معرض العربي

معرض العربي

القزم العملاق

في الرابع والعشرين من عام (1864) وضعت الكونتيسة "أديل" مولودها الأول والأخير (هنري دي تولوز لوتريك) للكونت "ألفونس" بمدينة "ألبي" حيث أصبح هذا المولود فيما بعد من أشهر فناني فرنسا المنتمين إلى مدرسة "ما بعد التأثيرية" مع رفاقه العظام "فان جوخ" و"جوجان" و "سيزان", ثم صار بعد ولادته المصدر الوحيد لشقائهما على مدى حياته القصيرة (36 عاما) لإصابته بمرض في العظام تسبب في تهشّم عظام فخذه اليسرى وهو في الثالثة عشرة إثر سقوطه من ارتفاع صغير, وبعدها بعام, تهشّمت عظام فخذه اليمنى, وقد يئس الأطباء من علاجه, فصار قعيد المنزل, فانكبّ على الرسم والقراءة وتعلم اللغات, وتولدت لديه رغبة حادة في التمرّد والسخرية البالغة حد الإثارة حتى من نفسه.

وفي عام (1889) راقت له الإقامة في الحي الشهير "مونمارتر" بعد افتتاح ملهى "المولان روج", وبعدها بأربعة أعوام أقام معرضاً خاصاً له تناول فيه حياة الطبقات الدنيا التي أحبّ الانتماء إليها مفضّلاً إياها على طبقته الثرية.

وكذلك تناول حياة البيوت المغلقة كموضوعات أساسية للوحاته, وكان ينقضّ كالصاعقة بفرشاته على أقنعة مَن يرسمهم ممزقاً إياها, فترى شخوصه على الدوام بلا زيف, وقد ساعده في ذلك امتلاكه لملكتين يكمل كل منهما الآخر, وقلّما اجتمعتا في فنان واحد, وهما دقة التحليل النفسي, والقدرة الفائقة على السيطرة التامة على أدواته الفنية.

هذا ما يجعلنا نلتقي مباشرة مع ما أرادنا أن نراه بوضوح في هذه الصورة النادرة للسيدة الثرية "جستان" حيث إنه كان لا يرسم الأثرياء إلا فيما ندر.

تلك السيدة الثرية المعتزة بثرائها, وضعها في اللوحة بحيث تراها وكأنك أعلى منها كما كان يجب أن يرسم دائماً ربما يرجع هذا لكونه قزما - وقد قسم اللوحة لثلاثة أجزاء واضعاً السيدة في الجزء الأوسط شاطراً بها اللوحة, فأصبح كل ثلث بمفرده, وهذا من العيوب الكبيرة تصميمياً, وهو كفنان عظيم يعرف ذلك تماماً, لكنه يفتعل المشكلة ويحاول إيجاد الحلول, وتلك ميزة تلازم كل عبقري عندما يمل التحرّك المستمر داخل قاعدة ثابتة.

وقد أوجد حلولاً ذكية لمعالجة هذا العيب, حيث أدخل يدي المقعد كل في ثلث, وبهذا صنع ما يسمّيه النجارون "العاشق والمعشوق", ولم يكتف بذلك, حيث صنع ثلاثة أرباع الدائرة في أعلى الصورة على شكل بقعة ضوء هي من الأهمية بمكان من الناحية الفنية لتمنع سقوط السيدة لأسفل الصورة كأنها مسمار تثبيت, وكذلك من الناحية الوصفية لتكمل صورة الثراء لدى السيدة, حيث المنزل ذو الحديقة والملابس الأنيقة هما عناصر الثراء, فالثري بما يملك وما حوله من مظاهر.

كذلك قطع الإطار الأعلى للصورة بما تضعه تلك السيدة على رأسها, وهذا مالا يحدث عادة في صورة شخصية, ولكنه هنا ضروري, لأنه من ضمن حلول تثبيت التصميم مع وجود مثل هذا التقسيم الثلاثي للصورة.

وكذلك ألوان السيدة هي ذاتها ألوان الخلفية, فالصورة بالنسبة لهذا الفنان هي محصلة ألوان الخلفية على الدوام.

عندما أرادت هذه السيدة صورة شخصية لتكمل مظاهر الثراء عندها, أراد هو لوحة تكمل سلسلة تمرّده وإلقاء وجهة نظره للعالم, مكثفاً النظرة الباردة لتلك السيدة ذات العيون الملوّنة, حيث النظرة جوفاء ولا تعني شيئاً مطلقاً إلا الخواء واللامبالاة في مواجهة العالم, وهذه هي طبيعة الفنان الشخصية, لكنه نجح نجاحاً باهراً في صنع جو الصباح الجميل وإظهار أن السيدة ثرية وخاوية نفسياً.

واللوحة عند تولوز هي كل وليست أجزاء, فاللوحة هي تولوز لوتريك ذاته بطبعه الحاد وتحليله الدقيق للأشياء, وعلى الرغم من كل شيء, فقد استطاع أن يقول لنا بهدوء "صباح الخير" من خلال تلك اللوحة.

 

علاء حجازي