جمال العربية
جمال العربية
البداية الحقيقية لقصيدة الشعر الجديد في مصر قبل أن يبدع الشاعر صلاح عبدالصبور قصيدته "شنق زهران" وينشرها في عام 1954 لأول مرة على صفحات جريدة المصري, كان الشاعر والكاتب عبدالرحمن الشرقاوي قد سبقه بعدة سنوات إلى كتابة قصيدته "من أب مصري إلى الرئيس ترومان". كانت السنوات الأخيرة من أربعينيات القرن العشرين والسنوات الأولى من خمسينياته تشهد مخاضا هائلا يبشر بميلاد قصيدة الشعر الجديد أو قصيدة الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة. المسميات الثلاثة صالحة للاستخدام في هذا المجال ولكل منها ما يبرره. كانت معركة الجديد تشتعل في كل مكان, وفي العراق كانت "نازك الملائكة" و"بدر شاكر السياب" "وعبدالوهاب البياتي" و"بلند الحيدري" يخوضون معركة البداية, وصدمة التجديد الشعري الذي سيؤثر أصحابه بعد ذلك استخدام مصطلح الحداثة الشعرية بدلا منه. كانت قصيدة عبدالرحمن الشرقاوي تستقطر كل ما سبقها من محاولات تجديدية في مصر بحثا عن الصيغة والقالب, كانت أقربها جميعا إلى ما نسميه اليوم قصيدة الشعر الجديد, لكنها لم تكن طلقة البداية التي تعلن عن الميلاد بصورة حاسمة مؤكدة. صحيح أنها امتلأت بالجرأة والإنسيابية والتدفق في غزارة وسهولة, دون عوائق لغوية أو سدود تحدثها القافية, لكنها امتلأت بالخطابية والمباشرة في عديد من المقاطع, وجاء طولها الكبير مفتتا لتركيزها الشعري ومذوبا لكيميائها الشعورية, فجنى عليها بدلا من أن يمنحها إحكام التجويد واكتمال الاستدارة وتوقع الخاتمة ـ كما كان يقول القدماء ـ عن وعي واستنارة حقيقية. من هناك كانت قصيدة "شنق زهران" للشاعر الشاب في وقتها ـ الذي لم يكن قد تجاوز عامه الثاني والعشرين ـ القصيدة الأكثر تبشيرا بميلاد حركة الشعر الجديد في مصر ـ بالرغم من سبق قصيدة الشرقاوي في الزمن ـ وسرعان ما أصبحت شنق زهران طلقة البداية في عالم شعري حافل صاحبه منذور لإنجازه, ولحياة شعرية حافلة سيتبارى في ملئها الشعراء المجايلون لصلاح والقادمون من بعده على الطريق. ينجح صلاح عبدالصبور في التقاط وجه من وجوه فلاحي مأساة دنشواي ـ ودنشواي كما تقول الموسوعة العربية الميسرة "بلدة في مصر السفلى بمحافظة المنوفية من أعمال مركز تلا, وقع بها حادث مهم في يوم الأربعاء 13 يونيو 1906 عندما قدم خمسة من الضباط الإنجليز إلى دنشواي لصيد الحمام, فأصيب برصاصهم بعض الأهلين, ومن ثم هوجم الضباط, فأصيب بعضهم ومات أحدهم. ثار المعتمد البريطاني لورد كرومر وعقدت محاكمة خاصة لمحاكمة المصريين فقضت بإعدام أربعة من الأهالي وجلد وحبس ثمانية منهم, ونفذ الإعدام والجلد في دنشواي علنا. كان في ذلك الحكم وتنفيذه ما أثار الرأي العام". ما لم تذكره الموسوعة أن رصاص الإنجليز الذين قدموا لصيد الحمام تساقط على جرن القمح الذي جمع فيه الفلاحون محصولهم فأحرقه, وأن الضابط الإنجليزي الذي مات, مات بضربة شمس أصابته وهو يلوذ بالفرار من غضب الفلاحين بعد أن رأوا محصول عام من التعب والعناء يحترق في لحظات. وأن الحادثة وما أعقبها كانت مادة لحملة ضارية على الاستعمار وجنوده ومعتمده قام بها الزعيم الوطني الشاب مصطفى كامل في مصر وأوربا انتهت بإخراج كرومر من مصر. لم تمر حادثة دنشواي من غير أن تنكأ جروحا عميقة في الوجدان الشعبي. صاغ فيها الشاعر الشعبي المواويل الحزينة وحول وجوه فلاحيها إلى نماذج للبطولة والتضحية والموت دون ذنب جنوه, وبدأت الحكايات الشعبية تنسج خيوطها من مادة شديدة الخصوبة والإنسانية تغري بالإضافة والتعديل وتستهوي المزيد من المنشدين والقوالين. من بين هذه الوجوه التقط صلاح عبدالصبور وجه زهران. هل هو وجه حقيقي? وهل عنيت بذكره الحكايات والمواويل? أغلن الظن أنه من صنع صلاح وإبداعه. واختياره لاسم زهران يشي منذ البداية بحرصه على أن يربط بينه وبين الحياة والنضارة والازدهار والإشراق. ليس مهما الآن أن يكون زهران فلاحا حقيقيا أو لا يكون. المهم أنه أصبح في قصيدة الشاعر البارع الرسم والتصوير وإبداع الملامح والعلامات والسمات شخصية تضج بالحياة, وتتوهج بالمصرية والبطولة, بالمحبة والسلام: كان زهران غلاماً غامر صلاح عبدالصبور مستفيدا من التقنية السينمائية فاستهل قصيدته بخاتمتها المأساوية, التي تتصاعد مقاطع القصيدة في اتجاه بلورتها وتأكيدها, كاشفا عن نهاية الحدث, وقاطعا الطريق على ما يمكن أن يعتبر تشويقا أو جاذبية مرتبطة بالسياق. غامر معتمدا على فنه وحده, ليبدأ بعد مقطع الخاتمة في سرد الحدث من بدايته, خطوة خطوة ومرحلة بعد مرحلة, ميلاد زهران حاملا على الصوغ حمامة ـ رمزا للسلام والموادعة, وعلى الزند أبوزيد سلامة رمزا للبطولة والرجولة, ثم وهو يشب فتى قويا خفيفا أليفا, ضحاكا ولوعا بالغناء وسماع الشعر, يبحث عن حب ويتوق لقلب يشاركه رحلة الحياة, ثم حين يواجه زهران حريقا يلتهم الحقل والمحصول والأطفال. يمد كفيه إلى السماء داعيا يسأل اللطف, دون أن يفكر في رد العدوان بالعدوان, والأذى بالأذى. إنه ـ في كل مراحل حياته ومواقفه ـ صديق للحياة, مُسالم, كاره للشر والإيذاء والعنف, لكن هذا كله لم يجنبه النهاية المحتومة, عندما تدلى رأسه الوديع على يدي "مسرور" السياف الذي يخرجه صلاح عبدالصبور من عالم "ألف ليلة وليلة" ويضعه إلى جوار صورة النطع على السكة, والغيلان ـ جنود الاستعمار ـ يلتفون من حوله وكأنهم يرقصون رقصة الموت, على أرواح الضحايا والشهداء من أبناء دنشواي. إلى أي حد أفاد صلاح عبدالصبور من لغة القوالين وفن الشاعر الشعبي في السرد الشعري لحادثة دنشواي والتصوير الشعري السينمائي لمصرع زهران? لابد أنه استوعب روح هذا الموروث الشعبي, لغة وسردا ونفسا شعريا. ومن المؤكد أنه تقمص حال الشاعر الشعبي وهو يكرر هذه اللازمة أو "التيمة" الشعبية: كان يا ماكان.. أن زفت لزهران جميلة هذا التكرار الحكائي, اقتباسا من سرديات السير الشعبية, صعودا ـ في مراقي العاطفة والانفعال ـ إلى التكرار البلاغي بقصد تركيز الانتباه عند كلمة "قريتي" التي سيعطيها الوعي بالرمز مساحة أكبر من مدلولها الواقعي لتصبح هي الوطن بأكمله وهو يقول: قريتي من يومها لم تأتدم إلا الدموع وينتقل التكرار إلى مركز بلاغي آخر هو مناط الإشعاع والتدفق الشعوري في ختام السطور الأربعة الأخرى من القصيدة, وهو يكرر كلمة "الحياة" التي فجرتها حادثة دنشواي في وجدان الشعب كله. إنه أسلوب الأداء الشفاهي الذي يجيده الشاعر أو الراوي الشعبي, فيؤكد بالتكرار كل كلمة ومعنى ودلالة ـ في غيبة النص المدون ـ حتى يتيح للمتلقي تمام الوعي عمق التأثر واكتمال المشاركة. يقول صلاح عبدالصبور في قصيدته "شنق زهران": ........................
|