الآخر.. طالب الرفاعي

الآخر..

لماذا تأخـر - سيـدي - عن الحضور حتى هذه الساعة لاستلامي؟! هل عدل عن استقبالي؟! لا أدري ما الذي ينتظرني؟! الخوف ينهش قلبي! ماذا لو لم يجئ؟! إلى أين أولى وجهي؟! هل سيرجعـونني إلى بلدي؟! الظلام بدأ يهبط خارج قاعة المطار..

كأني أشعر بثقل ذلك المساء! كـان حارا ورطبـا، وقد تعرفت جدران حجرتنا الطينية. تخثر هواؤها، تشبث يلتصق أركـانها الكابية.. كنا جـالستين جارتي الحولاء هيومي وأنا، خـائبتين نجتر من طبق همومنا الرائب. التمعت لبرهة ظلال حيرة في عينيها. دنت مني. انبعث خرير صوتها، سألتني:

- لماذا لا تذهبين للعمل في الخليج؟!

- ...

فاجأني سؤالها. رفـرف فـوق رأسي. اكتمل الحول في عينيها. أردفت:

- أنت جميلة، وتتكلمين الإنجليزية!

-...

في ذلك المسـاء القـاتـم، صبت كلماتها في أذني. وغادرتني بعد أن بذرت فكرتها المحرقة برأسي!

ليلتها هجع كل من في الحجرة، واستفاق وجعي. لم يأتني النـوم. تـراقصـت الفكـرة أمـامي.. أخـذتني وانحدرت بي إلى هوة سحيقة. بقيت مؤرقـة. سافرت بعيدا مع أفكاري. اعتدلت - مرارا - أشخص متأملة أجساد أطفالي الثلاثة الهزيلة، وكأني أراهم لأول مرة! سهوت أتـابع شخير زوجي المتألم، وخشخشـة صدر عمتي المسلول!

شيء كـالوسـواس، داخلني في الأيـام التي تلت! استباحني. عشش تحت جلـدي. صار يصبح ويمسي، يوشوش في أذني .. أشعرني بمرارة وبؤس فقرنا المدقع! تمثلت حاجتنا وجوعنا الدائمين، من أين لنا أن نشبع، إن أنا لم أسافر؟! ركبني هاجس السفر. عبثت بي ظنوني ورغباتي.. حلمت أنني أعمل في الخليج، فأكسب ما يغير أحوال أسرتي، وأحوالي! ترددت - لفترة، أفاتح زوجي؟ حسبته سيعارض سفري. ابتعادي عن أطفالي وبيتي: وباردا جاءني جوابه، حـين ألمحت إليه. رد بحس محايد:

- لم. لا!

- ...

يا إلهي! إلى متى سأظل أنتظر؟! مئات الـوجوه - الغريبة - عبرت علي منذ وصول الطائرة التي قـدمت عليها فجر اليوم! جميع الفتيات والنساء اللاتي وصلن معي، نـادى عليهن الشرطـي. أو حضر من اقتـادهن خلفه.. أكثر من طائرة وصلت محملة بالخادمات.

على امتداد شهرين صحبت جارتي. هيومي، أفتش عن مكتب عمالة محلي، يقبل بتسجيلى ضمن كشوف راغبات العمل في الخليج .. الإجابة ذاتها ظلت تلطمني: - خمسمائة دولار مقدما!

-...

أدركت صعوبة سفرى، فزاد جنوني لتحقيقه!

أذكـر يـوم وقفت أمـام مكتب - العمل السريع - انـدسست بين عشرات الفتيـات والنسـاء، بنظـراتهن البائسة، أنتظر الدور لمقابلتي.. حين دلفت على مدير المكتب، أهملني، تركني واقفة، منشغلا بمكالمته الهاتفية. بدا رائقا، يلوك كلماته. بينما سبح مكتبـه برائحة دخان "البايب".. أنهى مكالمته بضحكة عالية.. فجأة خنس كل شيء. التفت إلي، راح يتفحصني بعينـين ذئبيتين.. أخافني تحرشـه. خفضت راسي. بـادرني، سألني عن مـؤهلي الدراسي. خبرتي العمليـة، حالتي الاجتماعية، عمري، ديانتى.. انقطع لـبرهة، قبل أن يفلت بصوت معدني: - أربعمائة دولار.

-...

بقيت سـاكتـة. عـاد يمسـح جسـدي بنظـراتـه الدبقة. شممت رائحة ما. خاطبني:

- أتتكلمين الإنجليزية؟!

هززت رأسي. أدفع بكلمتي:

- نعم.

تلمظ الصمت بيننا، تناول هو البايب، عب نفسا طويلا. نفث دخانه، قائلا:

- سأساعدك بخفض المبلغ..

وأردف:

- ثلاثمائة!

لم أجد ما أرد به. فأضاف:

-.. يمكنك تقسيط المبلغ على ثلاثة أشهر!

- من أين لي؟!

- من راتبك في الخليج!

لم تكن تلك الفكرة قد خطرت لي على بال. استعطفته حالي. انكسر صوتي:

- أرجوك ساعدني!

نفرت دموعي.. مسد شاربـه. اشتطت عيناه، زحف علي هاجس بلبلني.. ملتويا انسل حسه:

- مائتان وخمسون..

ظلت جملته مفتوحـة. تلاقت نظراتنا، قشعريرة باردة سرت بظهري. فح قائلا:

- وأنت!!

أحسست أن ركبتي تصطكـان. رجعت إلى الـوراء، بلعت ريقي وإهانتي. دار بي المكـان، خرجت دائخة، أجرجر خطواتي المهدودة..

ها هو الشرطي القصير يدخل مجددا إلى القاعة، حاملا أكثر من ورقة "فيزة" بين يديه. يحاذي الفتيات، يتفحص وجوههن، يلكز الغافيات، يستنهضهن مغمغما:

- ها!

الفتيـات يتحلقن حـولـه، يزجـرهن بتأفف واضح. يبعدهن عنه.. هل جاء من يطلبني؟! الشرطي ينادي على الأسماء، بلكنته العربية التي أجـد صعوبة في التقـاطها.. يصطحب أربع فتيات، ويغادر القاعة متجهما!

ليلة البـارحة، ظلـت عمتي تحوم حـولي.. انتزعت روحي من بين أطفالي النيـام، تشممتهم، طبعت قبلاتي الدامعة على خـدودهم، تمليت وجوههم المسـالمة، كنت خـائفة ألا أراهم ثانية! استحلفت عمتي - العجـوز - السهر على رعايتهم، أوصيتها تفهمهم أنني ذاهبة لأعمل في العاصمة، وأنني سأعود إليهم محملة بالهدايا والألعاب الملونة!

جنني حلم السفر، ظل يحفـر بي، يأخـذني لأصقـاع بعيدة! فتح عيوني على أمور لم تكن تستوقفنى من قبل.. كرهت معيشتنا، زوجـي وأطفالي وعمتي وانا، ننحشر كـالفئران في حجـرة واحـدة! راقبت لقيمات الطعام - العزيزة - التي يتخاطفها أطفالي، وبالكـاد تسد رمقهم! ملابسنا العتيقة البالية! اقتراب موعد تسجيل ابني البكر في المدرسة! صار حصولي على فيزة العمل هو الأمنية. ظل طلب المدير يطن برأسي، يعلو فوق كل صوت، وفي النهاية، أقنعت نفسي، قلت في سبيل سعادة أطفالي، يهون كل شيء!! حـين استوت الطـائرة على أرض المطار فجـر اليوم. لحظتها شعرت أنني انقطعـت - نهائيا - عن أهلي ووطني! هاضت بصدري عبرتي، نشبت بي مخالب خوف أسود.. كثيرة هي القصص والحوادث التي سمعتها، عن معاملة الخدم القاسية!

استقر بنا المطاف في قـاعة انتظار القادمين. ولم أزل أرقب وصول سيدي الذي أجهلـه ليصطحبني خـادمة لأسرته..

طوال أربعـة أشهر، انطـويت على سري وغصتي. استباحني المديـر أكثر من مرة، كان آخرها قبل أسبوع، مساء سلمني الفيزا! قال بنبرة خبيثة:

- النقود مبذولة هناك! كوني ذكية وستكسبين الكثير!

كنت تصورت نفسي أطير فـرحا، بتسلم فيزة وتذكرة سفري! ولكـن لحظة تسلمتهما نزل علي حـزن ثقيل. غادرت المكتب مسرعة، ابتلعنى ظلام وضجة الطريق... حثثت الخطى لبيتي. بعدت علي حجرتي الصغيرة. تخيلت حضنها مشرعا بانتظاري: حوائطها الحنون. وامتلاؤها بلغط وصراخ أطفالي.. تراكضوا.. هبوا لملاقاتي. أخذتهم لصدري، أضمهم لقلبي. أشبع من وجوههم الحبيبة!

الشرطي يدخل القاعة.. ما الذي ينتظرني هنا؟! كأني أسمع اسمي! ما بالي بدأت أرتجف؟!

 

طالب الرفاعي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات