العلم والحياة

العلم والحياة

من المكتبة الأجنبية

تألـيف: فرناند سغن

قضايا متعلقة بدور العلم في حياتنا اليومية وتهم الإنسان العادي متدرجة من الغذاء إلى البيئة والتلوث ومن الرفق بالحيوان إلى الغش العلمي.. هذه بعض طروحات هذا الكتاب المهم.

من أقرب الأمور إلى هذه الحياة, الأغذية. ويوليها الكتاب اهتماما بارزا, مبينا في فصل خاص بها, الأسس السليمة لتناولها, والتي من شأنها أن تمنح الجسم صحة وسلامة.

وأكبر خطر يواجهنا في هذا المجال, ليس سوء التغذية أو نقصها, كما يتصور الكثيرون, وإنما الإكثار من تعاطي الغذاء, ولاسيما لأسباب نفسية. فقد ثبت أخيرا, بالتجارب العلمية الحديثة, أن المصابين بالاكتئاب النفسي, يقبلون على التهام الطعام تخفيفا لآلامهم النفسية, وإن كانت هناك بعض الحالات التي يعاني فيها بعض هؤلاء من شعور معاكس, أي من ضعف الشهية للأكل.

وهناك أيضا, أناس عاديون ينخدعون بالدعايات الطبية, فينساقون وراء التهام الفيتامينات المصنعة والمعادن الدوائية, ظنا منهم أن ما ينفع بمقدار ضئيل, ينفع أكثر بمقدار كبير. وهذا خطأ طبي شائع. وينصح المؤلف بالإضافة إلى الاعتدال, بالإقلال من الدسم والحلويات والإكثار من الألياف النباتية التي, وإن كانت لا تحتوي على مواد غذائية, إلا أنها تساعد على الاطراح المعوي. وهو يعترف بأن اتباع نظام غذائي مثالي, على الصعيد العملي, أمر صعب التطبيق. ويتحدث الكتاب عن العلاقة بين التلفاز والطعام, مبينا أن الأطفال الذين يمكثون طويلا أمام التلفاز, يأكلون أكثر, وهو ما يؤدي إلى إصابتهم بالسمنة. كما يتعرضون إلى مشكلة ضعف العظام, مع تقدم السن, مشيرا إلى الخطأ الشائع والمتمثل بالتصور بأن تناول الكالسيوم بكثرة كفيل بتحسين وضع العظام.

والحقيقة أن هذا لا يفيد, إلا إذا توافرت شروط أخرى لجعل امتصاص الكالسيوم يتم بطريقة جيدة. وفيما عدا ذلك, فإن الإكثار من الكالسيوم قد يسفر عن تشكل الحصى الكلوية, وإلى العوز في الفيتامين د. أما الاستروجينات, فهي وإن كانت تحسن حالة العظام, إلا أنها تنطوي مع الأسف على خطر الإصابة بالسرطان.

البيئة والتلوث

ومن الموضوعات الأخرى التي يُعنى بها الكتاب, وترتبط بصميم حياتنا اليومية, الملوثات, وعلى رأسها الملوثات الناجمة عن الإشعاع الذري, والتي تشهد على مدى خطورتها, مآسي ويندسكال عام 1957 وثري مايل ايسلندة عام 1979, وتشيرنوبل عام 1986. ويوضح المؤلف الفرق بين الطاقة النووية العسكرية, ممثلة بالقنابل الذرية, والطاقة السلمية, أي طاقة المحطات. مشبها إياه بالفرق بين السرطان الخبيث والسرطان السليم. إن التلوث لم يكتف بالزحف على الأرض والجو والماء, بل إنه وصل أخيرا إلى الفضاء وأخذ يتسلل بين الكواكب. ومع التحضير لحرب النجوم, والتي تهدف إلى تفجير الصواريخ المعادية في أثناء طيرانها, بإطلاق صواريخ أخرى موجهة بأشعة الليزر لملاقاتها, يتوقع أن تحدث في الفضاء مستقبلا تفجيرات واسعة تلوثه وتحوله إلى جحيم.

ولا ينسى الكتاب الأمطار الحمضية التي تؤدي إلى الموت البطيء للغابات والبحيرات, وإلى اختفاء الأسماك مثل العوالق والقريدس والروبيان وغيرها.

ويشير المؤلف إلى الاتهامات المتبادلة في هذا المجال بين كندا وأمريكا, فالأولى تزعم أن الصناعة الأمريكية تعد أكبر باث لأوكسيد الآزوت وأوكسيد الكبريت اللذين يتحولان في الجو إلى حمض الآزوت وحمض الكبريت اللذين يمتزجان بالمطر والثلج المتساقطين على الأرض. وفي المقابل, تحاجج أمريكا بأن السيارات الكندية التي تطلق كميات هائلة من الغازات, هي من أكبر أسباب الأمطار, ويبين المؤلف أن القلق من جراء تخرب طبقة الأوزون, والذي بدأ يظهر في عام 1974, قد خف الآن, وهدأت الضجة التي أثيرت حوله, مع أن الخطر المتعلق به مازال ماثلا. وقد حل محل القلق السابق, الاهتمام بأخطار مزيلات الرائحة ومبيدات الحشرات والمواد التجميلية ورغوات صابون الحلاقة والقشرة المخفوقة. فهذه كلها تنتشر في الجو مسببة أضرارا فادحة. ويقدر الآن أن كل ذرة من الفلور الذي تحتويه المواد السابقة يقوم بتخريب عشر ذرات من الأوزون.

وهذا يعني زوال ما يعادل عشرة ملايين طن من الأوزون سنوياً. وإذا استمر هذا الوضع على حاله, فإن طبقة الأوزون لن يكون بوسعها مواصلة دورها حاجزا يقي من تغلغل الأشعة القصيرة فوق البنفسجية, مما سيقود إلى تعرض الحياة على الأرض إلى التأثيرات الهدامة لهذه الأشعة, مثل سرطانات الجلد, وفناء العضويات المجهرية المائية التي تشكل المرحلة الأولى من السلسلة الغذائية للأسماك, ناهيك عن تشوش الأنظمة الحيوية الأخرى.

ويعلل الكتاب سبب قلة الاهتمام بالأخطار البيئية بعيدة المدى بأن الناس مرهقون بالهواجس قصيرة الأجل, ولم يعد يفزعهم إلا ما يمسهم بشكل مباشر, فهم بدلا من انتظار الموت بسبب الإشعاعات النووية أو الأمطار الحمضية أو فساد طبقة الأوزون, نجدهم منهمكين في مواجهة متاعبهم الحياتية الحالية التي لا تحتمل الانتظار.

الاكتشافات الطبية الحديثة

يتناول المؤلف في فصل خاص موضوع الاكتشافات في مجال الأمراض وعلى رأسها السرطان مشيراً إلى ما تحقق أخيرا من نجاح في زراعة الخلايا الظهارية المعروفة بقابليتها للتحول السرطاني, مما سيمهد الطريق أمام دراسة آلية تشكل تسع حالات سرطانية بشرية, من بين كل عشر حالات.

وهناك أيضا مرض الصُّداف الذي يشابه السرطان في طور تكاثره السريع ولكنه في الحقيقة ليس سرطانا. وقد اكتشف فريق من الباحثين حديثاً أن الصداف لا يتشكل في البشرة, وإنما في الأدمة الواقعة تحتها.

وهذا الاكتشاف سيفتح الطريق أمام تسليط الضوء على هذا النفق المظلم الذي يسمى الصداف, وبالتالي تحقيق انفراج طبي أمام ضحايا الحكاك اليومي الذي ينغص العيش وينكد الحياة.

وفي مجال الكحولية, يشير الكتاب إلى أنه قد تبين أخيرا أن هناك سببا للتسمم وهو اتحاد الكحول مع الحموض الدسمية.

ويعد هذا أكبر انجاز طبي حيوي, لأنه سيفتح الباب أمام تعديل عملية الاستقلاب لدى الكحوليين, مما سيجعلهم بمنأى من التأثر به.

ومما يُذكر, أن الكحول بالإضافة إلى تأثيراته الضارة في الكبد والبنكرياس والقلب والدماغ, مسئول عن نصف حالات الجنون. ومن الاكتشافات الأخرى الحديثة التي يكشف الكتاب عنها النقاب, ما أثبتته دراسات مولر من جامعة هالفرد, من أن معظم النوبات القلبية والدماغية والخناقية تقع في الساعة التاسعة صباحاً, حسب التوقيت الأمريكي. وهذا ربما يؤدي إلى إتاحة الفرصة لإعطاء المهددين بمثل هذه النوبات أدوية مضادة قبل ساعة أو ساعتين من الموعد المذكور.

ومن الاكتشافات الأخرى ما يتعلق بالناعور المسمى بمرض الملوك, والذي يتجلى في نزف دموي غزير لا يمكن التحكم به, لدى أقل جرح داخلي أو خارجي. وكان العلاج في الماضي يقوم على إعطاء المخثرات. وهذا غير كاف. وقد تمكن فريق أمريكي أخيرا من تحديد بنية العامل الذي يؤدي دورا مهما في التخثير بدقة بالغة, وتصنيع المورث المرتبط به, من خلال الزرع. وهذا التطور سوف يفتح الطريق أمام حل المشكلة خلال سنوات قليلة.

وهناك فصل مهم حول الأبحاث العملية الجارية اليوم, ومن بينها أبحاث على مادة الانترلوكين المضادة للسرطان, والتي يؤمل منها الخير, بعد أن أخفقت الدراسات التي أجريت سابقا على مادة الأنترفرون, ولم تؤد إلى النتائج المرجوة.

ضد الدارونية

والمشكلة هنا أن المواد الغريبة التي تدخل بيئتنا, وتقود إلى نتائج مشئومة, لا يمكن إيقافها إلا بإيقاف التقدم العلمي, وهو أمر مستحيل.

ويشير الكتاب أيضا إلى الأبحاث الحديثة الخاصة بانقراض الأجناس. فمنذ ستة ملايين سنة وحتى الآن, سكن كوكبنا الأرضي زهاء أربعة مليارات نوع من الأنواع الحيوانية والنباتية الحية. ومع ذلك, لم يبق منها اليوم سوى بضعة ملايين, أي ما نسبته أقل من عشرة بالألف من الأنواع التي ظهرت منذ انبثاق الحياة على الأرض. وقد جرت أبحاث لمعرفة أسرار الانقراضات الضخمة التي تحدث خلال فسحات زمنية واسعة, تصل كل منها إلى زهاء عدة ملايين من السنين. وهذه الأبحاث تدحض نظرية دارون في التطور الطبيعي والارتقاء والتغير التدريجي, وقد تمخضت عن نظرية جديدة, أي نظرية كارثي التي تقوم على فرضية الدورات المتتابعة للخلق والانقراض. وهي أكثر مطابقة للحقيقة.

ويتضمن الكتاب فصلا طريفا بعنوان "سلوكيات". وهو يقدم لنا مظاهر من ارتباط العلم والطب بحياتنا اليومية. ففي الماضي, مثلا كان هناك أطباء للأطفال, ثم أصبحنا اليوم نسمع عن أطباء للمواليد الجدد المعروفين بسرعة تعرضهم لأمراض, مثل الاعتلال الشبكي المُفضي إلى العمى, والذي يُصاب به الخدج الذين يوضعون في حاضنات تحتوي على كميات كبية من الأوكسجين. وقد تم التخلي عن هذه الطريقة, بعد أن اقترح بعضهم استخدام الفيتامين (ي) E لتعديل تأثيرات الأوكسجين الضارة. ثم وجه العالم الإنجليزي الدكتور سيلفر الاتهام إلى الضوء مؤكدا وجود علاقة بين عمى الخدج وشدة النور في الحاضنات.

ومن الحلول التي اقترحت لحل المشكلة, تجميد محيط شبكية المولود, المعرضة لخطر الاعتلال, وذلك بهدف كبح تكاثر الأوعية الدموية. ولكن لا يعرف بالضبط حتى الآن متى يتوجب استعمال هذه الطريقة, فهناك خطر من استعمالها قبل الأوان, وعدم فائدتها في حالة استخدامها بعد فوات الأوان! ويوجد مثل صيني قديم يقول: "في حالة الشك, يجب الاستنكاف". وهكذا تبقى المشكلة دون حل!

رفقاً بالحيوان

من الموضوعات الأخرى التي يتصدى لها الكتاب ما يتعلق بالعنف مع الحيوانات وما يجري عليها من تجارب ظالمة تسبب لها الألم والمعاناة. ومن ذلك مثلا ما يحدث عند دراسة أثر الرضوض القحفية التي تنشأ نتيجة الصدام بين السيارات. ففي هذه الحالة يُربط قرد البابوان على كرسي ويحاط رأسه بخوذة. ثم يقوم مكبس خاص بتوجيه ضربة قوية لجمجمة القرد, فيحدث لديه ارتجاح مخي أو سبات. ويستنكر المؤلف كل الاستنكار هذه الممارسات اللا إنسانية ويرى فيها انعداما للشفقة.

كما يتصدى الكتاب للغش العلمي. وفيه يشبه المؤلف اتهام باحث علمي بالغش في أبحاثه, باتهام رجل الإطفاء بالرغبة في إشعال النار, أو اتهام عضو الصليب الأحمر, بالعمل على مص دماء الآخرين. ومع ذلك, هناك حالات يحدث فيها غش من هذا النوع. ومن ذلك حالة العالم سيريل بورت, رائد اختبارات الذكاء الذي تبين بعد وفاته, أنه كان يزيف قسما من معطياته التجريبية ليجعلها ملائمة لفرضياته! كما يذكر الكتاب حالة العالم سومرلن الذي أراد أن يبرهن على إمكان تطعيم أجزاء من جلد الفئران السود على ظهر فئران بيضاء, مما يعني تقدما كبيرا في زراعة الأنسجة. وقد أجرى العالم التجربة بنجاح أمام رئيس فريقه العلمي الذي اقتنع بالنتيجة. وبعد فترة, اكتشف زملاء سومرلن أنه قد دهن الفئران البيضاء باللون الأسود, بواسطة قلم لباد. وبعد انفضاح هذا الغش, أجبر العالم على الاستقالة, وحظر عليه القيام بأي أبحاث علمية في المستقبل. ويشير المؤلف في آخر الفصل إلى ندوة نظمتها الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم, في لوس أنجلوس حول "الغش في البحث العلمي".

وخصص الكاتب فصلاً للجودة العلمية للباحث العلمي وسيرته المهنية, والمعونات التي يمكن أن يحصل عليها, والمراكز الأكاديمية التي تعرض عليه, والتقديرات التي تُمنح له, وأعلاها جائزة نوبل التي تمثل إقرارا عالميا بتفوقه العلمي, وفقا للمعايير المعاصرة. ولكن المؤلف يأسف لأن قياس الجودة العلمية كثيرا ما يخضع للصداقات والتساهلات والمصالح والانتماءات الفكرية الضيقة, مما يجعل من الصعب دائماً وضع معايير موضوعية لها. ومع ذلك فمهما جرى من خداع, لا يمكن لعالم كبير أن يبقى مغمورا. وتحظى مهنة الباحث العلمي في الدول المتقدمة بتقدير أكبر مما يحظى به القضاة والأطباء والمحامون والمهندسون ورجال الدولة. وطبعا فإن الحال تختلف في الدول المتخلفة.

كما تطرق الكتاب في أحد فصوله إلى قضايا تتعلق بالهندسة الوراثية وما تحمله من آمال ومخاوف.

وعرج أيضا على الثورة الزراعية الخضراء التي أطلقها بورلوغ خلال الستينيات. وهي تعني الحصول على أنواع جديدة من النباتات, ليس بالطرق التقليدية, وإنما بواسطة تقانات الهندسة الجينية, ولهذه الثورة ميزاتها ومخاطرها. ويخشى المؤلف أن تؤدي إلى توسيع الهوة بين الأغنياء والفقراء, لأن ملاك الأراضي في الدول الغنية, لا صغار المستثمرين في بلدان العالم الثالث, هم القادرون على الإفادة منها.

نظرة بانورامية للكتاب

إن الكتاب الذي حللنا معظم أفكاره المهمة, مصوغ بلغة أكاديمية متقنة للغاية ومعقدة. كما أن مضمونه العلمي من النوع الرفيع. ولكننا عمدنا في هذه المراجعة الى تبسيط أفكاره. ومن الملاحظ أن أهم سماته, عدم تكراره المعطيات العلمية التقليدية والمعروفة. وهو, بدلا من ذلك, يقدم لنا طروحات جديدة.ومن السمات الطريفة للكتاب أنه يركز على القضايا المتعلقة بدور العلم في حياتنا اليومية, فهو مثلا لا يتحدث عن اكتشافات الفضاء أو استخدامات المفاعلات الذرية, وإنما عن أمور تهم الإنسان العادي, وهذا ما يكسبه قاعدة عريضة من القراء الذين يمكن أن يهتموا به.

 

ياسر الفهد

 
 




غلاف الكتاب





من ملوثات البيئة التي تخلفها الحرائق والحروب