فخار (أسفي).. فخار المغرب

"رأيت البارحة في البازار خزفيا يعد عجينة الطين بحدة فقالت الطين بلغتها المطلقة: زمان، كنت أتمتع بحياة مثلك! فكن لطيفا معى... وعاملنى برفق"

حين تحط في أي ميناء أو"مطـار، في المملكـة المغـربيـة ستـلاحظ أن منتوجـات الصنـاعة اليـدوية التقليدية: هي أول مـا تقع عليه عينـاك، بك أول من يستقبلك ويصـافحك! وستجـد أن صناعة الخزف والفخـار من أبـرز هذه الفنـون الحرفيـة التقليدية، وأكثرها جمالا وأصـالة وعراقة. ذلك أن هذه الصناعة التقليديـة الشهيرة: كانت حـاضرة في المغرب منذ عصر الفينيقيين، وهي حقيقة تؤكدهـا الآثار والمقتنيات الفخارية الكائنة في المتاحف المغربية والعالميـة. والحق أن مدينة آسفي الواقعة على المحيط الأطلسي في الجنـوب المغـربي، تعلن عن حضـورها الإبداعـي بصيغ فنية وتقنيـة مترعة بـالجـمال والسحر اللافت لأنظـار الزوار من السيـاح وأهل البـلاد أنفسهم! كـما أن هذا الحضـور متواصل ومتـواتـر وموغل في العراقـة والقـدم. حيث يتوارثه أجيـال الحرفيين خلفا عن سلف منـذ مئات السنين إلى يـومنا هذا... وإلى ما شاء الله سبحانه وتعالى.

و "مولاي أحمد السرغيني" السفير الحضـاري للمغرب: يعد من أبرز وأشهر المبدعين لفن وصناعة الخزف والفخـار في المملكـة. ذلك أن أسرته تعمل في هذه الحرفة من مئـات السنين. و"مولاي أحمد" نفسـه ينتمي إلى الجيل السابع في الأسرة الـذي مازال يبدع في مهنة الفخار والخزف.

وأسرة "السرغيني" فـاسيـة الأصل والمنبت، وثمـة العديد من أفـرادها مازالوا يقطنون مدينة "فاس"، ومازال البعض منهم يعمل في حـرفة صناعة الفخار، مثل أولاد عمومتهم الذين يقطنون مدينة "آسفي" التي تبعـد مـائة وخمسين كلم عن مـدينة مـراكش، التي هاجروا إليها منذ مائتي سنة.

عناق الصلصال

وفي المحترف الخاص بالفنان المبدع "مولاي أحمد السر غيني" لاحظت أنه يعانق الصلصال بعينيـه بل بكل جوارحه. ويداعبه بأنامله و"يدغدغه" ويهدهده بيديـه حتى يتخلق ويتشكل وتدب فيـه "حياة" الإبداع الفني المثير لـلإعجاب والدهشـة. وقد لفت انتباهي بحق تلك العلاقة الحميمـة التي تربط بين الفنان المبـدع والطين موضوع تشكيلـه وإنتاجه. ولعلي لا أغالي إذا وسمـت هذه العلاقـة بـالحب الشديد! والذي تصل درجته وحرارته إلى حد الوله والصبابـة والتشبب! الأمر الذي يحرضنا على القول بأن صاحبنا مفتون به بشدة إلا أن هذه الفتنة صحية إيجابية تحرضه على الإتقان والتجويد وتجاوز الذات المبدعة على الدوام.

ومن هنا فإنه حين كان يحدثني عن حرفته وإبداعه فيها... كنت أشعر بأنه يتدله بحب غزالة تبارك الخالق في سحـرها وجمالها وبركتهـا وأريج عطرها وجسمها اللدن النـاعم... ولولا معـرفتي بأن الأخ مولاي أحمد السرغينى إنسان تقي ورع لظننت - آثما - بأنه مفتون متيم كـما اشهر العشاق في التاريخ (قيس وليلى، عنتر وعبله، كثير وعزة، فضلا عن الخواجة رميو وحبيبته جـولييـت)... وغيرهم كثر، وكأن الفنان المبدع أشهرهم ويفوقهم عشقا وصبابة. على الرغم من ان حبيبتـه هي عجينة الفخـار! أي أنها "مادة" بلا "روح" وتخلو من الصفات الإنسانية. وهذا تقرير لا نجـادل فيـه لبديهيتـه... إلا أن هذه العجينة تتحول وهي بين يدي الفنان إلى فن جميل مدهش لـه معنى وغرض وفـائدة! ذلك أن الفن التشكيلي في الثقافة الإسلامية ليس معـزولا عن الحياة الاجتماعيـة، بدون أن تتخاصم وتتصـادم هذه الصلة مع الفن ومقتضياته.

وفي الوقت الذي نجد فيه الفنان "السرغيني" مغرم صبابة بحرفته الجميلـة، منـذ أن كان في الثامنة من عمره.. نجد أن عيالـه وأطفال وشباب الأسرة معنيون بدراستهم وحياتهم اليومية بكـل ما فيها من هوايات ومشاغل. ولا يبدو عليهـم الاهتمام أو الرغبة في تعليم صنعة الأجداد، ربما لاعتقاد آبائهم بأنها مهنة صعبة وشاقة لا يقدر على تحمل تعبها وتبعاتها شباب هذه الأيام، اللهم إلا إذا وقع أحـدهم في شباك فتنتها، مثلما حـدث مع أخينـا "مـولاي أحمد السرغيني" حين كـان طفلا، زد على ذلك الإحساس العـام بأن "الميكنـة" والآلات الحديثـة آتيـة إلى "تل الفخـار" حيث معقل الصنعة، وأنها في سبيلها إلى الحلول مكـان الإنسبان كـما حدث في جل مصانع الفخار والخزف في العالم!.

الرجل والمدينة

ومولاي أحمد السرغيني يمثل الجيل السابع باقتدار وجدارة، يشهد لهما زوار ومدينة آسفي الذين يؤمونها - بداية - بدافع اقتنـاء منتوجـاته، وبغرض الاستمتاع بمشاهـدة معروضاتـه المدهشة، التي يزخـر بها متحفه الخاص ومعارضـه التجـارية ومنزلـه. فضلا عن مشاركته الفاعلة في الأنشطـة والتظاهرات الثقافيـة المغربية الدولية.

ولعلي لا أغالي إذا ذكرت بأن مدينـة آسفي ذات الماضي العريق، كان يمكـن أن يطويها النسيان ولا يـذكـرهـا ويتذكـرها سوى البحاثة في التـاريخ والجغرافيا والآثار القديمة... بعبارة أخرى أقول: إن مبدعي صناعة الفخـار السفياني جعلوها حاضرة في الحياة اليومية، بعدما كانت مـدينة تعيش على الماضي المجيد، حين كانت مدينة مراكش عاصمة للمغرب، وكانت مدينة آسفي الواقعة غربي المملكة على المحيط الأطلسي آنـذاك مينـاء رائجـا بحكـم قـربها من العاصمة.

والحق أن الحديث عن مـدينـة آسفي يستـدعي بالضرورة الحديث عن رائد صناعة الفخـار الفنان المعلم "أحمد السرغيني" لأن إبـداعه نفض عنها غبار النسيان، وصارت محجة لمريدي عجينة طين الفخار، التي تتحول بين يدي الصانع الفنان إلى أشكال إبداعية ذات وظيفـة وفـائدة. ذلك أن الأدوات والأواني الفخارية مازالت حـاضرة في الحياة اليـومية المغربية. فتراها تتصدر جهاز العروس... وتجدها - يوم الجمعة - تعمربـ "الكوسكوس" أو "الطاجن" وغيرهما.

صحيح أن العديد من مقتني الفخـاريات في زماننا، يشترونها كأداة تجميل و"ديكـور" يـزوق بها المكـان ويضفي عليـه بهاء وسحـرا، إلا أن ذلك لا يعني أنها صنعت لهذه الغاية الجمالية. فالزير وقلة الماء و"البرمة" وغيرها من الأدوات الفخـارية لاتزال موجـودة في مجتمعات الفلاحـين في المشرق العربي، لكنها توارت واندثرت عن الحضور في المجتمعات المدنية الحضرية، بسبب سيـادة القيم الاستهـلاكيـة المتكالبة على أداة وجهاز ينتسبان إلى العصر الحديث ومنجزاته.

إن صناعة الفخـار في المجتمعـات الإسلاميـة لم يبدعها فنان هذه الحرفة التقليدية لغاية جميلة حسب ظني. صحيح أن المنتـوجات الفخـارية معجـونة بطين الإبداع والفن الجميل إلا أنها صنعـت لأداء وظيفة من مهام الحياة اليومية: كأن تكون وسيلة لتخـزين وتبريد الماء مثل (القلة والبرمة والزير) وكلها مكرسة لماء الشرب داخل المسـاجد والمنازل والشوارع والميادين العامة والأسبلـة والأسواق الشعبية والحـمامات العامة وكل مكان يمر ويتجمع به الناس.

أي أن كل نتاج الفخـارين صنع - بداية - لغرض ولـه وظيفـة. وبهذا المعنى فـإن التشكيل والجـمال والتزويق الكامن فيه يتناغم مع هـذه الوظيفـة وفي خـدمتهـا، ولعل هـذا المنحى التقليدي هـو سبب تواصل واستمرار وازدهـار الصناعة التقليـديـة للفخارين. لكن السـؤال الذي يطرح نفسه هنـا هو: إلى متى يستمـر مبـدع الفخـاريـات في استخـدام الأدوات والعدة والتقنية القديمة التقليدية؟ سيما أن الصناعة القديمة للفخـار تجابه تحديات "الميكنـة" والتحـديث في الصنعة. والتقنية، ولا تـوفر شيئا أو أحـدا. والسؤال السـالف لم يطرح في الهواء بل على مسامـع الفنان المبدع "مولاي أحمد السرغيني" حـين كنا بمعيته في محترفه العريق بتل الفخارين قبل إجابته عن السـؤال، أطلق تنهيدة عميقة طافحة بـالشجن النبيل، ومن ثم قـال: أحسبك عـانيت وعـايشت بنفسك كـم هي شاقة ومرهقـة عملية صناعة الفخار وفق الأساليب القديمـة والأدوات التقليدية العتيقة. ويستطرد قـائلا: إن الفخـارين في جل بـلاد العالم، هجروا العدة التقليدية، وحلت الآلة الحديثة محلها! والأسف الشديـد صـارت الصنعة التقليـدية الأصيلة العريقـة آلية صرفـة! مثلها مثل أي سلعـة استهلاكية حديثـة خـارجـة من رحم المصنع الآلي الحديث! أقول هذه الحقيقة المرة العلقمية وأنـا أكاد أغص بها، إلا أن مشاعري وعواطفي وتوحـدي بـالحرفـة التقليدية وعدتها القـديمة، لم تمنعني من إدراك وحـدس واستشراف مستقبل الصناعـات التقليدية. إذ إنني أعتقد أن صناعة الفخار- وغيرها من الصناعات التقليدية - ستكون بمنأى عن هجمة الآلة مادامت الدولة ترعاها وتحتفل بها وتحميها من كل ما يشينها ويشوهها. ومن هنا تجد في المحترف هنـا أعدادا من العمال الفنيين من الجنسين الـذين يتـدربون على اكتساب تقنيات ومهارات الصنعة. تماما كـما تعلمتها حينما كنت في الثامنة من عمري كـما ذكرت آنفا. الأمر الذي يشي بأني رضعت حب هذه المهنـة منذ طفولتي الأولى... فحين كنت أعود من مدرستي الابتدائيـة أبادر فورا بتغيير زي المدرسة، ومن ثم أهـرع إلى هضبة الفخـارين حيث محترف الأسرة. وكان "السرغيني" شغـوفا بعجينة الفخار، ولم يكن يأبه باللعب مع أقرانه الصغار كـما هو متوقع لمن كان في مثل سنه، إلى درجـة أنـه لم يهتم بإنهاء دراسته الثانوية، مفضلا عليها "أكاديميـة تل الفخـارين" والتثقيف الذاتي، ومدرسة الحياة المتكئة على الاكتسـاب والتجربة والمعرفـة العميقة الواسعة بدون حد ولا حدود! ويستطرد مولاي أحمد السرغيني في حديثه فيقول: في البداية رفـض والدي رحمه الله وغفـر لـه طـلاقـي البـائن من الدراسة، ورغبتي في تعلم مهنـة الأجداد، لكنه اضطر إلى الإذعان حين لاحظ عنادي وإصراري على المهنة. ولعله - رحمه اللـه - كـان يـرغب في تأمين مستقبلي بـالعلم والمعـرفـة، لخشيتـه مـن بـوار الصنـاعـات التقليديـة وقلـة انتشارها. لكن النجاح الجماهيري والفني الكـامن في إبداع مولاي أحمد بز وفاق أي تصور. حسبه أنه الآن أصبح رائد صنـاع الفخـار، والمعلم الفنان الذي يمثل المملكة المغربية الشقيقة، في المهرجانات والمعارض والمناسبات الثقافية التي تقام خارج المغرب على المستويين الإقليمي والدولي على حد سواء. ونال إبداعه المدهش: في الفخـار الجوائز والإعجاب في كل مكـان يعرض فيه أعماله الفخـارية. وهذه الخطوة التي يحظى بها لم تكن وليدة حظ أو مصادفة... بل إنها كـانت مسبوقـة ومتصلة بمعرفـة تقنيات وأسرار هذه المهنة اليدوية التقليدية الشاقة، التي يمارسها كـما ورثها عن أجداده ومعلميه، وتعلمها منهم في محترف السرغيني في تل الفخـارين بمدينـة آسفي. فضلا عن إثرائه لمعرفته وخبرته بالاطلاع على تقنيات الأوربيين في صناعة الفخـار، وتدربه عليها وإتقانه لها، واختياره المناسب منها، دون تخليه أو تنازله عن إرث الأجداد الأصيل الغني المتنوع.

على الرغم من أن "مولاي أحمد السرغيني" متفـائل بمستقبل صنـاعة الفخـار في المملكة المغربيـة، إلا أن استشرافه السالف الـذكر لم يمنعني من أن أدحرج على مسامعه القول: بأني أخشى أن يكـون هـو ذاته آخـر الفخـاريين التقليديين في جيله! ذلك أن الصناعات التقليدية في المشرق العربي أصبحت "مفـبركة" تصنعها الآلة الحديثـة المتطورة الخاليـة من الإبداع الإنساني المدهش. ومن هنـا بت أخشى أن تنتقل العدوى من المشرق إلى المغرب... لا سمح الله!.

لكن الفنـان "السرغيني" لا يشاركني هذه الخشيـة لأن واقع الصناعات التقليدية في المغـرب لا يضـاهي واقعهـا في المشرق العربي لحسن الحظ. فهناك عناية فائقة بإعداد الأطر وتدريبها، وثمـة مـدرسـة للتـدريب على الصناعات التقليـدية في كل أقاليم المملكـة. أضف إلى ذلك كـون المنتوجـات التقليـدية مـازالت حاضرة في الحياة اليومية المغـربية، فتراهـا تستخـدم في الأكل والشرب، وتتصدر المائدة المغربية اليـومية، وتزين المنازل والـدور بالزهور والنـوافير والنباتات الخضراء، وتخزن الحبـوب والمواد الغذائية والمياه.

عاشق الفخار!

مع "تهليلـة" المؤذن التي تسبق آذان الفجـر، يفيق "مولاي أحمد السرغيني" من نومه، تعانق عيناه - بداية - مزهرية مترعة بالجمال، تتربع على طاولة بجوار سريره! يكحل عينيه بالفخاريات "السرغينيـة" التي تملأ كل دارته، يداعبهـا - وهو مار بها - بأنـامله، وكأنه يسمعها منولوج الحب الذي يبـدأ به نهاره! وسط فخـارياته الغالية الأثيرة إلى نفسه، يتربع الفنان على الكـرسي، ويشرع في تـلاوة القرآن الكـريم إلى حين موعد الصلاة.

إن زائر دارتـه الجميلة الواقعـة في إحدى ضواحي مدينة آسفي، يخيل إليـه أنه في داخل متحف إسلامي لمنتـوجـات الخزف والفخـار. إذ حـرص الحاج "السرغيني" على أن يحتفظ بتراث الآبـاء والأجـداد داخل داره ليتنسـم أريجه العطـر في كل حـين. في تمام الساعة السابعة صباحـا يمتطي سيارته ميمما صوب محترفه في "تل الفخارين" حيث يمارس غيته وهوايتـه وحواره الخلاق مع الطين!.

والحق أن علاقته بعجينة الفخار - كـما نـوهت آنفا - مشبوبة بالعشق المحـرض على الإبداع المتقن. ولو أتيح لك تأمل الفنان في ساعات التشكيل والإبداع لحسبته يغازل حليلته، ويدغدغها بأنامله، ويحتويها بجوارحه! ومن هنـا أحسبني لا أجـافي الحقيقـة إذا زعمت بأن زوجته "تغار" من هذه العلاقة المشبوبة! وربما تعد طين الفخار ضرتها وشريكتها التي تشاركها في بعلها! ولا عجب من هـذه الغيرة... إن وجـدت. ذلك أن الضرة الفخارية تستحوذ على جل وقته واهتمامه، تماما كـما لو أن الفخار إنسانة من لحم ودم ومشاعر، كـأنها مخلوق بشري ينبض بالحياة والحركة والأحـاسيس! ولذا لا عجب إذا وجـدت صاحبنـا، حـين يكـون في حضرة الفخار أثناء عملية الإبداع، كأنه في حالة وجد صوفي مضمخة بكل طقوسه! ويبدو لي أن التواصل بين الفنان وموضوعاته التشكيلية الإبـداعية يصل إلى حد التوحد معها. ولا أحسب هذا التوحد يضير أهله أو يستثير أي مشاعر سلبيـة تجاهـه. صحيح أنـه يعبر عن اشتئثار بـالبعل الفنان. إلا أن الزوجـة تجد عزاء لكون بعلهـا يقوم بسفارة حضارية للملكة المغربية من خلال إبداعه بفن صناعة الفخار. وقـد اعتاد الفنان "السرغيني" على أن يتربع على كرسي خيزران صغير الحجم ليكـون قبالة إبداعه الفخاري الجديد. بلمسات رشيقة يرسم الشكل الذي يزوق به الفخار، مستعينا بمسطرة هندسية وقلم رصاص وبعينين تومضان حبا للفخار! وفي دقائق قليلة تدب الحياة التشكيليـة في عجينـة طين الفخار. وعادة فإن صاحبنا يمارس فعله الإبداعي باستغراق تام يشبه الصلاة. فتراه يلوذ بالصمت، فـلا ينبس ببنت شفه. هكذا يبدو لرائيه من الخارج. والحق أن صمته يشي بأنه في حالة "حوار" مع موضوعه الإبداعي، وان بدا لنا من الخارج والسطح عكس ذلك! ذلك أن تـواصل الفنان المبدع مع موضوعاته الفخارية موصول على الدوام في كل مكان وحين، يحدث داخل بيتـه ومحترفه ومعرضه ومتحفه، وأثناء جولاته الثقـافيـة لعواصم وحواضر العالم مشاركا في المعارض والمهرجـانات الفنية والثقافية كسفير حضاري للمملكة المغربيـة! ولعل علاقة العشق التي تربط بين الفنان وإبداعه، تفسر استمرار حضور المهنة داخل أسرة السرغيني هذه المئـات من السنين.. والى ما شاء الله سبحانه وتعالى.

حضور كويتي في مدينة "آسفي"

في مطلع شهـر أغسطس.. كنت بمعيـة أسرتي متوجهين إلى عروس الجنوب المغربي مدينة "أغادير" ولأن الطريق من الدار البيضاء إلى أغادير طويل وشاق بعض الشيء.. فقـد اخترنـا التوقف بمدينة "آسفي" حيث نكون قطعنـا منتصف المسافة، وبعد أن نطعم غداءنا ونرتاح قليلاً نيمم صوب بغيتنا، ووجـدتني أسأل نفسي قائلا: أحطي مع مدينـة "آسفي" ترانزيت دائـما إن صح التعبير، ذلك أني أمر بها - عادة - مرور الكـرام! والعيب والتبعـة في هـذا التقصير يقعان على كاهل الكاتب، إذ إن آسفي حـاضرة عريقة ذات تاريخ مجيـد.. خـاصـة حـين كـانت المدينـة المرسى الخاص لمراكش العاصمة.. حاضرة البحر المحيط كـما ينوه بذلك: العـلامـة المؤرخ الأشهـر "ابن خلدون".

ويذكـر الأستـاذ محمـد بن أحمد العبـدي الكـانوني في كتـابـه القيم الموسوم بـ (آسفي ومـا إليـه قـديما وحـديثـاً) بأن آسفي واقع غـربي المغرب الأقصى على شاطئ المحيط الأطـلانتيكي، وعن لسان الـدين الخطيب ينقل مؤلف الكتـاب مقولته الغزلية قـائلا: ربـاط آسفي: لطف خفي.. ووعد وفي.. ودين ظـاهره مالكي وبـاطنـه حنفي.. ويستطرد معرجا لوضع آسفي حالية بقوله: وهي الآن تنقسم إلى قسمين: الأول قسم المدينة المسورة بالسـور البرتغالي، بين جـانبي مسيل الماء، الوارد من الناحيـة الهابط إلى البحر.. أما القسم الثاني: فهو رباط الشيـخ أبي محمد صالح الماجدي، وكان السور القديم يجمعهما والحادث البرتغالي أخرج الرباط.

ولأني زرتها وأقمت فيها مدة طويلة نسبيا، مقـارنة بالسيـاح الذين يؤمونها والذين اعتادوا تمضيـة يومي السبت والأحـد فيها، والسيـاح كلهم من الأوربيين والأمريكـان واليهود.. بخاصـة اليهود المغاربة الذين كـان عدد قاطنيهـا وفق إحصاء 1349 هـ الموافق 1931 يربو على 21253، بينما كان عـدد الأوربيين حوالي 1585 فردا، وأثناء إقامتي بفندق (سفـيرآسفي) لاحظت أن اليهود المغاربة يشغلون نصف حجـرات النزل وقـد أفـادني بعض أهالي المدينـة.. بأن اليهود يفـدون إليهـا عشيـة كل سبت قادمين مبـاشرة من إسرائيل عبر مدينة أغادير، حيث يوجد في آسفي معبديهودي (معبـد الأولياء السبعـة) وكـان المعبـد طـوال عشرات السنين الماضية خرابـة كئيبة، لكن اليهـود عمروه من جـديد، ورصفوا الطرق المؤديـة إليه والمحيطـة به، ولا عجب في فعلهم.. ولعل العجب في غيابه.. ذلك أنهم عاشـوا في حضنـه في كل العصور بأمان وسـلام حسب مـا تقتضيه القيم الإسـلامية المكرسـة لحقوق وواجبـات الذميين في بـلاد الإسلام، ومن هنا فإن اليهود في المغرب لم يتعرضوا لأي معاملة تضيرهم وتحرضهم على الهرب أو الهجـرة سرا، ولعل وجود "الملاح " حي اليهود في كـل الحواضر المغربية، التي سكنها ويسكنها اليهود، دليل حي على ما ذهبت إليه، ويلاحظ أن أحياء اليهود في المدن المغربية تجاور القصر الملكي.. دلالة على أنهم في حماية مليك البـلاد (المخـزن) وفق الاصطلاح الإسلامي الـذي لا يزال سائدا وشائعا في قاموس الحياة اليومية المغربية.

والحق أنه لو لم تكن إقـامتي بفندق سفير فربـما لم أدر بوجودهم، وفندق سفير يمثل نموذجا استثماريا تنمويا لحضور الاستثمار الكويتي المغربي في أهم المدن المغربية، ففي بدايـة السبعينيات تأسست في دولـة الكـويت المجموعـة العقارية الاستثماريـة لتسهم في المسيرة التنموية للأقطار العربية في مجال الإسكـان والسياحة والزراعة، أضف إلى ذلك مساهمة الصندوق الكويتي للتنمية والصنـدوق العربي للتنمية فضلا عن مشاركة القطاع الخاص.

وإذا عدنـا إلي المجموعة العقارية الاستثمارية نجد أنها باشرت مشـاريعها المشتركـة مع الحكـومة المغربية والقطاع الخاص بإنشاء: المجموعة الكـويتية المغربية للتنمية.. والتي عمرت فنادق متباينة المستويات في كل من المدن التالية: العاصمة الربـاط والدار البيضاء العـاصمـة الاقتصادية ومراكش عاصمة الجنوب والسياحـة والحضارة فضلا عن حـواضر القنيطرة، خـريبكـة في الأطلس المتـوسط، وطنجـة المدينـة "الكوزموبوليتانية" بشمال المغرب على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسى، زد على ذلك فنـدق سفير آسفي المذكـور آنفاً، والحق أنه يستحيل علي زيـارة المملكة المغربية بدون أن يتداعى إلى ذاكرتي الصديق أحمد علي الدعيج رحمه الله وغفر له، ليس لأنه الرئيس المؤسس للمجموعة العقارية الاستثمارية في زمن كان فيه الاستثمار في جل الـديار العربية السياحية مغامرة ومقامرة مكبلة بالقيود والروتين والعراقيل التي قد لا تحرض المستثمـر على الاستمرار، اللهم إلا إذا كـان يؤمن بجدوى وضرورة إسهام الدينار النفطي في تنمية الديار العربية.. مثل الأستاذ عبدالرحمن سالم العتيقي وزير الماليـة خـلال عقد السبعينيـات.. ومعـاونة ومرءوسه الأستاذ أحمد علي الدعيج وغيرهما كثر، ومن هنا فإنهما لم يكـونا يحفلان بالعقبات والمعوقات.. ربما لقنـاعتهما بأنـه لا يصح إلا الصحيـح، ولـو أن أي مستثمر متحمس لممارسة الاستثمار في بلاد العرب... وسمع منهـا - آنذاك: أواخر العقد السبعيني لهج وفر و"كفر" بالمبـدأ، لكن صاحبنا رحمه الله، كان عنيدا لا يخضع أو يستسلم للمعـوقات مهما كـانت وطأتها! وفي هـذا السياق أذكـر له حـوارا شائقـا اتسم بـالجرأة والصراحة بشأن العـذاب الذي كان يكـابده من بعض الدول العربية والإسلامية الصالحة والمحتاجـة إلى الاستثمار، ولولا عناده الإيجابي: فلا أحسـب أن تقوم قائمة لاستثماراتنا التنموية في قطاع السياحـة والفندقة والإسكـان.. ولما كـان "سفير" الفنـدق حاضراً البتـة سفيراً ناجحاً للتكامل العربي.

آسفي.. عاصمة الفخار!

حين سألت مبـدع الصناعة التقليدية الفخارية الحاج "مـولاي أحمد السرغيني" أحـد الـرواد المعـاصرين لهذه الحرفة الجميلـة: عن تاريخ هذه الصناعـة في آسفي، قال: إنه ليس هناك اتفاق بين المؤرخين، لكن من المرجح - إن لم أقل من المؤكد - أن صناعة الفخار عريقة عتيقة في هذه المدينة، لأن المادة الأساسية الأولية لها موجـودة على مقربة منها منذ أن صارت، سيما أن الفخـاريات من أقدم الصناعات التقليدية في العالم، وفيما يتعلق بتأريخ بـداية تشكيل وصناعة الفخـار في آسفي.. فيمكنني القول - في حدود معرفتي - إنها كانت موجودة قبل ميلاد سيدنا المسيح عليه السـلام بـالآف السنين، فقـد كـانت الصناعة مألوفة ورائجة في عهد الفينيقيين، إن منطق الأشياء والقوانين الحياتية الفطرية يجعلني أفترض وجود صناعة الفخـار قبل عصر الفينيقيين، سيما أن مصر عرفـت هذه الحرفـة اليدوية التقليدية المزوقة بالسحر والإبداع والجـمال والأصالة المشرعة أبوابها ونوافذها على العصر ومنجزاته.

وفي كتابه الـذي كرسـه لماضي وحـاضر صناعـة الفخر في مدينة آسفي الموسوم تل الفخارين يـذكر مؤلفه الأستاذ مولاي التهامي الوزاني أن آسفي تميزت بتعدد وخصوصية وجودة فخـارها.. لـذا تمكنت من "فـبركتها" لعجينة الطين.. ومن ثم التربع سنين عددا على عرش الصناعات التقليدية، ويذكر الأستاذ الوزاني أن هـذه المقولة التقريرية الحاسمة لا تعني بـالضرورة تل الفخـاريـن الـذي يلم شمل محترفـات جل مبدعي الفن.. إذ إن الآثار والوثـائق المتوافـرة والمتاحة لـه وهي قليلة نادرة يصعب معها تحديد عمر تل الفخارين، الأمر الذي يحفز الأستاذ التهامـي الوزاني على التساؤل عما إذا كـان التل يضم كل المصانع التقليدية لصناعة الفخار كـما هو الحال في أيامنا المعاصرة ويجيب عن سؤالـه الذي طرحه بقوله إن المقتنيات التاريخية لا توفـر معرفـة تحسم المسألة، لكنـه يشير إلى أن الأثـريين عثـروا في "الجرف اليهودي لما عام 1950 على تمثال نصفي (موجـود حاليا بمتحف الأثريات بالرباط) إلا أنه خلال القرن الحادي عشر ظهرت مدينة آسفي على مسرح التاريخ والجغـرافيا.. وبخـاصـة إثر احتفـال المؤرخين والجغرافيين بها، فالجغرافي الأندلسي الشهير أبوعبيد البكري يسلط عليها الضوء في نفس المرجع السابق المشار إليه، بقوله (المراكب راسية في سوس بمرسى أميكدول: أي مدينة الصوبرة) ثم بعـد ذلك مرسى كـوز (على ضفاف تـانسفيت) وأخيرا مرسى آسفي الذي يصفه الجغرافي المغربي الشريف الإدريسي بعد مرور نصف قرن بالميناء الرائج المحتشد بـالمراكب والبشر والبهائم والسلـع المغادرة والواردة والحركة الدائمة المتـواصلة وبخـاصة في القرن الثاني عشر: حين كـانت مدينـة مراكش عاصمة شهيرة لـدولتي المرابطين والموحدين، الأمر الذي يشي - بداهة - بأن منتوجات الصناعة التقليدية للفخار المغربي السفياني (نسبـة إلى آسفي) كانت من ضمن السلع التجارية المصدرة.

وعلى الرغم من أن العديـد من الشعوب الشرقية والغـربية: تصنع الفخـار المتقن الفتان مثل الفـرس والإغريق والصينيين وغيرهم، إلا أن الفخار المغربي له مميزاته وتعدده وتقنياته الخاصة، وقـد تعززت هـذه الخصائص والمميزات واتسمت في الوقت نفسه بصفات وغايات الفنون الجميلة في الحضارة الإسلامية، ولم يكن المغرب الأقصى بمنأى عن التأثر بـالسمات الخاصة لهذه الفنون المتطابقة مع قيم وتعاليم الإسلام.. ومن تحصيل الحاصل القول إن استجابة مبدعي صناعة "السيراميك" لرؤية الإسلام فيما نسميه الآن بالفنون الجميلة يتمخض عنها إبداع يجسـد هذه الرؤية المتبدية في المعنى والوظيفة والشكل. حسبنا دليلا على ما ذهبت إليه أن المنتوجات الفخارية مازالت حاضرة في الحياة اليومية، لتقوم بنفس الوظيفة التي تؤديها منـذ اكتشاف الإنسان لعجينة طين الفخار، ولعـل الأمة الإسلامية هي أكثر الأمـم احتفالا بـوظيفة الفخـار واستخـداما له.. لا سيما في أوساط الشعوب الميسـورة.. ويذكر الكاتب - على سبيل المثال - أن الكـويت في طفولته كـانت تعتمد كثيرا على الأواني الفخارية، فـالماء البارد يكرع من الزير أو "الحب" بلسان أهل الخليج العـربي .. أو من "البرمة والقلـة".. والرز والغلال تخزن في "مخزن" من الفخار.. فضلا عن العديد من المواعين والأدوات المستخدمـة في الحياة اليومية.. وأحسب أن الحال نفسه ينسحب على جل الديار العربية - المشرقية، وفي هذا السياق يتجاوز مبدع الفخـار المغربي الشهير "السرغيني" ما ذكرته آنفسا متهما إخوته العرب في المشرق العربي بعقدة "الخواجـة" و"الإفرنجي" لأنهم يهتمون بالسيراميك الأوربي والأجنبي بعامة، ويتابعون الأعمال السيراميكية المصنوعـة وفق تقنيات التصنيع الآلية الحديثة، ولا بأس في ذلك لو كـان مقرونا باهتمام مماثل تجاه الصناعة التقليدية الإسلامية للفخار. والمفارقة المحزنة المثيرة للأسى تكمن في أن الإعجـاب والاهتمام بالإبداع المغربي في الصناعة التقليدية للفخار يصدر من السياح والزوار الأجانب!.

ويستطرد قـائلا: لعلك لاحظت أن محترفي القديم في هضبـة الفخـارين، فضـلا عن أن المعـرض والمتحف، يوجـد فيه على الدوام العديد من الخبراء والباحثين وأساتذة الجامعات المختصين بالفنون الإسلاميـة، إضافـة إلى الصحفيين والإعلاميين والنقاد والمتـذوقين، وأحسبك شهدت بناظريك: إنهم جميعا من الأجـانب، وبقـدر ما أثلج صدري حضورهم الـدائم.. أفـزعني وأثار غمي وغضبي غياب الزوار العرب، الذين يؤمون المملكة المغربية، ولا يفكـرون في زيـارة مدينة آسفي وغيرها من الحواضر المغربية، التي باتـت محجة للسياح والزوار، ولأن الكـاتب لم يكن بمعـرض سجـال وجـدل مع الفنان المبدع، فإنه - أي العبـد لله - لم يحاول الـدفاع والتبريـر، ربما لاعتقـاده بأن قـولـة أخينـا الحاج "السرغيني" حق.. وتستأهل الاستجابـة لها بالفعل، كأن يقام معرض لمنتوجـات الصناعة التقليديـة للفخار المغـربي في (دار الآثار الإسلامية) بـالكويت مثـلا.. وفي المتـاحف المماثلة لـدول مجلس التعـاون الخليجي، والفعل يحتاج - بداهـة - إلى قرار وحركة.. و.. وكل ما يفضي إلى التنفيذ والإنجاز.

في قصر المؤتمرات بمدينة مراكش الحمراء سمعت حواراً بين سائح أوربي وبائع الفخار المغربي، وقد بدا لي الحوار لأول وهلة عادياً مألوفـاً، كـان السـائح يحضن بين يديه مزهرية فخار فـاتنة، ويتأملها بعيني متذوق مفتـون بالفخار المغـربي الذائع الصيت، ومن ثم سأل البائع مستغربـاً: كيف تقـول بأنها من صنع "السرغيني"؟ أجـابه البائع بثقة: هي فعلاً كـذلك، لأن كل المعروضات مـن إبدل محترف "مولاي أحمد السرغيني" بمدينة "آسفي" هنا عاود السائح تساؤله قـائلاً: أعرف ذلك جيـداً.. حسبي البحلقة ملياً في الصنعـة الفخـارية لأميز موطنها ومبدعها وقـد لاحظت أن المزهرية التي بين يدي خالية من ختم واسم "السرغيني" كما هو دأبهم طوال سبعة أجيال من هذه الأسرة التي تعاقبت على وراثة هذه المهنة التقليدية الجميلة، حيث يستلم الخلف الإرث من السلف ويتعلم تقنياته ودقائقه وأسراره ولذا دام واستمر وتواصل عبر السنين والأجيال إلى يومنا الحالي: حيث يمثل "مولاي أحمد السرغيني" الجيل السابع من أسرته المتبتلة في محترفها بمدينة "فاس" ومدينة "آسفي" الواقعة بأعلى المحيط الأطلسي.. على مبعدة مائة وخمسين كيلومترا من مراكش. والحق أن الكاتب - عبر هذا التحقيق المصور - لا يروم صياغة استطلاع صحفي عن مدينة "آسفي" الموغلة في القدم والعراقة، وصاحبة الماضي الذهبي التليد، بل إني أسعى إلى التعريف بها من خلال صناعة تقليدية اشتهرت بها على مر الأزمنة والعصور، ومن هنا كان اختياري للفنان "السيراميكي" المدهش الحاج "أحمد السرغيني" وللتعريف فإن "مولاي" هذه التي تسبق اسمه ما هي إلا لقب شريفي يختص به أبناء الأسر الذين ينتسبون إلى آل البيت رضوان الله عليهم.

حوار مع المبدع مولاي أحمد السرغيني

كيف اتجهت إلى هذا الفن الجميل؟

- كنت شغوفا - منذ صغري - بصناعة الطين، فكلما رأيت خزافا يعكف على عمله، أشعر بانجذاب نحوه، وقد مارست هذا العمل مبكرا في حدود سن الحادية عشرة! وأنا الوحيد من جيلي في الأسرة الذي مارس هذه المهنة.

* لعلى لا أغالي إذا قلت: بأني ألاحظ أن علاقتك بمصنوعاتك الإبداعية تبدو مثل علاقة الإنسان بالحبيب المعشوق.

مارأيك؟!

- هذا صحيح تماما، فحين أكون في مرحلة إعداد التحفة الفنية، تجدني أشعر بتعاطف معها كما لو أنها مولود جديد يحتاج إلى الحب والحنان والعناية حتى يكتمل نموه!

* هل شاركت في معارض ومهرجانات دولية؟

- نعم، فقد شاركت في مهرجانات ومعارض دولية عديدة وحصلت على جوائز وشهادات تقدير كثيرة. كما أن مدينة آسفي صار لها الآن صيت طيب وسمعة مشرفة في صناعة الخزف والفخار، فبات الزوار يفدون إليها من شتى أنحاء العالم بقصد الاطلاع على صناعة الفخار واقتناء منتوجاته.

* ماهي مراحل صناعة الفخار؟

- في البداية يتم استخراج الطين الخام، ومن ثم يتم تكسيره لكي يوضع في صهريج مائي؟ حيث يتم تذويبه، وبعد ذلك يتم إخراجه ليجف تحت الشمس، وتستغرق عملية التجفيف مدة 24 ساعة.

* هل أفهم من ذلك أن عملية التجفيف ثابتة؟

- لا.. بطبيعة الحال، فالأمر مرهون بحالة الطقس، ذلك أن الطين كما الإنسان، فهو لا يتحمل حرارة مفرطة ولا برودة شديدة، فالطقس المعتدل هو ما يناسبه، وتراني أقارن الطين بالإنسان تصديقا لما جاء في القرآن الكريم "خلق الإنسان من صلصال كالفخار،.. ".

* لم لا تعرضون إنتاجكم في المشرق العربي؟

- أجيبك بكل صراحة فأقول: إن ذلك راجع إلى وجود تحيز غير عادل في المشرق العربي تجاه المنتوجات العربية، وعلى العكس من ذلك إذا كانت القطعة من صنع جان بيير أو لودان، أو كاردان، أو أي اسم أجنبي، تجدها تنال الاهتمام والاحتفال، بينما المنتوجات العربية تهمش وتهمل لمجرد أنها عربية! وهذا أمر مؤسف حقا، لاسيما أن منتوجاتنا تجد إقبالا شديدا في أوربا، ولعل مرد ذلك إلى المعرفة والثقافة. ومن هنا تجد أن الأوربيين يقدرون الفن ويحتلفون بالصنعة المتقنة، وتراهم يصيخون السمع عندما نحدثهم في تفاصيلها.

* ماهي مميزات الفخار بمدينة آسفي؟

- يتميز الفخار السفياني بطابعه الخاص من حيث الأشكال والألوان والرسوم. ومعروف أن الطين هنا يتميز باحتوائه على نسبة كبيرة من أوكسيد الحديد، الأمر الذي يجعل بعض الألوان تناسبه وحده دون سواه، إضافة الى أن تقنية التصنيع تختلف من مدينة مغربية إلى أخرى حسب طبيعة الطين:

* هل لنا أن نعرف عن حياتك الشخصية؟

- "الله ياودي الله" قالها ضاحكا، ثم أردف قائلا: في طفولتي دخلت "الكتاب"، حيث التركيز على تعلم قراءة القرآن الكريم وحفظه؟ ومع الأسف هذا النوع من المدارس في سبيله إلى الانقراض.

في سن السادسة التحقت بالمدرسة الابتدائية، إلا أني كنت شغوفا بمهنة والدي، الذي كان يشجعني على مرافقته إلى المحترف، وفي الوقت نفسه كان يحثني بشدة على الدراسة، وعلى الاسثمرار فيها، لكني صراحة كنت - في قرارة نفسي، قد اخترت تعلم صناعة الفخار، لذا لم أستمر في التعليم سوى بضع سنين. وكان والدي بحكم تجربته يعرف صعوبة صناعة الفخار، والتي تتطلب أحيانا بعض المغامرة بالفلوس والجهد والوقت، إذ إن تجربة واحدة تكلف مصاريف كثيرة وتستنفد وقتا طويلا وقد تكون نتيجتها فيما بعد سلبية. من هنا حرصا والدي رحمه الله على أن يشجعني على الدراسة بدون جدوى ولعلني وجدت عزاء عن ترك الدراسة في نجاحي بصناعة الفخار والخزف ولله الحمد.

* ألا تعتقد بأن استخدام الميكنة يشكل خطرا على أصالة الصنعة؟

- هناك بعض الأدوات التقليدية يجب أن تظل تراثية تقليدية مثل أدوات الرسم، لكن الآلات والأدوات الأخرى يمكن أن تكون حديثة، بدون أن تسئ إلى الصناعة مثل استخدام أفران كهربائية أو غازية. والحق أن هذه الأفران الحديثة مفيدة جدا لصناعتنا لكونها تمكننا من التحكم في درجة الحرارة التي تمكننا بدورها عن التحكم في لون القطعة الخزفية، ذلك أن الأوكسيدات التي تحتوي عليها تتخد لونا معينا عند درجة حرارة معينة.