المحبـة

المحبـة

هل تحبون أبناءكم? هل أنتم فخورون بهم? هل تشعرون بأن كل واحد منهم هو فرد مميز فريد لا يحل محله أحد? الغالبية العظمى من الآباء يفعلون ذلك, ولكن هل يشعر أبناؤكم بأنكم تشعرون بهذه الطريقة?!

في جناح مشفى مخصص للأطفال اليتامى, تعرض الأطفال الموزعون في صف طويل من الأسرّة لمشاكل صحية مختلفة ومات البعض منهم - ما عدا الطفل في السرير الأخير. فقد أبلى بلاء حسنا, وتحيّر الطبيب المشرف في ذلك. فقد زُوّد الجميع بالطعام والحمام والدفء, ومع ذلك فإن الطفل في السرير الأخير فقط كان ينمو بعافية. ومع مرور الأشهر وحضور أطفال جدد, كانت القصة نفسها تتكرر: الطفل في السرير الأخير فقط يكبر بصحة وعافية.

أخذ الطبيب المقيم على نفسه عهداً أن يحل هذا اللغز, فقرر أن يراقب خفية ما يحدث. وفي منتصف الليل, دخلت المرأة المسئولة عن التنظيف إلى الصالة, وعلى يديها وركبتها نظّفت الأرض من الطرف الأول إلى الأخير. وعندما انتهت من الأرض نهضت واتجهت إلى السرير الأخير ورفعت الطفل وجالت به في الغرفة وهي تعانقه, تناغيه وتهدهده بين ذراعيها. ثم أعادته إلى سريره وغادرت. واستمر الطبيب في المراقبة لثلاث ليال متعاقبة. وفي كل مرة كان يحدث الأمر نفسه, فقد كان طفل السرير الأخير هو الذي يُحمل ويُناغى - يُحب. وفي كل المجموعات الجديدة من الأطفال الذين أدخلوا كان الطفل في السرير الأخير هو الذي ينمو بقوة فيما يمرض الآخرون ويموت البعض.

حاجة حيوية

في الواقع, خلال الفترات المكوّنة لنمو الدماغ, فإن بعض أنواع الحرمان الحسّي - كالنقص في الملامسة والهدهدة من قبل الأم - ينتج نموّاً ناقصاً أو متضرراً للأجهزة العصبية التي تتحكم في العاطفة. إن الولد الذي لا ينال كفاية من المعانقة أو الاحتضان قد ينمو منطوياً على نفسه, منعزلاً أو متحفّظاً.

تتبع فريق من العلماء أخيراً حوالي ألفي دراسة لـ400 طفل في روضة أطفال. ومن بين الـ94 رجلاً وامرأة - الذين كانوا قادرين على العثور عليهم - وجدوا بعض النماذج المعبّرة. فقد تبين أن أولئك الذين كان لديهم آباء يتصفون بالدفء والعطف مالت حالهم إلى أن تكون أفضل في حياتهم كراشدين, فقد كانت لديهم زيجات ناجحة, كوّنوا أسراً مستقرة, تمتعوا بعملهم, وعزّزوا صداقات حميمة. وذكرت الدراسة أنهم "أظهروا حالة جيدة نفسياً وشعوراً بالحيوية والرضا عن أنفسهم وعن حياتهم".

وفي تباين مع ذلك, وجدت الدراسة أن "أولئك الذين كان لديهم آباء فاترون يصدّون أولادهم قاسوا أصعب الأوقات في وقت لاحق من حياتهم في كل ناحية, في العمل, في التوافق الاجتماعي, وفي الحالة النفسية". وانتهت الدراسة إلى أن النقص في الدفء الأبوي قد يكون مؤذياً للأولاد على المدى الطويل أكثر من طلاق الوالدين أو إدمانهم الكحول, أو فقرهم.

الإعراب عن المحبة

إن الكثيرين من الآباء يحبّون أولادهم ولكنهم لا يرون أي حاجة إلى الإعراب عن هذه المحبة. ولكن المحبة الحقيقية هي أكثر بكثير من شعور يُدفء القلب, إنها تعرب عن نفسها بالكلام والأعمال. فكيف يمكن للوالدين الإعراب عن محبة كهذه لأولادهم?

تبدأ العملية عند الولادة وتدعى الارتباط, ترنو الأم إلى عيني الطفل بمحبة, تتكلم إليه على نحو مهدئ, تعانقه وتحضنه. فتتحرك غرائز الأمومة فيما ينظر إليها الطفل بإمعان ويشعر بالأمان. وهكذا يتم الارتباط, بداية علاقة محبة. ولكن هذه هي البداية فقط.

فالاثنان سرعان ما يصيران ثلاثة عندما يظهر الأب على المسرح, كما يجب أن يحدث. فكل ولد يحتاج إلى أب. وكل أب يمكن أن يصنع فرقاً. فالأمهات يملن إلى أن يكنّ رقيقات هادئات مع أطفالهن. والآباء من ناحية أخرى, عادة ما يكونون أكثر مرحاً إذ يدغدغون أطفالهم أكثر مما تفعل الأمهات. ويتجاوب الأولاد مع هذه المعاملة الخشنة بصيحات وصرخات ابتهاج, إذ يسترسلون في المرح ويلحّون في طلب المزيد. وذلك يكون استمراراً للارتباط الذي ابتدأ عند الولادة.

إذن كم هو مهم بالنسبة للأم والأب - كليهما - أن يتعاونا على تقوية علاقة المحبة هذه. هذا الارتباط والاتصال بينهما والولد خلال سنوات التكوّن الأولى. فلتكن هنالك وفرة من المعانقات والقبلات من الوالدين كليهما.

وغالباً يبدو الوالدان الجديدان طائرين فرحاً بطفلهما الأول, فكل شيء - تقريباً - عنه يثيرهما, ابتسامة الطفل الأولى, كلماته الأولى, وخطوته الأولى, كلها مناسبات بالغة الأهمية. وهما يسليان الأصدقاء والأقرباء بصوره وبالقصص عنه. فلاشك أنهما يحبّان ولدهما.

ولكن في بعض العائلات, قد يتغير هذا مع مرور السنين. فتتحول مناغاة الأبوين إلى ولدهما إلى كلمات قاسية ومزعجة, وتتحول المعانقات الرقيقة إلى صفعات غضب أو إلى انعدام تام للاتصال اللمسي. فماذا حدث?! أين المحبة? إن الأولاد غير قادرين - طبعاً - على إيجاد الأجوبة عن أسئلة كهذه. وقد يعتقدون أنهم السبب, وهو اعتقاد يمكن أن يؤذي بأشكال مختلفة مدى الحياة.

لكن الحقيقة هي أن الوالدين قد يفشلون في الإعراب عن المحبة التي يحتاج إليها أولادهم لأسباب كثيرة. فلابد من الاعتراف أن الوالدين يواجهون ضغوطاً حياتية هائلة, كتأمين الحاجات الأساسية المادية والاعتناء بالأهل المسنين, و... إلخ. إنما لا يمكن التوقع من الأولاد أن يفهموا كل هذه الضغوط التي يواجهها والدوهم. فهم بطبيعتهم بحاجة ماسة إلى المحبة والانتباه. فكيف يمكن الاستمرار في إشباع هذه الحاجة?

من السهل إيجاد العيوب في الأولاد, فعدم نضجهم وعدم خبرتهم ستظهر للعيان بوضوح بطرائق لا تعد يوماً بعد يوم. ولكنهم - أيضاً - يقومون بأمور جيدة كثيرة كل يوم, فابحثوا عن هذه الأمور التي تستحق المدح ولا تصرفوا النظر عن هذه الحاجة الحيوية لأولادكم. فينبغي أن يمدح الأولاد جميعاً بانتظام على الأمور الجيدة التي يفعلونها, وهذا سيخفض خطر الشعور بأنهم فاشلون وهم يكبرون.

كما يجب تشجيع الأولاد للتعبير عن أنفسهم, فوجهة نظرهم قد تكشف عن مشاكل, والمشكلة المفهومة بوضوح يسهل حلها أكثر بكثير. وكيفية تجاوبنا مع أقوالهم مهمة أهمية جعلهم يعبّرون عن أنفسهم. فيلزم أن يرتب الآباء بيئة يشعر فيها الأولاد بالأمان إذا كشفوا عن مشاعرهم العميقة, مهما تكن هذه المشاعر مزعجة. لذلك إذا عبر أبناؤكم عن شعورهم بأسلوب حاد, فاصغوا إليهم, وبدلاً من تعنيفهم, اعترفوا بحقيقة شعورهم واحملوهم على ذكر الأسباب.

والآباء يعربون عن محبّتهم لأولادهم من خلال تأديبهم أيضاً, ولقد وجد أن الآباء الذين لا يعاقبون أبناءهم بقسوة, بل يضعون حدوداً ثابتة ويلتصقون بها, من المرجح أن ينتجوا أبناء يحققون إنجازات رفيعة وينسجمون جيداً مع الآخرين. ومثل هؤلاء الآباء تطلق عليهم صفة "حازمين" بخلاف الآباء "المتسلطين" (افعل ذلك لأنني أقول ذلك), و "المتساهلين" )افعل كل ما تريد). وقد أظهرت دراسة استمرت عقدين أن الآباء الحازمين من المرجح أن يكون لهم أبناء أسوياء, قانعون, منضبطون, ويعتمدون على أنفسهم.

إن الآباء الحازمين ليسوا دكتاتوريين, بل إن شغلهم الشاغل هو أولادهم, كيف حالهم في المدرسة ومَن هم أصدقاؤهم. واهتمامهم هذا يعكس مستوى رفيعاً من الالتزام تجاه الابن, وهم أيضاً ليسوا خائفين من مجابهة هذا الابن.

وفي النهاية, يجب أن ننتبه إلى أهمية الوقت, فعامل الوقت عامل ضروري لنحب الطفل, بل لملء قلبه بالمحبة, محبة لا توزن ولا تقاس ولا توزع حصصاً, بل بمحبة فيّاضة, بلا تمييز. وعلماء نفس الطفل الذين يتجادلون حول التغذية المبرمجة أو التغذية حسب الطلب, التعليم في سن مبكرة أو في السن التقليدية, وجدوا أن ذلك كله لا يصنع فرقاً كبيراً مادام الطفل يُحب.

 

نجمة موسى

 
 








إعراب الآباء عن محبتهم لأطفالهم أمر شديد الضرورة





على الأسرة أن تعمل كي تملأ قلب الطفل بالمحبة