قراءة نقدية في ديوان: راقصات نيلية علي عشري زايد

قراءة نقدية في ديوان: راقصات نيلية

ثنائية الحلم والواقع
للشاعر محمد إبراهيم أبوسنة

الشاعر أبوسنة واحد من أعذب الأصوات الرومانسية وأصفاها في شعرنا العربي المعاصرة، فهو فارس رومانسي لا يزال قادرا على الحلم في زمن عزت فيه حتى القدرة على الحلم، حيث يفيض شعره بكل نبالة الأحلام الرومانسية وكل جلالها دون أن يغرق في دوامات تهويماتها الهروبية السلبية.

و"رقصات نيلية" هو آخر ما أصدر أبو سنة من دواوين، وهو ثالث ديوان يصدر عام 1993 يدور عنوانه حول النيل، وقد سبقه "لانيل إلا النيل" لحسن طلب، و"لكم نيلكـم ولي نيل" لعبـد المنعم عـواد يـوسف. والديوان يستمد عنوانه من عنوان إحدى قصائده التي يحمل النيل فيها دلالة فنية رمزية خالصة تلخص الإطار العام للرؤية الشعرية في الـديوان كلـه، وهو الصراع بين الحلم والـواقع، فالديوان ليس ديوانا عن النيل، والنيل فيه ليس عنوانا على انتماء خـاص مقابل الانتماء العـربي الإسلامي، فتكـوين أبو سنة الثقافي والوجداني الـذي يضرب بجذوره الأولى العميقة في تربة تراثه العربي الإسلامي يجعله وفياً للانتماء إلى هذا التراث، معتزا بهذا الانتماء، ولكن دون أن يسلبه هذا الاعتزاز القدرة على رؤية ما ران على بعض جوانب هذا التراث من مظاهر الجمود والتخلف نتيجة لعجز الأجيـال المتعاقبـة عن تفجير طاقـات التجـدد الهائلة الكـامنـة فيه. ومن ثم فإن الشاعر لا يفتأ يعري هذه المظاهر ويسلط عليها من لهيب غضبه الغيور ما يـذيب عن نفـاسـة الجوهر الأصيل ما تراكم عليها من صدأ الجمود والتخلف. وكثـيرا ما يحس الشاعر أن مظاهر التخلف من التراكم والكثافة، بحيث تعجز نيران غضبه عن النفاذ منها إلى أصالة الجوهر ونقائه، فيرتد محبطا كسيفا يرثي نبالة الجوهر المطمور دون أن يـدفعـه إحساسـه الثقيل بـالإحبـاط إلى السقوط في هوة التنكـر لهذا التراث. وداخل هذا الإطار العام لرؤية الشاعر في الديوان كله - الصراع بين الحلم والواقع - يتشكل طرفا الصراع في صـور وأشكـال فنيـة كثيرة، ويتجسدان في رموز وأقنعة عديدة.

وفي "رقصات نيلية" يرمزالنيل إلى الطرف المشرق من طرفي المفارقة - الحلم أوالمثال - على وجه حين يتجسد الطرف الآخر - الواقع - في مجموعة من العوائق والعقبات التي تحاول أن تثني النيل عن غايته النبيلة، ولكنه لا يعبأ بها ويمضي إلى هدفه في ثبات. فالنيل في القصيدة رمز للقوى النبيلة، وهو يقوم بهذا الدور العظيم دون أن يحفل بأي عقبات تعترض طريقه، أو عوائق تحاول أن تعوق مسيرته المعطاء، فـ "لا السيوف على رأسه أوقفته ولا الطين في قلبه يقعده " لا الإرهاب ولا الظلم، ولا حتى الجمود المتمثل في الطين الذي يغص به قلبه - لا شيء من ذلك كله بقادر على أن يثني النيل عن غايته، بل إنه قادر على تحويل الأغلال إلى أساور تزين معصميه:

عابث يشتهي أن يكون طليقا
حين تهوي القيود
على معصميه فيجعل منها أساور فوق الزنود
....... والعصور
التي حدقت في مراياه ترتد مقهورة
والظلام يراقص أحلامه، والنجوم بذور

وفي رؤية شعرية لها مثل هذه الطبيعة الثنائية من الطبيعي أن يكون تكنيك "المفارقة التصويرية" التي تبرز المفارقة الأليمة بين بعدين متقابلين هو أداة الشاعر الأولى في التعبير عن أبعاد هذه الرؤية، أو عن بعديها الأساسيين: الضيق بقتامة الواقع، والتغنى بنبالة الحلم، وهما بعدان رومانسيان أصيلان كساهما ابو سنة ملامح واقعية واضحة، واستخدم هذا التكنيك الشعري في معظم القصائد لتجسيدهما.

أدوات الشاعر

وتختلف صور المفارقة وأشكالها في الديوان باختلاف طبيعة الرؤية في كل قصيدة، كما أن الشاعر جعل المفارقة في القصائد التي اعتمد في بنائها على هذا التكنيك إطاراً تعبيرا عاما تتعانق فى داخله كل الأدوات الشعرية الاخرى من صور ورموز وموسيقى وإشارات تراثية ... وغير ذلك. يطالعنا هذا التكنيك منذ القصيدة الأولى في الديوان "زهرة الأقحوان" وهذه الزهرة ترمز في القصيدة للشاعر ولكل القيم الجميلة التي عشقها وعاش لها وتغنى بها، وتمثل الطرف المشرق الوضيء من طرفي المفارقة، أما الطرف الآخر فيتمثل في مظاهر دمامة الواقع التي تحيط بالزهرة وتحاصرها وتكاد تخنقها، وتحمل هذه المظاهر بدورها دلالات رمزية، وتأخذ المقابلة بين الطرفين صورة الصراع الذي يكسب بناء القصيدة مسحة درامية.

وتبدأ القصيدة بتصوير الواقع الجهم الذي يمثل الوجه الكابي من وجهي المفارقة:

وحدها في البراري يحاصرها الشوك، تأكل
أحداقها... زهرة الأقحوان
تتذكر عند المساء الذي فاض في قلبها بالأسى...

وفي مقابل هذا الوجه الكابي الذي يستمد ثقله وقتامته من كونه يمثل واقعا ملموسا ماثلا يطالعنا الوجه الآخر - الحلم - في صورة ذكرى تجول بخاطر الزهرة وهي تعيش وحدتها القاسية حيث:

... تتذكر بعض القلوب الرحيمة تلمسها في حنان
حين كان الأمان
وارفا، وأغاني الكمان
تصطفى عودها لتراقصه، والندى مهرجان

وهكذا يتألق هذا الوجه بكل بهجته وحبوره، ولكنه يظل في النهاية مجرد ذكرى في مقابل الوجه الآخر الذي يتجسد واقعاً ثقيلاً باهظاً.

ويعمد الشـاعر بعـد ذلك إلى أسلوب آخر من أساليب بناء المفارقة بعد أن اعتمـد في مطلع القصيدة على وضع كل طرف من الطرفين بكل ملامحه في مقابل الطرف الآخر بكل ملامحه، ويتمثل هذا الأسلوب الآخر في أخذ ملمح من ملامـح أحد وجهي المفـارقة ووصفـه بإزاء الملمـح المقابل له في الـوجـه الآخـر، فالوجوه الحانية لم تعـد منذ غابت، والنسيم الرخي البليل جف، وماء الغدير هاجر، والبـدر الذي كـان يسبح بين تلافيف أوراقها لن يعود...

تتذكر هذي الوجوه التي لم تعد منذ غابت
والنسيم الذي جف، ماء الغدير المهاجر، حلم الزمان
..............

براءة الماضي وأخطار الحاضر

وإذا كان طرف الحلم في معظم القصائد يمثل الوجه المشرق من وجهي المفارقة على حين يمثل طرف الواقع الوجه القاتم لها فإننا نجد هذا النهج ينعكس في بعض القصائد حيث يمثل الحلم وجه المفارقة الكابي، وذلك في القصائد التى يكتشف فيها الشاعر أن حلمه كـان حلما زائفا معكوساً، وأن الواقع الذي هرب منه إلى ذلك الحلم أكثر منـه وضاءة وإشراقا، وذلك كـما في قصيدة "الرحيل المباغت" التي يكتشف فيها الشاعر أن الحلم الذي هرب إليه من واقعه القاسي أكثر قسوة من هذا الواقع ذاته، وأن واقعه أكثر حنوا عليه وبرا به من هذا الحلم القميء، وأنه يتشبث به ويدعـوه إلى الصمود والعمل من أجل تغيير دمامته إلى وسامة وقتامته إلى وضاءة:

أرضي تناشدني: انتظرتك أن تجيء، فهل تروح؟!
إني انتظرتك فانتظر
من ذا يبلغني المرام إذا طـويت عهودنا
ومضيت تلتمس الخسارة في الظفر؟!
من لي إذا الليل اعتكر؟!

ولذلك فـإن الشاعر يعتبر الهروب من ذلك الواقع على قسوته جريمة "هذا الرحيل جريمة".

وإذا ما تركنا تكنيك "المفارقـة التصويرية" الذي اعتمده الشـاعر إطارا تعبيرا عاما يحتضن قطبي رؤيته في الديوان فسنجد كـل الأدوات والتكنيكات الشعرية الأخرى تصب في هذا الإطار، وترفد وظيفته الإيحائية بمدد من الإيحاءات الجزئية التي تنـدمج في هذا الإطار العام وتشكل ملامحه التفصيلية.

المعجم الشعري

وإذا ما بدأنا بالمعجم الشعـري في الديوان وجـدناه يعتمد بشكل بارز على مجموعة من الثنائيات اللغـوية التي تقوم على علاقة التضاد، الأمر الذي يلائم تكنيك المفارقة التصويرية من نـاحية، ويلائم من ناحية أخرى الطبيعة الثنائية للرؤية الشعرية في الديوان.

ولعل أكثر هذه الثنائيات بروزا في الديـوان ثنائيـة "النور/ الظلام " حيث لا تكاد قصيدة في الديوان تخلو من مجموعة من المفردات المحـورية المستمدة من نطاق هـذه الثنائيـة سـواء بطريق الترادف أو التضـاد أو الاشتقاق أو غير ذلك من العلاقات اللغـوية، ولعل الشاعر كان مدركا - ولو بطريقة مبهمة - دور هـذه الثنائيـة بالـذات - ثنائيـة النور والظلام - في التعبـير عن أبعاد رؤيته الشعرية في هذا الديوان حين قـال في ختام مقدمته التي تحمل عنوان "مفتتح ": "قد يكـون الشعر صرخة الملاح الأخـيرة في مواجهة الموج العالي، ولكنه في نفس الوقت كهف النجوم التي يدخـرها الشاعر لليل حتى يصنع منها نهاره الجديد". وربما لم يستطع الشاعر - في هذا الديوان - أن يصنع من نجـومه نهارا جديدا يبدد ظلمات الليل، حيث ما زال إحساسه بجثوم الليل وثقله أقـوى من أشعة نجـوم الحلم التي يحاول أن يبـدد بها ظلماته، ولكن يقين الشاعر ببزوغ النهار ظل بالمقـابل يتحدى كثافة الظلام على امتداد الديوان.

وقـد استطاع الشـاعر أن يمزج بين محوري هـذه الثنائية وكل الثنائيات الأخرى في الديوان، وأن يضفي على كل محور فيها ملامح من المحور الآخر.

ولنقرأ هذه الصور التي ترد كلها في قصيـدة واحدة من قصائد الديوان هـي قصيـدة "غانية في مقهى" وتستمد كل موادها من نطاق ثنائيـة "النور والظلام" لندرك مدى نجاح الشاعر في تطـويع مفردات هـذه الثنائيـة إلى حد شحن مفردات كل طرف من طرفيها بإيحاءات الطرف الآخر المضـادة لـدلالتها الوضعية لتتسع لاستيعاب أبعاد رؤيته: "قنديل مطفأ" "رجل في زاوية معتمة" "كي تولد شمس صغـرى" "يطلع من أجنحة الليـل ويهوي في عينيه قمر كـذاب" "ليل يعتنق نهارا" "هل نسأل تلك الريح عن الفجر القـادم؟ تلك رياح تتهتك في ليل شتوي" "يحاول أن يتحسس نور العينين المطفأ" "ومض شعاع لاح وراح" "قمر يتهادى لا يعرف وجهته" "كواكبهـا صلصلـة الأجراس الواهنة".

لقد عبث الشاعر بالمفردات المستمدة من نطاق محور النور ليكسبها دلالات عكسية تلائم طبيعة الرؤية في القصيـدة التي يغلب عليهـا طـابع مأساوي قـاتم، فالقنـديل "مطفأ"، والقمر "كذاب"، والنهـار "يعتنقه ليل" - ولنـلاحـظ أن الليـل هو الإيجابي في العملية الإسنادية في الصورة وأن النهار هو العنصر السلبي - ونـور العينين "مطفأ"، والشعاع الـذي لاح "راح"، والقمر الذي يتهادى ضال "لا يعرف وجهته"، وهو بعد ذلك "يتداعى يسقط فوق جليد الأعتاب".

وحتى مـلامح النـور التي نجت من هـذا العبث التصويري البارع الـذي عكس دلالتها تبدو شـاحبة مهتزة، فـالشمس المأمـول ولادتها "شمس صغرى"، وهي فوق ذلك سوف تولد - إذا ولدت - "في قلب مختنق" لا يدري أحـد إذا كـانت أشعة هذه الشمس الوليدة الصغرى ستنتصر على ظلمات اختناقه فتبددها أم أن هذه الظلمات هي التي ستنتصر عليهـا فتخنقهـا معها.وأخـيرا فإن الريح التي يحاول الشاعر أن يسألها عن الفجر القادم ريح متهتكة "تتهتك في ليل شتوي".

وعلى هـذا النحـو البارع يمضي الشـاعر في تشكيل صورة من مفردات هذا المعجم ليشحن أشد مفرداته بساطة بأغنى الإيحاءات والدلالات.

الشاعر وتشخيص الصور

ونلاحظ أن أبوسنة يعتمد في بناء الصور اعتمادا كبيرا على التشخيص حيث يشخص المعاني التجريدية والأحـاسيس والهواجس النفسيـة ومظاهر الطبيعـة الجامدة في صـورة كائنات حية، وليس هذا بمستغرب من شاعر رومانسى النزعة كشاعرنا، فالتشخيص وسيلة رومانسية اصيلـة. وكثيرا ما يبني الشاعر قصيدتـه على صورة تشخيصية كبرى تشمل القصيدة كلهـا، وتتعـانق في داخلها مجمـوعـة من الصـور التشخيصية الجزئية التي تحدد ملامح الصورة الكبرى وملامحهـا التفصيلية، وذلك كـما في قصـائد "زهرة الأقحوان" و"أنثى مختار" و"رقصـات نيلية" و"قم يا وطن" وغيرها.

في قصيدة "أنثى مختـار" يشخص الشاعـر تماثيل النساء عند مختـار وينفث فيها حيوية عارمـة، حيث "تهب في الليل الحزين/ أنثى من الحجر الكتوم/ أنثى تهب من الخرائب ملء زينتهـا..." وتتـوالى الصـور التشخيصية الجزئية لتـدعم هذه الصورة العـامة، فنجد تماثيل الفلاحـات "يسكبن في جوف الجرار/ مهجـا تـذوب من الجوى..." ونجـد أنثى مختار الحجـرية "تنـاشد الشعب الكظيـم/ أن يشعل العزم المقـدس في الهشيم...تدعو البلاد لأن تقوم ".

وفي قصيدة "قم يا وطن لما يشخص مصر في صورة حبيبة حزينة مهضومة - وهي صـورة ولع الشاعر بترديدها في مختلف دواوينه- وهو يهيب بها أن تنهق! وتنفض عنها ذل الضعف والاستكانة "سأصرخ حتى تبوحي بسر سوى الدمع" "هذا هو الحلم يبعث..شوق قديم...ليوم تقومن فيما) "لا تقبلي الذل تحت سنابك هذي المصائب، لا تقبلي غير سيف العزيمة منتصبا في عراك الـوجود" "فلا تستنيمي لقرع المحن.وقومي من العجز، قـومي من الخوف، قـومي من الك ل، قـم يا وطن ".وهكـذا يختم القصيـدة بهذا الالتفات البلاغي البارع الذي ينتقل فيه من ضمير المؤنثة المخاطبـة إلى ضمير المذكـر، لأن هذه الوثبة التي تطالب بها الوطن تحتاج إلى عزمة رجوليـة باترة، بعد أن ظل يشخصـه طوال القصيدة في صورة محبوبة أنثى يغني لها ويهدهد أحزانها ويغريها بالتمرد على ضعفها واستكانتها.!

وإلى جانب التشخيص- الذي يعد الأداة الأساسية في تشكيل الصورة في الديوان- يستخـدم الشاعر مجموعة من الأدوات الأخـرى، مثل استخدام أسلوب المونتـاج التجميعي الـذي تشكل فيـه الصـورة من مجموعة من الشذرات المتناثرة التى تتوارد كلهـا على إحداث أثر نفسي معين، وهذا الأسلوب في تشكيل الصورة يستفيد فيـه الشاعر من أسلـوب المونتاج السينمائي ة ففي قصيدة "غانية في مقهى لما مثلا تتوالى مجموعة من اللقطات المنفصلة التي تشكل في مجموعها صورة تهدف إلى إحداث تأثير معين على النحو التالي:

قنديل مطفأ
ذكرى امرأة غانية كأس فارغة، وسحاب
رجل في زاوية معتمة، وكتاب

فالشذرات التي تتألف منها الصورة العامة تبـدو متباعدة لا ترابط بينها- وقد عمد الشاعر إلى إسقاط أدوات الربط اللغوي بين عناصر هذه الصورة للإيحاء بهذا التباعد- ولكن هذه اللقطات رغم تباعدها وتناثرها تتكـاتف كلها على إحداث أثر واحد معين وهو إشاعة الإحساس بالكـآبة والقتامة الذي يوشح القصيدة كلها.

الشاعر والتداعيات

وأحيانا يمزج الشاعر بين عدة وسائل في تشكيل الصور في القصيدة بحيث تتفاعل هذه الوسائل فيما بينها ويدعم بعضها تأثير بعض. في قصيدة "رؤيا" مثلا يمتزج تكنيك المونتاج التجميعي بتكنيك التـداعي السيريالي ويتخذ كل ذلك صورة الرؤيا الكـابوسية ذات الطابع السيريالي العبثي على النحو التالي:

قواقع محشوة بالصراخ.وحـوت تثاءب فابتدع البحر.
جمجمة في الفضاء هلام على حافة الأفق
طير يرف على أغصن من دماء

وهكذا تتـوالى الصور على هذا النحو السيريـالي الكابـوسي بدون ترابط وبـما تحمله من غرابة وعبث بالعلاقات العادية المألـوفة ة هذه القـواقع المحشوة بـالصراخ، والحوت الـذي يتثـاءب فيبتلع البحـر، والجمجمة السـابحة في الفضاء، والهلام الرجـراج على حافة الأفق الذي يوشح باهتزازه الصورة كلها، والطير المرفرف على أغصن الدماء...هذه الرؤيا الكابوسية المرعبة تناثرت مكونـاتها بدون أدوات ربط لغـوي، بل إن هذه الصـور في مجملها لا تمثل جملا لغويـة مكتملـة الأركـان ة فهي مبتدآت بـلا أخبار، ولكنهـا في النهـايـة تنتظم كلهـا في إطار تصـويري واحـد، يعكس حالـة نفسية واحـدة هي إحساس الشاعر بالرعب من كابوسية الواقع الذي يعيشه. وقد استخدم أبو سنة في الديوان مجموعة من الرموز الشعريـة الشفيفة التي لا يجد القارئ صعوبة كبيرة في التقاط دلالاتها الرمزية رغم رحابة هـذه الـدلالات وتنـوعها، وذلك مثل "زهـرة الأقحوان" التي يستطيع القارئ أن يدرك بيسر أنها رمز للشاعر ذاته ومثل "النيل لما في "رقصات نيلية" الذي يـدرك القارئ أيضا وبـدون مشقة أنه يرمز لمصر أو للشعب المصري. وإلى جـانب هذه الرموز الكلية التي يمثل كـل منها إطارا رمزيا عاما يستوعب رؤية الشاعـر بكل أبعادها في القصيدة كـما يستوعب كل الأدوات الفنية الأخـرى التي يوظفها الشاعر في تصـوير الأبعاد المختلفة لرؤيته الشعرية فإن هناك مجموعة من الرموز الجزئية التي توحي ببعد جزئي من أبعاد الرؤية في القصيدة، أو بخلجة نفسية خفية.

وبعد..

فأرجو أن تكـون هذه القراءة السريعـة لديوان "رقصـات نيلية" قـد نجحت في إلقاء بعض الأضواء على عالم أبوسنة الرحيب في هذا الديوان.

 

علي عشري زايد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الديوان