بعد محاولة اغتيال نجيب محفوظ هل أصبح اغتيال المثقفين هو "الفريضة الغائبة"؟ محمد الرميحي

بعد محاولة اغتيال نجيب محفوظ هل أصبح اغتيال المثقفين هو "الفريضة الغائبة"؟

حديث الشهر

ونحن نودع هذا العام بشروره وحسناته، بانتصاراته وإخفاقاته، ليس هناك أكثر سوداوية وتشـاؤما مما يجري على ساحتنا العربية من اغتيـال رموز التنوير وقيادات المجتمع المدني، مثقفي العرب وحاملي راياته الإنسانية.

علينا أن نتخيل هذا المشهد المروع..

خمسـة من صغـار الشبـاب يتقدمون من شيخ طاعن في السن لا تحمله قـدماه إلا بصعوبة، وبرغم ذلك فهو يتوقف لتحيتهم. يضع يده على قمة رأسه ويحنيها قليلا كـما هي عادته المتواضعة في تحية الآخرين، ويبتسم لهم ابتسامة واهنـة لا نظير لها إلا في نقوش الفراعنة المحفورة على الجدران أو في مخيلة العربي المسلم لشيوخه العلماء. ولكن الشبان يلتفون حوله بحيث يعزلون رؤيته عن الطريق ويبادره أحدهم بطعنة في العنق يريـد أن يقطع بها الشرايين التي تغذي أنسجة المخ. ويسقط الشيخ متخبطا في دمه بينما يهرع الشبان إلى الهرب بعد أن أتموا عمليتهم، التي اعتقدوا أنها جريئة.

أي حادث مفزع مثل هـذا يمكن أن يحدث لشيخ في الثـالثة والثمانين من العمر؟. فـما بالكم - ثبت الله عقولنا وعقولكم - إذا كان هذا الشيخ هو نجيب محفوظ؟!. أشهر الأدباء العرب، بل والعربي الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل في الأدب عن جدارة واستحقاق.

لست في حـاجة إلى أن أعيد تقـديم نجيب محفوظ إلى قراء العربي فمعظمهـم يعرف سجله الحاشد، فهو إن لم يقرأ ما كتب قد شاهده في التلفاز، وإن لم يشاهده فقد علم به، ولا أن أكرر عبارات الاستنكار ضد هذه الجريمة، فلعلـه وهو راقـد في فراش المرض الآن يدرك أن هـذا بعض من "عبث الأقدار" التي تعودت أن تعبث معه كثيرا.. فحين ترددت الأنباء أن اسمه قـد وضع ضمن قائمة الأشخاص المطلوب اغتيالهم من قبل الجـماعات الأصولية المتطرفة، رفض أن يعيـن له حـارس وقال بسخـريته المعهودة: "الحارس في حاجة لمن يحرسه"! كان واثقا من أن بساطته - التي هي جزء أصيل من بساطـة الشعب العربي المصري - كفيلة بحمايتـه. ولكن الأمور أصبحت أكثر تعقيـدا مما يتصور، فهذا "المعتدل الأعظم" في حياتنا الأدبيـة والفكرية لم تحمه شيخوخته من نـيران التطرف، وبرغم أنه كان حريصا طوال عمره على ألا يقاد إلى معركة جانبية يمكن أن يبدد فيها موهبته، فقد وجد نفسه في آخر أيامه يدفع ثمن معركة التنوير ككل.

الاعتدال.. موقف عقلاني

حاول نجيب محفوظ أن يصنع من "الاعتدال " درعا يحمي به موهبته. استفاد من قراءته الطويلة في التراث العربي عن تلك العلاقة الشائكة بين المثقف والسلطة، وكذلك من مثلين كبيرين كـانا معاصرين له: أولهما عميد الأدب العربي طه حسين وصدامه مع القوى المتحجرة التي أرغمته على التراجع عن كل الآراء التي ذكرها في كتابه "في الشعر الجاهلي"، وثانيهما معاصره الأصغر منه سنا "يوسف إدريس" ذو الموهبة الغزيرة التي استهلك جزءا كبيرا منها في معارك جانبية مع أنصاف الموهوبين من محترفي السلطة والثقافة. كان الاعتدال هو السلاح المحفوظي حتى لا يجر إلى مذهب سيـاسي لا يؤمن به، أو إلى معركـة لم يكن مقتنعا بجدواها، مع صغار نفوس، المصادفة وحدها أوقعت القلم في أيديهم.

والاعتدال هنا لم يكن موقفا سلبيا. بل إنه موقف متوسط بين اللامبالاة والتهور. مثلما الفضيلة هي وسط بين رذيلتين. فقد كـان نجيب محفوظ هو نتاج ثورة 1919 م المصرية الوطنية التي أنجبت كوكبة من الرجال الذين يؤمنون بقدرة العقل، وأهمية ألا ينحـاز المرء إلى رأي واحـد ويقصي الرأي الآخـر، ولكـن عليـه أن يأخـذ بقية الآراء الأخرى في قـائمة الاعتبار ويمحصها، وأن يحاول الوصول إلى صيغـة إجمالية لها. إنها نفس نظرية التعادلية عند توفيق الحكيم أو "التوفيقية" في فكـر رجال النهضة، وفقا لمصطلح صديقنا الباحث الدكتور محمد جابر الأنصارى.

وهذا الموقف لم يمنع نجيب محفوظ من أن يكون شاهد عصره بحق. فمن خلال هذا الموقف العقلاني أتيح له أن يقوم بتحليل مفردات الواقع وإعادة تكوينه بصورة مغايرة، وبذلك رأى ما لم يستطع غيره أن يراه. فقد رصد ملامح الانتهازيين الذين ورثوا ثورة 19 في رواياتـه "القـاهرة الجديـدة"، و"الثلاثية" الشهيرة. وأبدى مخاوفـه من الحكم الشمولي وصعود الزعيم المطلق في "أولاد حارتنا،. وانتقد الخلل الاجتماعي وافتقاد العدالـة في "اللص والكلاب" ووجـه انتقادا قـاسيا لتنظيم الاتحاد الاشتراكـي، الذي لم يكن أحد وقتها يقدر على المساس به في "ميرامار"، وقدم مرثيته للثوريين القدامى الذين تغير العالم من حولهم، بينما وقفوا هم عـاجـزين عن الحركـة في "السمان والخريف"، و"الشحاذ"، وتعرض لأزمة الضياع لجيل ما بعد حرب 1967 في "تحت المظلة" و"حب تحت المطر". لقد أقام نجيب محفوظ في رواياته ومن خلال الموقف العقلاني الذي يؤمن به حـوارا دائما، حوارا مع النفس من خلال النقد الذاتي، والعكس أحيانا. وحوارا مع القراء بمحـاولة تبصيرهم بالواقع الذي يحيط بهم بحثا عن الحقيقة المطلقة، حتى ولو كـانت تخالف المنظور الذي تعودوا عليه. لم يصنع من نفسه قـاضيا ولا حكما، ولكنه وضع نفسه حيث وضعه الله، واحـدا من عباده يصيب ويخطئ، بينما نصب الـذين حاولوا اغتياله أنفسهم قضاة وجلادين. فأي الموقفين كان على حق؟!.

لم يقرأوا روايتي..!

ما أريد أن أصل إليه هو أن نجيب محفوظ لم يكن في يوم من الأيام طرفا في أي خصومة سياسية، برغم اتهامـه باتهامات سياسية، في بعضها متناقضة، ولم يكن جـزءا من سلطة. وحتى في عموده اليومي، الصغير الذي، تعود على كتـابته في صحيفة الأهرام بشكل شبه روتيني كانت آراؤه عادية، محايدة، تدعو للتفاهم وتغليب صوت العقل. لقد أخفى كل ما رآه مهما وجادا ومحددا في ثنايا رواياته الزاخرة، في ذلك العالم الخصب من العلاقات الإنسانية التي دأب على كشفها وتعريتها. وربما كان نجيب محفوظ من أوائل الكتاب الذين كشفوا الغطاء عن جذور هذه الجماعات المتطرفة في روايته "السكرية"، ولكنه بالتأكيد لم يكن يتوقع أن ينتشروا الآن بيننا كالجراد، وأن يكون هو نفسه ضحية من ضحاياهم!.

لقد اختار الذين حاولوا قتله ذكرى اليوم الذي فاز فيه - بجـائزة نوبل عام 1988 - أي منذ ستـة أعوام- كأنهم يعلنون احتجاجهم على قبوله هـذه الجائزة. والحقيقة أن قيمة محفوظ هي أكبر بكثير منها، وإذا تأملنا قائمة الأسماء التي فازت بنوبل في الآداب في العقد الأخير لوجدنا أنه كان أفضلها. ففي السبعينيات عندما بدأت كتاباته تخترق جدران "العالمية" الصلد، وترجمت أعماله إلى الألمانية، قال الناقد الألماني الشهير "هنريش فوج": "لو كان عندنا أديب مثل نجيب محفوظ لدفعنا من أجله الملايين وترجمنا أعماله إلى كل اللغـات حتى يفوز بجـائزة نوبل". وعلى مدى العشرين عـاما التي مـرت لم يفعل أحـد ذلك لنجيب محفوظ، ولم يطلب هو شيئا ولكنه بالإصرار والدأب أنجز لنفسـه كل شيء وعنـدما جاءته الجائزة كان هو أكبر منها بكثير.

ولا يستحق الأمر الرد على التهم الرخيصة التي تقول عن علاقته بإسرائيل، أو ببعض الأكاديميين اليهود. فلم يكن لنجيب محفوظ أي دور سياسي أو ثقافي في الصلح أو خلافه، ولم يذهب لزيارتهم. وإذا كان بعض النقاد أو الصحفيين الإسرائيليين قد حضروا جلسته الأسبوعية فهي جلسة مفتوحـة في أحد المقاهي العامة يجلس فيها من يشـاء وأي قادم إلى القاهرة، كعادة المصريين الكرماء، وهي ليست بالتأكيد مبررا للقتل بأي حال من الأحوال.

القتل في النهاية، كمحـاولة، هو تعبير عن رفض الآخر عقليـا وبدنيا، رفض الحوار ثم رفض الوجود. ومحاولة قتل نجيب محفوظ تثير أكثر من إشكالية حول دوافع هذه الجـماعات التي تطلق على نفسها أصولية وتدعو للعودة إلى الدين عن طريق القتل والإرهاب. وقد شجب فعلها الآثم كل صاحب ضمير حي.. لقد قال نجيب محفوظ وهو في المستشفى الذي نقل إليه جريحا معلقا على روايته "أولاد حارتنا"، التي صودرت لأنها تنتقد الأديان كما ادعى البعض: "إن الذين أهدروا دمي لم يفهموا روايتي ولم يقرأوها.. لقد سكتوا عنها منذ 1959، وهو العام الذي ألفتها فيه وهي تدعو للعودة إلى الدين وانتصار الخير وهزيمة الشر، وهي لا تمس الأديان من قريب أو بعيد.." هذا هو إعلان نجيب محفوظ وعلينـا إذن أن نبحث عن الدوافع الخفية خلف اصطياد المثقفين، ولماذا تصاعدت هذه الظاهرة بتلك الصورة الحادة خاصة في مصر والجزائر وبعض الدول العربية الأخرى؟!.

السيف والفكر

لقد استدار الزمن دورته الغريبة، وبعـد أن كـانت خشية المثقف العربي من سيف السلطان وجـبروته أصبح الخطر ماثلا أمامه من الناس الـذين خرج من بينهم، والمفروض أنه كان يجسد أحلامهم ويتحدث بلسانهم. لقد كانت القبيلة العربية وسط صحراء الشظف تقيم الاحتفالات لمولد شاعر، لأن هذا الشاعر سوف يرفع ذكرها فوق بقية القبائل. وكان هذا يعني الاحتفال بخصوبة العقل البشري الذي يجود بما بخلت به الصحراء، وكـانت القصيدة تحفظ وتكتب وتعلق وتصبح علامـة فـارقـة في زمن الـرمل الرتيب. وقـد سن الرسول الكريم تقليـدا جديدا لتكريم الشعراء فخلع بردته وكساها كعب بن زهير، ولكن الكثير من حكـام المسلمين فيما بعـد وجدوا أنفسهم غير قـادرين على اتبـاع هذه السنة الحميدة. لقد حـدث التناقض المؤسف والدائم بين سلطتين: سلطـة الحاكم التي تريد أن تطوي الجميع تحت جناحهـا بلا استثناء، وأن تحول هذا المفكر سواء كـان شاعرا أو عالما أو فقيها إلى موظف في معيتها، وسلطة المثقف الذي يرى أن من حقه أن يكون مستقلا في الرأي قادرا على الحلم معترضا بالنقد، ومبادرا صادقا بفضح الزيف.

وظل الحاكم يقدم الإغراءات المتواصلة من خـلال مناصب الدولة: الوالي، القاضي، جابي الضرائب. ولكن عدد الذين كانوا يعتذرون عن عدم قبول هذه المناصب كان دائما أضعاف الذين يقبلونها، كان الشاعر يرى نفسه في منزلة أعلى من كل هذه الوظائف، وكان المفكـر الديني يشعر أنه ينتمي إلى الإسلام، الحقيقة الإلهية المطلقة التي تعلو أي سلطـة زمنية مهما كـانت قـوتها، وهو يكتسب شرعيته من مدى إطاعتـه لأوامر هذه السلطة الربانية وليس السلطة الزائلة.

لقد كان بنو أمية قساة وهم يطاردون الفقهاء والشعراء والمفكرين، فقد كانوا يريدون منهم الشرعية التي يفتقدونها، والتأييد الذي يتوقون إليه. لـذا فقد اعتزل واصل بن عطاء الجميع حتى لا يتورط في تأييد سلطة لا يراها ملازمة لحكم الله، ولبس عامر الشعبي جبة منقطة وتظـاهر بـالجنون حتى لا يتولى منصب القضاء، وهرب الكميت الشاعر من سجن الحجاج بعد أن ارتدى زي زوجته وتركها خلفه في السجن، ووجد الحجاج نفسه محرجا للمرة الأولى في حياته، فلم يقدر على قتل امرأة واضطر للإفراج عنها، ولكنـه لم يجد حـرجا في قتل الفقيه سعيـد بن جبير، ولم يكن محرجـا في حصار عبدالله بن الزبير والتمثيل بجثته بعد أن حاصر مكة وضرب الكعبة.

كان الحكم يعتبر المفكر دائما "شخصية قلقة" ولا يكون علاج هذا القلق أحيانا إلا الموت. ولم ينج من هـذا القلق حتى كبار الفقهاء وأصحـاب المذاهب الأساسية في الإسلام: فالإمام أبو حنيفة مات في غياهب سجن الخليفة المنصور بعد أن رفض أوامره بتولي القضـاء، واختفى سفيان الثوري تمامـا لنفس السبب. أما الإمام ابن حنبل فقد وقع في يد الخليفة المعتصم وبقي محتجزا في سجونه ثمانية وعشرين شهرا كاملة، لأنه رفض الموافقة على رأيه في خلق القرآن. وسميت هذه الفترة بمحنة الفقهاء، لأنها طالت كل فقهاء ومفكري العصر.

واختار أبوحيان التوحيدي أن ينفي نفسه من بغداد بعد أن أحرق كل كتبه، ولم يبق من تراث هذا الأديب الكبير سوى كتابه "الإمتاع والمؤانسة"، وهو الذي لم يتمتع بأي شيء من هذيـن، حيث اضطهده الوزير المهلبي أيما اضطهاد. وكذا اختار أبو العـلاء المعري أن يحبس نفسه في بلدته الصغيرة "معرة النعمان"، بعد رحلة فاشلـة إلى بغداد، لقي فيها سخرية الأمراء والـوزراء من عماه وكلماته الغـامضة، والعسل الذي يسيل على لحيته. وجرب الفقيه الكبير ابن تيمية - وهو الذي تقتدي به الآن كثير من الجماعات الأصولية - مرارة السجن والمطاردة بسبب مواقفه الفقهية. وقضى الحسن بن الهيثم أيامه الأخيرة منبوذا على باب الجامع الأزهر يعيد نسخ المخطوطات مثل أي كـاتب بائس، بعد أن غضب عليه الحاكـم بأمر الله وحرمه كرامة التكسب. ولم يمنع انشغال السلطان الناصر صلاح الـدين بحرب الفرنج من صلب السهروردي، ونفس المصـير لقيـه الحلاج الصوفي بعد ان أغضبت أشعاره في الوجد الإلهي الولاة والحكام وتخلى عنه رفاقه.

ولم يتوقف هذا السيل من الأسماء المضطهدة حتى بعد أن بلغنا مشـارف العصر الحديث. فما زال الفكـر جريمة لا تغتفر في نظر بعض الحكام والجماعات، إذا لم يأت طائعا وراضيا ومبررا لأفعالهم وأطروحـاتهم ولا نريد أن نقع في مصيدة غضبهم فنذكر بعض أسماء الذين رحلوا.. أو الذين كانوا ضيوفا مكرهين داخل الزنازين.. ناهيك عن حالات الاختفاء التي لا يوجد لها سبب أو مـبرر.

لم تكن حيـاة المثقف العربي سهلة، فقد جعلته "جرثومة" الفكـر التي ابتلي بها كمن يسير على حافة السيف، كل خطوة تدمي قدميه، وكل خاطره تقربه من مصيره المحتوم. لقد سبب هـذا المناخ القاسي ضغوطا كبيرة على نفسية المفكر العربي، وحلت مشاعر الخوف بدلا من لمعات الإبداع واختفى من حياتنـا شطر مهم من التفكـير الحر، الذي ينقد ويرشد الناس للعسف الواقع عليهم ويبين لهم طريقة الخلاص من هذا العسف.

فما القول إذن إذا انتقلت هذه الرؤية الأحـادية والسلطة القمعية إلى بعض الجـماعات المتطرفة ومارستها دون رابط؟، أي مناخ من الخوف والـرعب يمكن أن يسود بدلا من منطق التسامح الاجتماعي، الذي يمكن ان يعطي الفرصة لتفتح كل الأفكـار؟. هذا هو الكابوس الذي نعيشه هذه الأيام والذي كانت محاولة اغتيال نجيب محفوظ إحدى حلقات، وهي ليست الأخـيرة بكل تأكيد، لأن قوى الشر والظلام ما زالت مطلقة العقال.

امتياز قتل المثقفين

انتقل امتياز قتل المثقفين والكتاب من يد الحكام إلى الجماعات المسلحة بشكل شامل، إبان الحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت عام 1975. ولم تمارسه فقط المليشيات اللبنانية باقتدار، ولكن شاركتها فيه المخابرات الإسرائيلية بتفوق. حفنة من العصابات والقتلة تصارعـوا على ساحة الوطن الصغير، تقاتلوا وتحالفوا واختلفوا ثم عـادوا للتقاتل من جديـد. وفي كل مرحلة كـانت الرصاصـات تقتل حملة القلم والفكر، رصاصات تقتل دون تعقل، وكتاب يموتون لأنهم عزل إلا من فضيلة التعقل.

ولقد تعددت أساليب الاغتيال وارتفعت درجة الابتكار فيها عاليا. من أول السيارة المفخخة التي أودت بغسان كنفاني وابنة أخيه، إلى اغتيال كـامل مروة داخل مكتبه، إلى حرق أصابع سليم اللوزي، ونسف الشاعر عبدالوهاب الكيالي وزوجته دفعة واحدة واغتيال العلامة حسين مروة وهو ممسك بقلمه في مكتبه ببضع رصاصات لا تساوي ثمن علبة سجـائر!. وقائمة طويلـة من المبدعين قتلوا أو هاجروا وأصبح وضعهم يثير الأسى والحنق والمرارة، كأنما كتب على المثقفين أن يدفعـوا - قتلا أو تشريدا - ثمن هذه الحرب المجنونة التي لم تجد الكلمات في إيقافها. تغلبت روح العصابات الشرسة وغياب منطق الدولة وواصل العرب لعبتهم القديمـة في اغتيال الأفكار تحت أقنعة جديدة وإن كانت ترفع نفس الأفكار القديمة.

من الفراغ إلى الازدحام

في الجزائر يقولون إن الوضع أسوأ. وفي مصر يقولون إن ما يحدث هو مجرد استثناء وسط قاعدة راضية وقانعة، وأنهم أفضل حـالا من بلدان أخرى. والحقيقة أن الوضع سيئ بما يكفي الجميع. فالمد الأصولي لا يقتصر على هاتين الشقيقتين العربيتين، ولكنه يمتد مثل سرطان خفي إلى كل جسد العالم الإسلامي، مع اختلاف درجة العنف.

في السودان هناك تحالف غير مقدس بين العسكر والأصوليين، وفي تونس كفوا عن إثارة المتاعب مؤقتـا، وفي إيران استطاعوا أن يقفزوا إلى قمـة السلطة، وفي أفغانستان يتصارعون في الشـوارع تحت أشد الأفكـار السياسية تخلفا وأحـدث الأسلحة فتكـا، وحتى في مـاليزيا البعيدة والمشغولة بالتحـول إلى نمر اقتصادي جـديد تبحث هذه الجماعات عن مخالب لها.

ولكن خصوصية مـا يحدث في مصر والجزائر أن المثقفين والكتاب أصبحـوا هم الهدف يدفعون غاليا ثمن هذا الجنون اليومي، وقـد استمد الأصـولي عنفوانه من تشابك الظروف الاقتصـادية والاجتماعية في البلدين: ففي الجزائر تعـاني الأجيال من "فراغ ثقـافي" سببه افتقاد الهوية العربية الواضحة، هوية تربطهم مع تاريـخ ما قبل الاستقلال الذي لم يكتب بعد، وغلبة الثقافة "الفرانكفونية"، واستيلاء ما يطلق عليه "حزب بـاريس" على مؤسسات الحياة العامة مما جعلهم جميعا يلجأون للبحث عن هوية مفارقة، أصيلة ومقدسة أيضا، يضاف إلى ذلك فشل الحكومات في وضع حلول للمشاكل الاقتصادية. فالجزائر التي يمثل تصدير البترول والغاز العمود الفقري لاقتصادها، قد وجدت نفسها في خضم المتاعب مع انهيار الأسعار العالمية، وبرغم كل خطط التنمية الطموح فيهـا لم تستطع أن تعتمد على مصادر أخرى بـديلة. وهكذا خلق نوع من "الفراغ الاقتصادي" يضـاف إلى "الفراغ الثقافي" الـذي سبقه. وبتراكـم العاملين معا حاول الأصوليون العـودة إلى شبه الأصول، لعلهم يجدون سندا في مواجهـة كل هذه الفراغات اللا نهائية. واختلطت الأفكار السياسيـة برغبـات أفراد وجماعات الخارجين على القـانون والمهربين، ومن يريدون أن يكـون لهم مقعد في كل عرس، واتسعت أعمال العنف حتى لم يعد يعرف أحد أي فريق هو القاتل أو المقتول.

وفي مصر لم يكن الفراغ خلف هذه الظاهرة بقدر ما كان الازدحام. ففي بلد لا يعيش إلا على 4% من مساحـة أرضه الكلية يتحول الانفجـار السكاني إلى قنبلة موقوتـة فقد تسبب ذلك لا في تدهور الحالة الاقتصادية أو تدني الخدمات العامة فقط، ولكن في ظهور عدد كبير من الأحياء العشوائية والقرى والنجوع التي لا تحظى بأي خدمات أو وجود للسلطة المركزية. وإضافـة إلى الازدحام السكاني هناك ذلك الازدحام التاريخي والمثقل بعوامل القمع والإحباط. وعلى حد تعبير نجيب محفوظ نفسه: "مما لا شك فيه أن المجتمع المصري تنقصـه العـدالة. كـما أن الحكم غالبا ما يكون قمعيا وغير فعال والفقراء هم غالبية الشعب المصري، والفقر يجعلهـم معادين للسلطة ومنطق الـدولة. إنهم يريدون أن يأكلوا ويعملـوا ويعلموا أولادهم، وهم يجدون في الأصـوليين ليس عونا فعليا أو بـديلا عن الدولة، بل يرون فيهم قوة لها نفس قوة الخصـم، وهي قوى مجهزة بالإسلام فوق ذلك..".

لا شك أن هذا الوضع غير السوي لم يكـن السبب الرئيسي، ولكن استفادت منه القوى السياسية الغاضبة وغير القادرة على إدارة حوار صحي واستعاضت عن الكلمة بالرصاصة، وهكذا سقط فرج فوده، ونصبت الفخاخ للكثير من المثقفين المصريين.

إنها سنـوات طـويلـة من العنف والعنف المضاد منذ أن قـررت هذه الجماعات أن تتحول عن المناداة بإصلاح المجتمع، بالحث على المعروف والنهي عن المنكر، إلى تغيـيره بالمدفع والقنبلة والسيارة المفخخة. بل وتحولت هذه الجماعات من صراعهـا التقليدي مع أدوات السلطة من مسئـولين ورجال شرطة، إلى محاربة المفكرين سواء منهم الذين يخالفونهم في الرأي أو الذين يحاولون تجنبهم.

أسباب وراء القتل

إن اغتيال كـل هذا العدد من المثقفين يهدف في المقام الأول إلى استفزاز النظام وإظهاره بمظهر الضعف، فقد تحولت عمليـات الثأر اليومية من رجـال الشرطة والضباط إلى خبر عادي من لإرغام السلطة على التفاوض معهم أو الأفضل التنازل لهم.كثرة تكراره. وأصبح الهدف هو إثارة أكـبر قدر من "الفرقعة" ويلاحظ أن تصاعد هذا النوع من الاغتيالات كان لا يتم إلا بعد كل محاولة للمصالحة أو رغبـة في إقـامة حوار وطني، وعندما تفشل هذه المحاولات يكون هذا هو ردها العنيف على السلطة والنظام.

والجماعات التي تقتل رموز الفكـر إنما تقتلها عن جهل بقيمتها أولا، وكجزء من حـربها القذرة ضد السلطة ثانيا، وربما يمثل هذا الأمر صـورة أكثر أهميـة من ضرب السيـاحـة والأجـانب لأنها تضرب بـذلك "المتغربين" داخل المجتمـع والذين يحملون القيم الغربيـة التي يرفضونها بلا أسباب مقنعـة. وهي أيضا محاولة مستمرة لإجهاض حركـة التنوير، وإيقاف المد الديمقراطي الذي يمكن. أن يحمله هؤلاء الأشخاص. فإقرار الديمقراطية في أي بلد يتطلب تهيئة البيئة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، أو المناخ المناسب لهذه التجـربة، ولقد نشأت الديمقراطية في أثينا القديمة على أيدي الفلاسفة لا الحكـام. وقامت الثورة الفرنسية أيضا، وأقرت مبادئ العدل والحرية والمساواة من قبل رجـال الفكر قبل أن يهبط الثوار إلى الشوارع. وقد استهدفت الاغتيالات شخصيات كانت تمثل نموذجا للعمل التنويري العام - ومن هؤلاء من كان نشاطه قدوة تحتذى في التواضع وإنكار الذات - كتابا ومثقفين وقضاة وأطباء وباحثين.

ففي الجزائر على سبيل المثال اغتيل الدكتور الجيلالي البعيس مدير معهد الاستراتيجية العليا في الجزائر، وقتل خليفته في المنصب الدكتور بوخبزة، وارتفعت درجة الوحشية في الاغتيالات عندما قتل الدكتور الهادي بونيس والدكتور صبيحي أمام أفراد عائلتيهما. وتواصلت القائمة العشوائية لتصيب عالم الاجتماع جيلالي اليابس وزير الجامعات الأسبق، ومحفوظ بوسيتي أستاذ ورئيس قسم الطب النفسي بجامعة الجزائر، والطاهر جعوط الكـاتب والشاعر الحائز على جائزة البحر المتوسط عن روايته "المتيقظون". أما آخر من لقي مصرعه حين كتابة هذا المقال فقد كان فرح زيان رئيس تحرير مجلة الثورة الأفريقيـة التي تصدر بالفرنسية، وبلغ عدد الصحفيين بذلك 21 صحفيا وما زالت القائمة مستمرة.. ومفتوحة للمزيد.

وفي مصر القائمة ليست بهذا الطول، ولكنها مؤثرة، فقد كان عدد الذين نجوا من الاغتيال أكبر نسبيا، ولكن التأثير كان كبيرا نظرا لوقوع هذه الشخصيات في دائرة الضوء. ولا يمكن الربط بين كل الأسماء التي تعرضت لهذه المحاولات إلا أنها كانت تمثل بعض دعامات المجتمع المدني الذي يقوم بدوره الفعال وسـط الرأي العام دون أن يرتبط بشكل مباشر مع الدولة ودون أن يكون جزءا من سياستها. والمجتمع المدني هو خطوة مهمة للـديمقراطية التي نفتقـدها، وكأنما لا تكفي مؤسسات المجتمع المدني الضربات التي كالتهـا لها السلطات المتوالية، فها هي تتلقى ضربات أخرى موجعة على أيدي هؤلاء الأصوليين.

واغتيال الفكر بشكل عام هو تعبير عن عدم ثقة هذه الجماعات في نفسها. فهي تحاول أن تقيم فكرها الخاص بالعودة إلى منابع الإسلام الأولى منفصلـة عن السياق التاريخي الذي عاشته هذه المجتمعات، فهي تتجاهل 14 قرنا من التاريخ المتصل بكل ما فيها من اجتهادات وأحداث. وفي مـواجهة المجتمع الحديث فإن الذين يطالبون بتغييره يعانون من غياب الفكر البديل لكل الأشكال التي يرفضونها، لذا فهم يكتفون بالرفض وتدمير ما هو موجود، وتدمير المؤسسات التعليمية، وعرقلة البنية الاقتصادية، وقتل الفكر والمفكرين، كلها في سياق واحد هو عدم وجود رؤية واضحة وعدم الرضا عن أي رؤية بديلة.

بالإضافة إلى كل ما سبق فقد أصبحت هذه الجـماعات تفتقر إلى العـدو الحقيقي، العدو الذي تتجسد في مواجهته كل دعاوى الجهاد "الفريضة الغائبة"، فقد كان الجهاد ضد الاستعمار الأجنبي في إحدى الفترات يمثل هذا الهدف ثم تحولت درجة العداء إلى العدو الصهيوني في العالم العربي والى معاداة الشيوعية في أفغانستان، ولكن مع كل ما حدث في العالم من تغيرات، فإن هؤلاء الأعداء قد ابتعـدوا عن خطوط التماس. دخل العـالم العربي في مفاوضات الصلح الشـامل مع إسرائيل، وانسحبت بقايا القوات الشيوعية من أفغانستان، قبل أن يتحلل الاتحاد السوفييتي نهائيا ويندثر، وهكذا بحثت هذه الجماعات عن عدو يزيد من تماسكها الداخلي ويبقي على القوة الدافعة لاستنفارها، وكان الحل هو محاربة المجتمع وبـالتحديد رموز الفساد فيه مرة بدعـوى أنهم شيـوعيون قـدامى، ومرة بدعوى أنهم من أعضـاء الصلح مع إسرائيل. ويبدو أنهم اكتشفوا أن الفريضـة الغائبـة هي قتل المثقفين والمفكرين!.

مستقبل رمادي

هل هناك أمل للخـلاص من هذا المأزق؟.

إننا أمام مستقبل رمادي مليء بالعنف ونذر الانهيار. فأسطورة العودة الضبابيـة إلى الأصول لم تتضح معـالمها في يـوم من الأيـام، وعلينا إذا حـاولنا أن ننظر لها كظاهرة سياسية لها جذورها أن نبحث أسباب الغضب والإحباط والقهر الاجتماعي والقمـع السياسي والغبن الاقتصادي، إلى كل الأسباب التي دفعت بهذه الجـماعات إلى الخروج واختيـار طريق العنف الصعب والمسدود في آن.

ولا تكتمل حلقات الخروج من هذا المأزق إلا بتطوير العملية التعليمية، والتي هي أساس التقدم والانتماء إلى العصر، وإحياء قيم الثقافة والحضارة الإسلامية المتسامحة والمواكبة للتغيرات. إن علينا أن نعيد النظر في كل المناهج الدراسيـة التي تبتعـد عن العقـلانية، وتجنح إلى الأسطوريـة، بما في ذلك تلفيق أحداث التاريخ والتغني بالانتصارات غير الحقيقية والابتعـاد عن المنطق في تقييم الإنجازات. إننا في مواجهة ظاهرة تعادي العلم والثقافة، أي تعادي العقل، وعلينا تأكيد قيمة هذا العقل.

ثم يأتي الوعـد الذي طال تـأجيله طويلا.. الديمقراطية.. القضية التي يجب أن نتعامل معها بجـدية وليس بإطلاق الشعارات حـول الحرية والتعـددية والـوفاق الـوطني، كل هـذه الترهـات التي لم تنتج إلا المزيـد من التردي والاغتراب، الديمقراطية التي تتيح المشاركة الحقيقيـة لكل القوى الوطنية دون استبعاد أو هجر، وترفع من درجة الحس النقدي، وتدعم آليات الرقابة.

لقد بحت أصواتنا، ولكن البعـض لا يسمع هذه الأصوات، ولا أصوات دوي المتفجرات في الشـوارع، ولا يرى أجسـاد المثقفين الـذين يسقطون بلا ثمن. إن المستقبل الرمادي ينتظر الجميع - الحكـومات والجـماعـات، وأصحاب الفكر- ما لم نأخذ الخطوة المناسبة في مواجهة هذا العنف الذي لم يهدأ حتى الآن.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات