"وأذكـر الآن يـوم
أن اشتركت في أول مظـاهرة.. كـان ذلك في مدرسـة الحسينيـة الابتـدائية.. حين وقف
بيننـا زعيم الطلبة وكـان أكبر مني سنا.. وبلغنا أن هناك خـلافا بين الملك فؤاد
وبين سعد زغلـول.. وسبب الخلاف هو من يكـون مصدر السلطات: الأمة أم
الملك؟.
والحق أن حماسـة
"عبدالمنعم" - وهذا هو اسمه - كـانت تدعو إلى الإعجـاب.. الأمر الذي جعلني لا أخشى
شيئا- بالرغم من أن عمري في هذه الفترة كان بين العاشرة والحادية عشرة - عندما طلب
منا أن نتبعه للتوجه إلى ميدان عابدين.. حيث قصر الملك".
من حـوار نجيب
محفوظ مع سامح كريم - كتـاب " الرجل والقمة " ص 34.
"كان بطلا من
الأبطال في حياتنا الصغيرة بالمدرسة الابتدائية ما بين عـامي 1921 ، 1925، كان
يكـبرنا بأعوام وكـان قويا طويل القامة، ومنذ أول يوم لنا في المدرسة قيل لنا إنه
زعيم التلاميذ بالمدرسة. وكنا نلتف حوله في فناء المدرسة ونتـابع كلامه باهتمام "،
"وتحت زعامته اشتركت في أول مظـاهرة في حيـاتي عام 1924".
فصل "نادر برهان"
رواية "المرايا"
هي واقعـة
الاشتراك في أول مظاهرة، قادها "عبدالمنعم" في الواقع، كـما أوردها نجيب محفوظ في
حواره، كملمح من أيام طفولته، ثـم الوجه الفني المقابل لها، حين تناول ذات الواقعة
في رواية "المرايا" (1972) مكنيا إياه "نادر برهان" وموسعا من حكايته.
ما هي الثوابـت
والمتغيرات في هذه المعالجة؟ وهل امتدت ظلال تلك الواقعـة إلى أعمال أخرى له؟ وما
هي تلك الأعمال؟ وما أوجه الاختلاف في المعالجة؟.
وأخيرا ما هو
منظور (الإبداع) الذي يجمع بين دفتيه تلك التنويهات المختلفة؟!.
نحن هنـا في
مواجهـة المادة الخام، النبع الأصلي، الحدث الواقعي الذي عايشه نجيب محفوظ طفلا في
مدرسته الابتدائية. وظل حيا في (ذاكرته)، مشكـلا المادة الأساسية لإحدى شخصيات
"المرايا". ثم امتدت أصداؤها إلى عدد من أعماله الأدبية الأخرى.
ولنتوقف أولا أمام
عـدد من العـوامل التي ثبتت تلك الـواقعـة في (ذاكرة) نجيب محفـوظ، أول تلك العوامل
أنها أول مظاهرة اشترك فيها وهو طفل صغير في المدرسة الابتدائية، والتجربة الأولى
في أي مجال يظل لها ألقها وبريقها الذي يبقيها حية مؤثرة في خيالنا.
وهي أول تجربة له
في اقتحام (العمل السياسي) مجال (الكبار) المحفوف بالمخـاطر، إنها نقطـة تحول فاصلة
على طريق الطفولة والنضج، وخروج من عالم الطفولة (المدرسـة الابتدائيـة) إلى عالم
الكبـار (المجتمع)، في محاولة لإبداء الرأي وتحقيق الذات. كيف عالج نجيب محفوظ تلك
الواقعة وصاحبها في رواية "المرايا"؟.
اتسمت معـالجة
نجيب محفـوظ الفنيـة بعـدد من الثـواب والمتغيرات. أما الثوابت فقد أبقى على أهم
صفـة في زعيم المدرسـة الابتـدائية - كما أوضحها في حواره - وهي أنه "كـان أكـبر
مني سنا" فإذا به يحولها في "المرايا" من المقارنـة الذاتية المحدودة إلى مقارنة
عامة، مع تدعيم ملامح الزعامة فيه "كـان يكبرنا بأعوام، وكان قويا طويل القامة،
ومنذ أول يوم لنا في المدرسة قيل لنا إنه زعيم التلاميذ".
أما أول المتغيرات
فامتدت إلى الاسم فبدلا من "عبدالمنعم" إذا هو "نادر برهان"، واختيار اسم الشخصية
عادة عند نجيب محفوظ له دلالة فنية. وهو هنا يعكس (ندرة) وجود مثل هذا النموذج في
المدارس الابتدائية، وهـو (برهان) على مشاركة نجيب محفوظ في العمل السياسي منذ
يفاعته الأولى!.
ثاني المتغيرات
هـو لقب هذا الزعيم، ففي حـين كان في الحوار "زعيم الطلبة" وهو تعبير يميل إلى
التعميم، ربما لبعد الفترة الزمني، كـما أن معنى (الطلبة) ينصرف إلى الدارسين في
المراحل التعليمية الثانوية والعاليـة، نجد أن نجيب محفوظ عند الكتابة الأدبيـة في
"المرايا" يتحرى الدقة، فإذا هو "زعيم التلاميـذ" أولئك الذين يدرسون في المدرسة
الابتدائية.
توظيف التفاصيل
الصغيرة
انظر إلى توظيف
التفـاصيل الصغيرة، حتى تتراكم ملامح الشخصية، ويكتمل رسمها فنيا، ويصبح الجو مهيئا
للدخـول إلى خضم الواقعة الأصلية: "تحت زعامته اشتركت في أول مظاهرة في حياتي عام
1924. دعانا إلى الإضراب وخطب فينا قائلا: إن الملك يريد أن يتلاعب بالدستور وأن
سعد زغلول رئيس الوزراء - تلك المرة - يقف في صـلابة للدفـاع عن حقوق الشعب، وأن
علينا أن نذهب إلى ميدان عـابدين لتأييد الزعيم ".
كان نجيب محفوظ
يهتم بتتبع أعمال الفنانين الشبان خاصة تلك التي يستوحون رسومها من روايته
ولنتوقف هنا أمام فرق جوهري في الحافـز على
الاشتراك في المظاهرة، فبينما كـان الحافز في الحوار هو حماسة زعيم التلاميذ التي
تدعو إلى الإعجاب، "الأمر الـذي جعلني لا أخشى شيئـا" هنـا تصرف نجيب محفوظ بـوحي
من تأثره الذاتي، (ربما تحمسا أيضـا) منفصلا أو متناسيا الواقع الخارجي للمدرسة.
الذي يمنع خروج الأطفال الصغار. لذلك كان منطقيا، حين تصدى للكتابة، أن يستكمل
إقامة بنائه الفني موفقا بين قنـاعته (الذاتية) وقواعد المدرسة، بأن يضع تبريرا
لخرقها "ولما كـانت حكـومته - الزعيم - شعبية لأول مرة، ولما كان رئيسها هو وزير
الداخلية، فقد سمح لنا بالاشتراك في المظاهرة باعتبارها مظاهرة سلمية".
نقطة أخرى لابد من
إثارتها هنا، وهي عمر نجيب محفوظ عندما اشترك في تلك المظاهرة. ولعل الفيصل هنا هـو تحديد الواقعـة التاريخيـة (زمنها
الحقيقي) التي استدعت خـروج تلك المظاهرة مع مظاهرات أخرى إلى ميدان عابدين. وهو
يتطلب بـالتالي تحديدا لأهم ملمح في تلك المظاهرات، يساعدنا في الاستدلال على
موقعها وزمن حـدوثهـا تاريخيـا. لقـد أوضح نجيب محفوظ في حـواره السابق "فقط كنت
أعرف أنه ينبغي الـوقـوف إلى جـانب سعد وترديد كلمات (سعد أو الثورة)" كـما ورد في
رواية "المرايا" : "رحنـا ندق باب القصر بأيدينا ونهتف (سعد أو الثورة) "، ثم
امتـدت أصداؤها إلى روايته الأخـيرة " قشتمر" (1988) - التي يسرد فيها الراوي (نجيب
محفوظ) تاريخا لعدد من أصدقائه في العباسية - "وفي ذلك الوقت اشتركنا لأول مرة في
مظاهـرة وطنية. لم نعـد أطفـالا من ناحيـة والمظاهرة مأمونة العـواقب من ناحية
أخرى، فوزارة الداخلية هذه المرة بيـد زعيم الأمة ورئيس الوزراء. في أثناء طابور
الصباح خـرج رئيس الطلبة وصاح بصوته الجهوري: "إضراب". واندفعـت الصفوف نحـوه في
عجلة ولهوجة فخطبهم مركزا على أزمة بين الزعيم والملك وأن على الشعب أن يتجمع في
ميـدان عابدين لتأييد الزعيم دون قيد أو شرط. وماج الميـدان بالخلق من كل صنف، كيوم
الاستقبال، ولكنـه يفور هذه المرة بالغضب، ويهتف من أعماقه (سعد أو الثورة) ". أما
في رواية "حكايات حـارتنا" (1975) في الحكاية رقم (19) نجـده قـد ركـز على اشتراك
الـراوي (نجيب محفـوظ) في المظـاهـرة (الكـبرى) محاولا كشف أهم أبعادها من خلال
حوار مع الأب، حين يوضح الابن (نجيب) بعد اشتراكه في المظاهرة:
" - رئيس الطلبة،
قال إن سعـد زغلول قدم استقالته احتجاجا على موقف الملك من الدستور، وإننا ذاهبون
لتأييد الزعيم ".
وحين يتساءل أبوه:
"عظيم، وماذا كـان هتافكم في عابدين؟.
- سعد أو
الثورة".
إذن لقد اتضح
السبب أخيرا، حين قدم سعد زغلول استقالته احتجاجا على موقف الملك، فتعالت هتافات
الجماهير المؤيدة: (سعد أو الثورة). فإذا رجعنا إلى كتاب "في أعقاب الثورة المصرية
للمؤرخ عبدالرحمن الرافعي لوجدنا أن تاريخ استقالة سعد هو 15 نوفمبر 1924، التي
قدمها الزعيم للعمل "على تدعيم الحياة الدستورية" وعلق استردادها على قبول الملك
لعـدد من المطالب، فقبلها الملك وانفرجت الأزمة.
إذن جرت المظاهرة
في عام 1924، وهو نفس التاريخ الذي أورده نجيـب محفوظ في "المرايا"، لأنه حين يكتب
يلتزم بتواريخ الوقائع الخارجية كأي فنان. وكان عمره عندئذ ثلاثة عشر عاما، على عكس
ما أورده في حواره مع سامح كـريم من أن عمره كـان بين العـاشرة والحادية عشرة.
وكـان فعلا في المرحلـة الابتـدائية كما بـين في "المرايا" ما بين عامي 1921، 1925
".
إلى هنا كان
انعكاس الواقع في لا المرايا" و"حكايات حارتنا" متعاد لا، بمعنى الالتزام بزمنه
الخاص وعمره لحظة تزامنه مع المظاهرة وتاريخ استقالة الزعيم. لكنه في رواية
"قشتمر"- التي كتبهـا تمجيدا للصداقة في "كـمالها وأبـديتها" حول أربعـة من أصـدقاء
عمره في العباسـية- لم يلتـزم بالـوقائع التاريخية الخاصة به (المدرسة الابتدائية
وزمن مرحلتها، وإن التزم بطبيعة الحال بتـاريخ استقالـة النحاس) حين أوضح أنـه
وأصدقـاءه "التحقنا بمـدرسـة فؤاد الأول الثانـوية لنمضي بها خمسة أعوام لـا بين
1923، 1928، وأنهم بعد أن عرفوا مقهى "قشتمر" في أواخر عام 1923 أو أوائل 1924 لما،
"في ذلك الوقت اشتركنا ولأول مرة في مظاهرة وطنية."
تحوير مفردات
الواقع
هنا حـور نجيب
محفوظ في بعض مفردات واقعه الخاص، وللفنان الحق والحرية في تعديل معطيات عالمه
الخاص، الـذاتي وفقـا لمنطق ومتطلبـات الفن. ولعل ا نجيب محفوظ عند كتابته "قشتمر"
(1987) كان قـد تحرر من آثار رغبته القديمة في تأكيـد مشاركته السياسية في العمل
الوطني طفلا صغيرا، بعد أن أثبتها في أكثر من عمل. ولعله اعتبر أن المهم هو
الاشتراك ذاته إضافة إلى أن تلك المشاركة تعتبر حلقة (ثانوية) في سلسلة طويلة من
الأحـداث في "قشتمر". لكنه - في ذات الوقت - حافظ على إبراز الحافز الحقيقي
للاشتراك في المظاهرة، وهو الانسياق وراء حركة المجموع، الذي أعلنه سافرا واضحـا في
حواره مع سامح كـريم: "الرجل والقمة" ص 34 حين قال: "لقد كنت منساقا وراء هذه
الجموع.. المتوجهـة إلى عابدين لتـدعيم موقف زعيمها سعـد زغلول.. فلم أكن أميز ما
أقوله.. فقط كنت أعرف أنه ينبغي الوقوف إلى جانب سعد وترديد كلمات "سعد أو الثورة"
وأعتقـد أن آلافا من الناس صغـارا مثلي وكبارا أيضا كانوا مندفعين نفس
الاندفاع".
أما في أعماله
الفنية المتعاقبة حـين عرض تلك الواقعة، جنح إلى اللا مباشرة التي هي جوهر الفن،
فتوالت تلك الأصداء غير المباشرة، عبر تنويعات مختلفة تعزف ذات النغمة، فبينما لم
يرد لها ذكر في "المرايا"، نجد الأب في الحكاية رقم (19) من "حكايات حارتنا" يحاصر
الابن (نجيب محفوظ) حـين يسأله:
"هل عرفت وجه
الخلاف بين سعد والملك؟.
وأتوقـف عن
الاسترسال مرتبكـا فيضحك أي ولكني أبادره:
- نحن مع سعد وضد
الملك!".
لقد انساق الطفل
مع المجموع دون أن يدري، لأن وعيه كطفل كان قاصرا عن أن يستوعب تلك الحقيقة، ولعل
الانسياق إلى حركة المجموع هو ما جعل نجيب محفوظ ينقل هذا الفعل من المدرسة
الابتـدائية إلى المدرسة الثانوية في رواية "قشتمر"، تدليلا (بشكل عام) على أن
العمر لا يؤثر على انقياد الفرد إلى حركة المجموع. وأن أضاف فيها تنويعة أخرى لذات
المغزى. وانظر لهذا المقطع من "قشتمر":
ولدى عودتنا سأل
صادق صفوان: - ولكن ما أسباب الأزمة؟.
ووضح لنا أننا لا
ندري عنها شيئا ولكن إسماعيل قدري قال بحزم:
- نحن على أي حـال
مع سعـد لسبب ولغير سبب وضد الملك بسبب وبغير ما سبب..
واتفقت قلوبنا على
ذلك. ومما يذكـر أننا لم نعرف أسبـاب الأزمة أو لم نهتم بمعـرفتها إلا بعـد انقضـاء
أعوام طويلة ونحن نسترجع الأحداث بعد أن صارت تاريخا".
انظر لتعبير
"واتفقت قلوبنـا على ذلك"، فـالقلب تحفزه العاطفـة، بينما الوعي محلـه العقل. هنـا
انقيـاد عاطفي جامح حاول نجيب محفوظ أن يؤصل جذوره، حين أضـاف في روايـة "قشتمر" في
أعقـاب المقطع السابق: "في ذلك الزمان صهرنا الوفـد في أتون وطنيته فبعثنا على يديه
خلقا جديدا" ثم يستطرد "علمنا الوفد ماذا نحب ومـاذا نكـره، وبأي قـوة نحب وبأي
قـوة نكـره، واجتاحتنا القضية الـوطنية وملكت قلـوبنا وغطـت على الأسرة والمستقبـل
والأمـل الشخصي. واندفعنا مع طوفان الحزبية بنفس القوة والعنف".
هنا تصعيد محسوب
صنعه الفنان نجيب محفوظ على عدة مستويات، فبعد التعميم في الاندفاع وسط سباق حركة
المجموع دون وعي (كـما ورد في الحوار)، إذا بنجيب محفوظ يحاول أن يتفحـص أسباب هذا
الاندفاع وأن يلم بأبعاده وذلك في معمل فنه فإذا به يكتشف ان الانقياد إلى حركة
المجموع لا يخضع لمعطيات العمر، فالطفل الصغير في الابتدائي ينقاد كـما يحدث مع
الصبي أو الشاب في الثـانوي، كـما ينجـذب أيضا بقية الناس. وإذا ما حـاول (البعض)
تفهم الأسباب الكـامنة وراء هذه الظاهرة، فإنهم يرجعونها إلى اتفاق (القلوب) على
التوحـد مع الزعيم ضد الملك بشكل مطلق. وان كان نجيب محفوظ قـد بين مبررات التحـزب
للزعيم، في حواره السابق مع سامح كـريم، بشكل صريح مباشر حين قال "إن الذي أكد حب
سعد في نفوسنا.. البيت والشارع والمدرسة.. في البيت لا حـديث إلا عن سعد ومواقفه.
في الشارع ليس هناك من أخبار وتعليقات إلا عن سعد، في المدرسة لا ينتهي اليوم
الـدراسي إلا ونكون قـد ازددنا علما بـما يحدث بين سعد الذي يمثل الأمة في ذلك
الوقت. والإنجليز المحتلين."
إذن، لقد اتضحت
أبعـاد الموقف.. إنه حب الـوطن والانتماء له، ضد القصر والإنجليز، تفجـرت إيـمانـا
بحزب الأغلبية (الوفد)، وحبا متعصبا كاملا لزعيمه، كـان يحتم مناصرة مواقفـه دون
قيـد أو شرط، بحيث "ملكت القضية الوطنية "قلوبنا". وانظر إلى تكرار كلمة (قلوبنا)
موطن المشـاعر والأهواء، فبعد أن تتفق (القلوب) على القضية الوطنية، فإنها تسلس
قيـادها لها حتى تملكتهـا تمامـا، عنـدئذ يلغى العقل والمنطق، وتسقط حسـابـات
الأسرة والمستقبل والآمـال الشخصيـة، حيث يتحول الأفـراد (تلاميذ، طلبة، مواطنون)
إلى أجزاء ضئيلـة من (طوفـان) الحزبية الجارف، لتندفع الأجزاء بنفس قوة الطوفان
وعنفه!! وإذا كان نجيب محفوظ قد تحدث في حواره عن أول مظاهرة اشترك فيها في ميدان
عابدين، فإنه كشف فيه عن رغبته في مشاهدة الزعيم "ويشـد انتباهي مشهـد هذه السيارة
التي تشق طريقها بصعوبة بين هذه الكتل البشرية.. وسمعت من بجواري يقولون "غربية
سعد" وهنا لم أفكـر في شيء.. قـدر تفكيري في رؤيـة هذا الرجل الذي جـاء ليقابل
الملك.. ولكن كيف ذلك وسط هذا الزحام المنقطع النظير..
وأذكر أنني بذلت
محاولات لتقريب المسـافـة بيني ؟ وبين ركب سعد. وذلك بالتقدم إليه.. علي أصبح على
مدى النظر إلا أن المتظاهرين التفوا حول السيارة، وحجبوا عني رؤيتها.. وكم تأثرت
يومها.. لأنني لم أر سعد.. ويبدو أنني كنت لحظتها على حق.. فقد عاش بعد ذلك ومات
ولم يتحقق لي أمل رؤياه.. ".
وقد حافظ نجيب
محفوظ حين قـدم معالجته الفنية - في فصل "نادر برهانها " في "المرايا" - على جوهر
هاتين الواقعتين، مازجا بينهما، وإن مهد لبروز رغبته في رؤية الزعيم، طبقا
لاحتياجات الفن، من خلال حوار بينه وهو طفل صغير وبين زعيم التلاميذ: "أما إذا حدث
عن زياراته لبيت الأمة ومحاوراته مع الزعيم فكـان يبهرنا لحد الجنون، ونفد مني
الصبر فاقتربت منه ذات يوم وقلت:
- أريد رؤية سعد
بالعين فهلا أخذتنا إلى بيت الأمة؟ فنظر إلي بعطف وقال:
- مازلت صغيرا
تسير في بنطلون قصير، وزيارة بيت الأمة مغامرة خطيرة لا رحلة آمنة.. "
هذا الحوار كان
أداة ربط بين الواقعتين، وإضاءة لحب الزعيم المسيطر على خيال أجيال، وجسرا موصلا
لمحاولة مشاهدته فعلا. وانظر لتصويره - بعد ذلك - لاقـتراب تحقق الحلم أو الأمل:
"وترامى من بعيد هدير هتاف إيذانا بمقدم الزعيم لمقابلة الملك، واشتـد الضغط حول
ممر ضيق شقه رجال الشرطة بصفين منهم لتسير فيـه سيارة الـزعيم، وقلت لرضا حمادة
بسرور غامر:
- سترى أعيننا سعد
زغلول
فقال
بحماس:
- نعم ولو لبضع
ثوان..
وتسللنا بخفة
وعناد حتى بلغنا حافة الممر، ورأينا السيـارة قـادمـة ببطء شـديد والخلق يحيطـون
بها ويتعلقون بأركانها ويقفون فـوق غطائها. وتطلعنا بأعين ملهوفة نهمة ولكننا لم نر
إلا أجساد البشر ولم يتجل من الزعيم ملمح واحد، وبؤنـا بحسرة لازمتنا طويلا". هنا
تبدى نجيب محفوظ وفيا، مخلصا لتجربته، فلم يعبر إلا عما شاهده، وإن أضـاف بعض مقاطع
تتطلبها ضرورات الفن...
والآن، لابد أن
يراود القارئ سؤال مهم: ماذا كان مآل زعيم التلاميذ؟!. قدم نجيب محفوظ إجابته -
فنيا- في فصل "نادر برهان" في رواية "المرايا" ولننظر إلى تقلبات الدهر فيها، حيث
زعيم التلاميذ، الأكثر وفدية، يقف انتماؤه السيـاسي حجر عثرة أمام مستقبله، حين رفت
أكثر من مرة في عهود الوزارات غير الوفـدية، حتى اضطر إلى عدم إكـمال تعليمه
الثانوي، فعينـه الـوفـد وكيلا لجريدة الجهاد في الإسكندرية. كما اضطر إلى اعتزال
السياسة عام 1937، نتيجة وجود خلاف بين النحـاس (زعيمه) والنقراشي (أبيه الروحي)،
وصادف ذلك وفاة أبيه، فـورث مبلغـا من المال لا بأس بـه، وفتح مطعما للسمك في سيدي
جـابر، وفتـح الله عليـه فتزوج وأنجب ابنة وثلاثة صبيان. تزوجت ابنته في القاهرة.
أما أبناؤه فانظر وتعجب لحركـة مصائرهم، حـين أصبح أكبرهم سماكـا (ورث مهنة الأب)،
والأوسط مهندسا هاجر إلى كندا (النمـوذج المقابل للأب، الهارب من الانتماء للوطن)،
والأصغر ضابطه طيارا (نمـوذج عملي للانتماء) دفع حيـاته ثمنـا، حـين استشهد في سبيل
الوطن عام 1969.
لقد عاشت واقعة
اشتراك نجيب محفوظ وهو في الثالثة عشرة من عمر، في أول مظاهرة له تحت قيادة زعيم
التلاميذ، في (ذاكرته)، حتى إذا ما جاوز الستين من عمـره، فكـر في كتـابـة سيرة
(موضـوعيـة) للشخصيات التي مـرت في حياته في رواية "المرايا" (1972)، فكـان لا بد
أن يفرد فصلا فيها لزعيم التلاميذ بعد أن كناه "نـادر برهان" راسما أبعاد شخصيته
كزعيم بين التلاميذ، ومتتبعا أطوار حياته حتى النهـاية، وإن ركـز الأضـواء على
واقعـة المظاهرة والانطلاق إلى ميدان عابـدين، وفشل رؤية الزعيم، وعدم الوعي بأسباب
المظاهرة رغم انقياده لحركـة المجموع، والتي عاد إلى تقصي أبعادها في عدد من أعماله
بعد ذلك.
إذن، تلخص واقعة
الاشتراك في المظاهرات لأول مرة منظورا متكاملا للإبداع، فالفنان يبدأ من الواقع،
من مواد أولية (شخصيـة قابلها، أو حـدث معين) تعيش في (ذاكرته)، يؤرقه حملها سنوات
طويلة. فإذا ما نضجـت تلك المواد بعد انصهارها في أتون مخيلته الإبداعية، فإنه
يطرحها خلال أعماله، كي يتحرر منها، فقد تسيطر (واقعة) أو (شخصية) على عمل بذاته،
وقد تبرز جزئية محدودة في عمل آخر، وقد تظهر مجرد أصداء أو تنويعات في أعمال أخرى،
حتى يتكـامل تناول تلك (الواقعـة) أو (الشخصيـة) من مختلف الزوايا، عبر العديد من
الأعمال، على مدار فترات زمنية طويلة.
وليس حتما أن يكون
التناول الفني منتظما - كـما رأينا - فقـد عـالج نجيب محفـوظ مخاطـر الاشتراك في
المظاهرات في عمل مبكـر (بين القصرين)، بينما سلط الأضواء على الواقعة وقائدها
بعـدها بثلاثين عاما في (المرايـا)، ثم بدأ تحليل أبعـاد ظاهـرة الاشتراك في
المظاهرات والتعرف على أسبابها بعد ذلك بثلاث سنوات في (حكـايات حارتنا)، حتى
اكتملت رؤاه في آخر أعماله الروائية (قشتمر)، ليتحرر أخيرا منها.