أرقام

أرقام

المستقبل.. صناعة محلية

بعيدا عن قارئة الفنجان فليس هناك للبشرية مستقبل واحد.. هناك مستقبلات بديلة, سواء بالنسبة للعالم, أو بالنسبة لوطننا العربي.

صحيح أن المستقبل كثيرا ما يكون "تابعا لما قبله".. فيأتي استطرادا وفي خطوط مستقيمة لما هو قائم.. ولكن, وعبر عمليات تدخل إرادية.. وعبر إدارة مختلفة يتغير الواقع, تماما كما تغير مجرى نهر النيل حين اعترض سد عال المجرى العتيق فتنحى النهر جانبا ليأخذ مسارا آخر.

إنها عملية الإرادة والإدارة فكيف تكون في واقعنا العربي?

تقول دراسة أخيرة للبنك الدولي إن "لدى بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا امكانات لمضاعفة دخولها, وزيادة متوسـط العمر المتوقع عند الولادة بنحو عشر سنوات كاملة".. يمكـنها أيضا "تخفيض معدلات الأمية ووفيات الأطفال بحوالي النصف".. ذلك حتى عام "2010", بالمعيارين معا: التنمية الاقتصادية والتنـمية البشرية.

وما جاء في التقـرير والذي يحمل اسم "من أجل مستقبل أفضـل: اختيار الازدهـار في الشرق الأوسط وشمال افريقيا", ليس وصـفة سحرية, لكنه دراسة علمية قام بها فريق عمل واسـع تحت إشراف نائبة رئيس البنك د. نعمت شفيق التي تعرف الواقع العربي جيدا بحكم انتمائها العربي.

الفرص الضائعة

تبدأ الدراسة من خبرة الماضي والتي تضم انجازا هائلا بين عامي "1960 ـ 1985" كما تضم فرصا ضائعة فيما تبقى من القرن.

في الفترة الأولى فاق أداء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا جميع مناطق العالم الأخرى ما عدا شرق آسيا, وذلك من حيث نمو الدخل وعدالة توزيعه. كانت المكاسب الاجتماعية ـ كما تقول الدراسة ـ كبيرة للغاية فقد انخفضت معدلات وفيات الأطفال في المنطقة بأكثر من النصف, وارتفع متوسط العمر المتوقع عند الولادة بأكثر من عشر سنوات, وقفز معدل الالتحاق بالمدارس الإبتدائية من "61" بالمائة في سنة "1965" إلى "98" بالمائة عام 1991, كما تحسنت مستويات التعليم بشكل عام, وانخفضت أعداد الفقراء الذين يعيشون بأقل من دولار في اليوم "وهم ذوو الفقر المدقع".. انخفضت بحلول عام "1990" إلى "5,6" بالمائة في مقابل ما يقرب من "15%" في شرق آسيا و"29%" في أمريكا اللاتينية.

كنا أحسن حالا, فماذا جرى?

انخفضت أسعار النفط, وانخفضت إنتاجية المشتغل وتلقى الاقتصاد العربي صدمات أسفرت وفيما بعد "1986" عن انخفاض متوسط دخل الفرد بنسبة "2%", وهو أكبر انخفاض في أي منطقة نائية.. وقد بلغ الانخفاض ضعف هذه النسبة في دول النفط, لكن الدول الأخرى أيضا لم تنج من التراجع.. تراجع في النمو والاستثمار, والقدرة على تشغيل اليد العاملة.

وقد نختلف أو نتفق مع ما جاء في الدراسة من تحليل للأسباب, فبينما تشيد بنتائج حقبة سابقة شهدت قدرا كبيرا من تدخل الدولة واتساع القطاع العام, فإنها ـ أي الدراسة ـ تضع القطاع العام واستثماراته كسبب من أسباب التراجع.

والأسباب بعد ذلك متعددة: تنمية مهارات بشرية غير ملائمة لأوضاع سوق العمل, وضعف المنافسة, والاعتماد على إيرادات النفط في تأجيل الإصلاحات المطلوبة.. أما الأمثلة فهي كثيرة وتأتي من بلدان مختلفة بينها إيران التي تدخل ـ طبقا للتعريف ـ في منطقة الشرق الأوسط.

حدث كل ذلك وتراجعت اقتصاديات المنطقة لكن متغيرين قد حدثا وهما: بدء تطبيق برامج للإصلاح الاقتصادي أتاحت انفتاحا أكبر على الأسواق الخارجية وتزايدا لأهمية القطاع الخاص.. ثم زيادة أسعار النفط في نهاية حقبة التسعينيات, فإذا أضيفت زيادة المطالبة بأهمية التغيير فإن فرصة العمل من أجل مستقبل أكثر ازدهارا.. باتت قائمة يساعد عليها الوعي بالأزمة, كما يساعد عليها توافر رأسمال عربي في الخارج مقداره "350" مليار دولار, ويمكن اجتذابه.. وذلك بالإضافة لمجموعة من السياسات التي تطلق الاقتصاد العربي من عقاله.

ويتصور خبراء البنك الدولي مجموعة السياسات التي تصنع التقدم. فأولها: تحرير التجارة وفتح الأسواق, فالتحرير يتيح فرصة للمنافسة والاحتكاك العالمي مما يشجع الاستثمارات المحلية والأجنبية على السواء.

النقطة الثانية: بيئة استثمار عالي العائد وسريع الحركة, وذلك بإزالة القيود البيروقراطية وتشجيع المنافسة في القطاع المالي لتخفيض تكلفة التمويل وخفض تكلفة الأعمال عن طريق خصخصة البنية الأساسية.. ودفاعا عن هذه السياسة تقول الدراسة إن تخلف الاستثمار في المنطقة قد حدث نتيجة لأن بيئة الأعمال تعاني من وطأة اللوائح التنظيمية المقيدة, وبطء الخصخصة, وضعف البنية الأساسية, وتخلف أسواق المال وتضرب الدراسة أمثلة عديدة. ففي المغرب ـ ورغم تحرير أنظمة الاستثمار ـ يحتاج تسجيل مشروع ما, إلى عشرين وثيقة ويستغرق ستة أشهر ويعجز "34" بالمائة من المستثمرين في تونس عن إجراء اتصال تليفوني.. وترتفع النسبة لسوء الخدمة التليفونية إلى "46" بالمائة في اليمن و"50" بالمائة في لبنان و"60" بالمائة في الأردن طبقا للموقف في منتصف التسعينيات.

تطوير بيئة الاستثمار إذن قضية أساسية, يليها ـ كمحدد ثالث للتقدم من وجهة نظر البنك الدولي ـ "وضع برامج نشطة للخصخصة تحت إدارة مركزية بقيادة أحد أنصار الخصخصة من ذوي المستوى الرفيع, مع توفير الشفافية في عمليات بيع القطاع العام, ومكافأة المديرين طبقا لإنجازهم في هذا المجال".

وتمضي الوصايا العشر للبنك الدولي: افتحوا مجال الاستثمار الأجنبي, ووفروا تعليما وتدريبا أكثر ملاءمة لسوق العمل, واستخدموا الموارد الطبيعية بشكل أفضل يضمن استمرارها.. وذلك بإزالة ما تبقى من دعم لأسعار الطاقة والمياه والخدمات البيئية مثل الصرف الصحي.

وكل ذلك في ظل سياسة لتخفيض أعداد الفقراء بشكل مباشر أو غير مباشر, بخلق فرص عمل, أو بتحويلات نقدية للفقراء المزمنين, ويمكن أن نعلم أن الانتقال من نسبة نمو "صفر" إلى نسبة نمو واحد بالمائة يعني تناقص عدد الفقراء بمقدار "8" ملايين نسمة.. والعكس إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه فإن عدد الفقراء فقرا مطلقا في المنطقة سوف يزيد بمقدار "15" مليون نسمة عام "2010".

هذه هي معالم مرحلة الانتقال إلى الازدهار الذي يتصور البنك الدولي أن يحدث في تاريخ قريب هو نهاية الحقبة الأولى من القرن الحادي والعشرين.

فهناك الخاسرون بسبب تغيير السياسات "ومنهم موظفو القطاع العام والحاصلون على دعم لا يستحقونه والمنتجون الذين يكسبون من سوق مغلقة".. وهناك بالضرورة التضحية بنسبة الاستهلاك لتتجه النقود للاستثمار.

والديموقراطية أيضا

هكذا ينظر الاقتصاديون للأمور: استهلاك أقل, واستثمار أكثر, وتطوير للقوى البشرية, وتنافس يصنعه القطاع الخاص, وحفاظ على الثروات الطبيعية.

ولكن, ونحن ننظر للمستقبل العربي, أو المستقبلات البديلة وبعيدا عن دراسة البنك الدولي فإن هناك ثورات ثلاثا تؤثر في السياسات المرغوبة والنتائج المتوقعة.

الدخل يمكن أن يتضاعف, ولكن ليس بحشد الاستثمارات فقط, وإنما باختيار نوعية ومجال الاستثمار, فإذا كان العلماء يقولون إننا أمام قرن "البيولوجيا" والتي تضاعف فيها الهندسة الوراثية إنتاج النبات والحيوان وتغير مواصفات الإنسان, بل إنها قد تضاعف متوسط العمر ليفوق المائة في هذا القرن.. إذا كان الأمر كذلك فإن دخول العرب عصر العلم بهذا المفهوم واتصالهم بالعالم ليغترفوا من الجديد والمستحدث.. كل ذلك يعني نقلة نوعية في الإنتاج والدخل والعمالة والبطالة وسائر شئون الإنسان العربي.

أيضا, إذا كانت الثورة المعرفية وتطور تكنولوجيا الاتصال أداة تحريك الاقتصاد حتى بات الكمبيوتر أهم من مصنع للحديد والصلب.. إذا كانت هذه الثورة تحكم تقدم العالم.. فما هو نصيبنا منها?

ويكتمل مثلث الثورات بما يمكن أن نسميه "ثورة الديموقراطية", وهي ليست علامة من علامات التطور والرقي وحقوق الإنسان فقط لكنها أيضا ضرورة اقتصادية.. فالشفافية هي التي تتيح المحاسبة كما تتيح المنافسة المشروعة وتوفر بيئة جيدة للاستثمار.. والمواطن المنتج هو من يشارك ويتمتع بالحرية.. وفي بلادنا لابد أن نسأل "من يتخذ القرار في المجتمع..?" لنحدد "من يصنع المستقبل?".

محور التغيير إذن ـ ورغم كل الاعتبارات الاقتصادية وهي صحيحة ـ محور سياسي.. فإذا توافرت الإرادة للتغيير, فسوف تبقى قضية إدارة الأوطان هي حجر الزاوية وهي التي تحدد: نكون.. أو لا نكون?.. ذلك إذا أردنا أن يكون المستقبل صناعة محلية وليس زورقا في مهب رياح عالمية عاتية.

 

محمود المراغي