمثيل, وأخذ الإعلام المقروء ومن بعده المسموع ومن بعدهما المرئي ينفث في هذه الأكذوبة, فهذه الموهبة التي اختص الله بها البعض دون الباقي يجب أن تظهر ويجب أن تستغل ـ حسب الخطاب الإعلامي ـ ولا ينبغي أن يقف في طريقها أي عائق من دين أو قيم أو تقاليد, فعلي صاحبة الموهبة أن تضحي في سبيل موهبتها وفي سبيل إظهار موهبتها, وإن أدى بها ذلك إلى ترك منزل أسرتها, أو أن تتعرى أمام الناس فليس هناك مانع وكله في سبيل الموهبة يهون, فالموهوب لابد أن يظهر موهبته للناس, كما أن العالم لابد أن يظهر علمه للناس.

وقد أفلح هذا الخطاب الإعلامي في إقناع الكثيرين والكثيرات بأن موهبة التمثيل شيء حقيقي, وأنه يجب التضحية من أجلها بكل شيء, ومن أمثلة هذا الخطاب ما يقوله سعد القرش حيث يتحدث عن حاجة الموهبة الجبارة إلى وقود فني, وأن على المرأة الموهوبة ألا يشغلها أنها امرأة وأن عليها أن تكون كالنساء تتزوج وتعمل على راحة الزوج وتربية الأولاد وإرضاء المجتمع, يجب ألا يشغلها ذلك كله ـ والكلام لسعد ـ عن القيام بالدور الحضاري الذي تؤهلها موهبتها للقيام به.

وبالطبع فقد فرغ الخطاب الإعلامي من تثبيت فكرة موهبة التمثيل التي أعطيت للبعض وحرم منها الآخرون, وأحاطها بهالة من التقديس, فلا يجرؤ أحد على مناقشتها أو التشكيك فيها, وإلا فأروني منْ مِنَ المفكرين أو الكتاب نفى وجود موهبة التمثيل ـ بالمفهوم الإعلامي ـ أو حتى شكك فيها, لقد صارت من مسلمات الخطاب الإعلامي.

كلنا ممثلون

إن موهبة التمثيل, أو القدرة على التمثيل, أو ملكة التمثيل فطرة أعطيت لجميع الناس وليس كما يروج لها الخطاب الإعلامي على أنها أعطيت للبعض فقط, فالناس جميعا ـ وأقول جميعا ـ يقدرون على التمثيل, والناس جميعا يقدرون على أداء شتى أنواع التمثيل كالمأساة والملهاة وغيرهما, وخير دليل على صدق هذه القضية هو الواقع, فالواقع يشهد أن الناس جميعا يمثلون, فمن من الناس لا يكذب, أليس الكذب تمثيلا, ومن الناس لا ينافق, أليس النفاق تمثيلا, هذا الذي يرى المسئول فينحني له ويمدح ويتملق حتى إذا انصرف المسئول أخذ يكيل له الشتائم, فماذا يكون فعله الأول غير التمثيل, وهذا الذي يأتيك في حاجة فيأخذ في التودد والتذلل أليس هذا تمثيلا?

انظروا إلى الأعداد الكبيرة من طلاب المدارس والجامعات الذين يقومون بالتمثيل في الحفلات المدرسية والجامعية, والفرق التمثيلية التي تؤدي المسرحيات في جميع المدن, انظروا إلى الأداء التمثيلي لهؤلاء جميعاً, تجدونه لا يقل بحال عن أداء ممثلي التلفزيون وكبار المسارح, وذلك دون انتظار مال وفير أو شهرة واسعة كما ينتظر مثل التلفزيون والمسرح, بالطبع تقرون لهؤلاء بموهبة التمثيل, فالتمثيل هو التمثيل سواء أكان أمام الكاميرا أو في فناء المدرسة, سواء أكان على خشبة المسرح أو في الشارع فالكل في النهاية تمثيل.

وفي الواقع فإنني لا أريد منكم الاعتراف بموهبة التثميل لهؤلاء الطلاب وممثلي النوادي والشوارع فحسب, وإنما أريد منكم الاعتراف بموهبة التمثيل والقدرة على التمثيل للناس جميعا بلا استثناء وبمعنى آخر أريد إلغاء التمييز الموهبي والقضاء عليه كما تم القضاء على التمييز العنصري, فكما أنه لا فضل لأبيض على أسود, فكذلك لا فضل لإنسان على آخر في موهبة التمثيل, فالجميع في هذه الموهبة سواء.

حتى الحيوان

وليس الإنسان فحسب هو الذي أعطى موهبة التمثيل, وإنما هناك العديد من الحيوانات التي أعطيت هذه الفطرة, فعلى سبيل المثال عندما يشترك قردان صغيران في محاكاة معركة فإنهما من ناحية يرسخان شكل السيطرة بتحديد من هو الزعيم, ومن ناحية أخرى يجربان المهارات التي قد تكون مطلوبة يوما ما في معركة حقيقة, إما في مواجهة عضو منافس أو غريم من نوعهما نفسه, أو في مواجهة أعدائهما الطبيعيين الآخرين, فماذا تكون هذه المعركة المحاكاة غير التمثيل?! القط عندما يترك فريسته تهرب ثم يستعيدها مرة أخرى على نحو متكرر, وذلك حتى يكتسب ممارسة مفيدة في سلسلة عمليات الصيد التالية. ولا أريد الإطالة في سرد الأمثلة الدالة على وجود فطرة التمثيل في عالم الحيوان, ولكن إذا كان الأمر كذلك, وإذا كانت الحيوانات لديها فطرة التمثيل, فهل يليق بالإنسان أن ينكر تلك الفطرة على أخيه الإنسان?!

إنها الفرصة!

إنني أرى إن أهم كلمة في موضوع موهبة التمثيل عموما هي كلمة "الفرصة", إن الممثلين على اختلاف درجاتهم بدءا بالممثل الكبير مرورا بالممثل القدير وانتهاء بالممثل العظيم لم يؤتوا موهبة لم يؤتها باقي الناس وإنما أوتوا فرصة لم تسنح لباقي الناس, ومشاهير الممثلين لم يؤتوا موهبة دون سائر الناس وإنما أوتوا أضواء وفرصا دون باقي الناس, وأصحاب الأدوار الرئيسية في المسرحيات والأفلام لم يؤتوا موهبة أكثر من أصحاب الأدوار الهامشية وإنما أوتوا فرصة أكبر من فرصتهم, وإنني أزعم أننا لو استبدلنا الكومبارس بالأبطال في أي عمل فنني, لأدى الكومبارس هذه الأدوار وبنفس كفاءة الأبطال.

ولو لم تكن للفرصة وتسليط الأضواء هذا الدور, فماذا تقولون في الرياضيين والإعلاميين وغيرهم الذين يبرعون في التمثيل عندما يتحولون إليه, وماذا تقولون في الذين يدخلون ميدان التمثيل من خلال مسابقات اختيار الممثلين, تلك المسابقات التي لا يلتفت فيها إلا إلى الشكل الخارجي للمتقدم أو المتقدمة للتمثيل, فهؤلاء جميعا هل كانت لديهم موهبة التمثيل قبل الدخول إليه? ولا يزعم البعض أن بعض هؤلاء قد فشلوا أو اتضحت عدم موهبتهم, لأن أذواق الناس تختلف, فمن يراه البعض موهوبا يراه البعض الآخر غير موهوب.

ولو لم تكن للفرصة وتسليط الأضواء هذا الدور فماذا تقولون في الصبي "فينوس دي اوليفيرا", ذلك الصبي الذي لم يتجاوزالعاشرة من عمره, ذلك الطفل الذي يعمل ماسح أحذية في أحد المطارات, ذلك الطفل الذي لم يسبق له التمثيل قط! هذا الطفل الصغير التقطه المخرج البرازيلي "والتر ساليس" وجعله بطلا لفيلمه "المحطة الرئيسية"!, أتدرون ماذا كان مصير هذا الفيلم?! لقد فاز الفيلم بجائزة الأوسكار!!, وربما يقول قائل إن المخرج يكتشف الموهبة من عيون الناس! وهذا ما يقودنا إلى الفقرة التالية.

موهبة الموهبة

إن الإدعاء بوجود موهبة تمثيل أعطيت للبعض وحرم منها الآخرون, ليقودنا إلى ابتداع موهبة أخرى, ألا وهي موهبة تمييز موهبة التمثيل, فما من ممثل إلا واختلف الناس حول موهبته, البعض يدعي بأنه موهوب والبعض الآخر يدعي أنه غير موهوب, وحتى أعاظم الممثلين لم ينالوا الإجماع على موهبتهم, فهل نستطيع أن نصف الذين ينكرون موهبة أحد مشاهير الممثلين بأنهم يفتقدون موهبة تمييز موهبة التمثل, وبالطبع سيدافع هذا الفريق عن تذوقه الفني وعن موهبته في تمييز موهبة التمثيل ويتهمون مؤيدي هذا الممثل بأنهم هم الذين يفتقدون موهبة تمييز موهبة التمثيل وهكذا, وبالطبع فإنني أرى أن موهبة الموهبة ليس لها وجود, وذلك منطقي ما دمت أقول إن موهبة التمثيل نفسها فطرة أعطيت للجميع وليس للبعض فقط.

احترف بعض الصوفيين أسلوب تكريم الأولياء, ونسج الحكايات والكرامات عنهم وهو أسلوب يتسم بالصنعة الواضحة, والارتباط بتنظيم صوفي يضمن اتصال هذا التكريم واستمراره وازدهاره, كما تتميز الحكايات وممارسة الزيارة وتنظيم الحضرات والموالد بالتركيب والتعقيد والدقة في حبك النسيج الأدبي ـ الدعائي ـ حول الولي. ومن شأن ذلك أن يجلب مزيدا من النذور, وهذه النذور تمثل طوفانا من الخير الذي يقدم للإخوان أعضاء الطريقة, وتوافر هذا الخير يجلب مزيدا من الزوار ويكفل مزيدا من الرعاية للولي, فتتحقق للولي المزيد من الشهرة, وهكذا دواليك.

فهذا الذي يفعله الصوفيون, يفعل مثله الإعلاميون, وذلك بخصوص موهبة التمثيل, فكما لا توجد مدينة ولا قرية عربية تخلو من ضريح ولي, أو مجاذيب بحب ولي معين مؤمنين بكراماته, فكذلك لا يخلو منبر إعلامي من مجاذيب بحب ممثل معين مؤمنين بموهبته, وكما تحدث الخلافات بين أتباع الأولياء المختلفين كل حزب يدعي الفاعلية الأقوى لوليه, وربما وصل الحد بالبعض إلى نفي الكرامة عن الولي الآخر, كذلك يفعل الإعلاميون, فحاشية كل ممثل يدعون الموهبة الأقوى له, وربما وصل الأمر ببعضهم إلى نفي موهبة التمثيل لدى المنافسين! وهدف الفريقين النهائي جلب المصالح الشخصية, بغض النظر عن توعية الناس بالحقيقة.

فاز المتملقون

كثير من الممثلين يحرصون على أن يحيطوا أنفسهم بعدد من الإعلاميين, من النوعية التي لا تجيد سوى المداهنة والنفاق وحرق البخور ودق المزاهر والدفوف مدحا للممثلين وإشادة بموهبتهم المزعومة. ولم يعد سرا أن لكل ممثل "شلة" من الصحفيين يروجون له ويدافعون عنه, وقد قدمت الدراما التلفزيونية هذا النوع من الصحفيين في أعمال درامية كثيرة, وإذا أضفنا إلى ذلك ما هو معروف عن اشتغال بعض الصحفيين كمعدي برامج وكتاب سيناريو لعرفنا مدى التداخل الذي يحدث بين الوسط الصحفي والوسط الفني الذي يأتي بنتائج سلبية على الصحافة الفنية.

وحول عمل بعض الصحفيين في المجال الفني يقول محمود سعد الناقد الفني المعروف: "إن تشابك العلاقة بهذا الشكل بين الوسط الفني والوسط الصحفي أدى إلى التأثير بالسلب على المادة المنشورة, فيحدث أحيانا أن يشتري الممثل أو الممثلة سيناريو فيلم أو مسلسل من الصحفي مقابل أن يعتني الصحفي بأخبار وصور وأعمال الفنان, وهذا هو وجه من المشكلة, والوجه الآخر هو أن تكون العلاقة سيئة بين الطرفين مما يؤثر بالسلب أيضا على ما يكتبه الصحفي وبالطبع فإن الممثل صاحب موهبة جبارة في حالة رضا الإعلامي, ويفتقر إلى الموهبة في حالة غضبه, ثم إذا عاد الود بين الممثل والإعلامي, أعاد الإعلامي الموهبة إلى الممثل, ورحم الله ابن خلدون حيث قال: "فاز المتملقون".

أخيرا

لماذا هذا الجدل والكلام الكثير, مادام في أيدينا الحل العلمي, لنأخذ عينة ضابطة من الرجال والنساء والأطفال, ونختبرهم في التمثيل, فإن ثبت أن موهبة التمثيل فطرة أعطيت للجميع فسأكون سعيدا بصحة رأيي, وإذا ثبت أن هناك من أعطي موهبة التمثيل وهناك من لم يعطها كما يروج الخطاب الإعلامي, فإنني أعود إلى ما طالبت به في بداية المقال من إعلان حقوق إنسان خاص بموهبة التمثيل, من حيث اكتشافها وصقلها وإعطاء مساحة إعلامية لجميع الموهوبين لإظهار موهبتهم, وفي هذه الحالة سأكون سعيدا أيضا لأنني سأكون من مشاهير الممثلين بإذن الله.

 

أحمد بكر موسى