البحر .. حيث النوارس سلفستر أوردوف

البحر .. حيث النوارس

ترجمة: عمر أبوالقاسم الككلي

وهكذا انطلقا أخيرا. إنه أمر واقع الآن. الذهاب نحو المجهول. سريعا ما خلفا الحدود وراءهما. "هيا، إمر. دع إتوشكا تر البحر!. " قال له فينتس أرنيداش في البداية اعتقد أن فينتس كان يشاكسه فقط "ما فائدة رؤيتنا البحر؟. إنه مجرد مياه. لماذا علينا أن نبحلق في المياه؟.". "لكنه مع ذلك بحر يا إمر، أليس كـذلك؟. وإتوشكا لم يسبق لها أن رأت مثل ذلك الامتداد الهائل من المياه. اذهب، دعها تره وإلا فما فائدة امتلاكك سيارة؟".

ليس عليهما التفكير في شيء يقـولانه لبعضهما. المرأة تتفحص اللافتات الأجنبية. تحدق النظر، كـما لو كان تمييز الحروف سيساعدها على الفهم. "ولكن كيف سيفهموننا." تشكت إتوشكا. "تمتلكين يدين، أليس كذلك؟. يمكنك التأشير. " - اكتفى فينتس بالضحك. تماما مثل الصم والبكم، آه؟. تضرج وجه أتوشكا، ربـما خجلا. أو ربما شعرت بالإهانة. استمر فينتس مستغرقا في الضحك. "سنبدو زوجين مثاليين تماما، ونحن نؤشر على الشاطئ مثل أحمقين.

لا مفر، لن يتكلما تقريبا. لن يختلطا بالناس. لن يرتادا حتى المطاعم. سيطهوان طعامهما بأنفسهما. قالت زوجـة فينتس إنه يوجد مطبخ. أحضرا معهما بطاطا وشحما وبصلا وما إليه. سيمكنهما الإشارة إلى الخبز واللحم. هذا لا يمكنهما إحضـاره معهما. سيذهبان. سيتـدبران أمرهما على نحو ما. في الغالب سيتفقان ويخاطبان البحر. مع البحـر سيتمكنان من أن يكونـا مفهومين. فالبحر هو ما يذهبان لرؤيته، لينظرا إليه، معا، في عينيه.

عليه في نهاية الأمر أن يخبرها! هل تدركين أن هذا شهر عسلنا. بعد ثلاثين سنة. هذا سخف. بإمكان إتوشكا إدراك ذلك على أية حال. بالطبع هي تعلم. ربما لهذا السبب قـالت، بعـد التفكـير والإقناع، "لا مانع" بكل بساطة.

توجد سيارات كثيرة على الطريق. يمسك الرجل عجلة القيـادة بإحكام أكثر ويخفف السرعة. ماذا سيحدث لهما لو، لا سمح الله، حـدث لهما حادث؟. ليس لديهما من النقود ما يكفي، لا يتكلمان لغة أهل البلاد، لا شيء... كيف سيعودان؟.

لم يرغبا بهذه الرحلة. إنها فقط تجلب المتاعب والقلق. فينتس وزوجته أمرهما مختلف. فينتس كـان قد تعلـم قليلا من اللغـة أيام أن كـان في الأسر. وهو من النـوع الكثير الاختلاط بالناس، وهكـذا فـلا عجب في حبه للذهاب والإياب. إنهما لا يحسدانه على سباحته. ولكنه ارتبك عندمـا أخـذ فينتس يكـرر: "هيا إمـر. إن إتوشكـا تستحق الكثير، ألا تستحق؟." "أرح نفسك يا فينتس. لقد عشت حتى الآن بدون البحـر وبإمكـاني أن أستمر دون ضرر بدونه.".

" لكن ليس هذا هو القصد. فحتى وقت قريب لم يكن لـديك لا الوسائل ولا الوقت. ولكن الآن؟. الآن لديك سيارة جميلة، كل شيء...". "ولكن ماذا بشأن البستان والحيـوانات؟.". " لقد تخلص إمر من الخنازير. وسيتولى ابنك إطعام الدجاجات، ربما حتى يقوم بري البستان إذا كـان ولا بد.". "أوه، لديه مشاغل كثيرة أخـرى!." لما عندها دخل الفتى فأخبره فينتس وزوجته بالأمر حـالا. "أخيرا، وبعد طويل انتظـار سأعتني بكل شيء. ليس عليكما سـوى أن تنهضا وتذهبا." وهكذا وقف الفتى إلى جانب فينتس وزوجته. ليس بإمكانهما إيجاد أعذار أخرى. عليهما القبول بتحمل مشاق الرحلة إلى البحر.

هذا سخف. فلاح يذهب إلى البحر.

المرأة جالسـة تنظر إلى العالم الغـريب بشفتين مضمومتين "سوف أذهب يوما ما إلى الجبال، إلى الطمأنينة والهدوء في الجبال." لم تبح بهذا السر لأحد. صانته بإيمان متزمت مثلما يصون القسيس اعترافها. تتوق إلى الجبال وليس إلى البحر، لسبب لا تدركه. وعلى كل، ماذا يمكنها أن تفعل في البحر؟. هي لا تعرف السباحة ساقاها تنبضان بالألم. المياه الساخنة الصحية هي ما يحتاجه جسدها. كـلا، لم تتق نفسها إلى البحر يوما. الجبال شيء مختلف. هناك يمكنها، ربما، أن تنفرد بنفسها فعلا. وحيدة كـما تخيلت في أحلامها. وسط الروائح الشذية ومع سحب على بعد ذراع.

تتأمل المرأة الأرض، الفلاحين المنحنين وهم يتوارون في اللا شيء. هناك توقفنا في الفناء حيث توجد عربة محملة بحوالي مائتي كيلو غرام من البطاطا. عندما فتحت البوابة كانت على وجهها ابتسامة. ثم وضعت، فجأة، يدها على فمها "يا يسوع!." وقفت محدقة غير مصدقة جاست البطاطا بأصابعها. "يا يسوع المسيح!." عيناها امتلأتا دموعا. لم يقل الرجل شيئا، فقط قاد الحصان إلى الأسطبل، أعطاه ماء وعلفا. بعدها فقط عاد إلى العربة واتكأ بمرفقـه على أحد جـانبيها. "الخلـد والجنادب والأعشاب الضارة. "هزت المرأة رأسها "قد نرمي الحمولة كلها". "لا يمكنني أن أفعل شيئا إزاء ذلك إنها التربة اللعينة. أمنا الأرض". كانت التعاونية قد منحتهما مسـاحة صغيرة من الأرض ملحقـة بالمنزل يمكن الاستفادة منها. حـوالي نصف هكتار. من بين مائتي الكيلـو غرام من البطاطا توجد ستون تـالفة، من المستحيل بيعها، تناسب الخنـازير فقط. بكت المرأة. "لا تبكي.. البكـاء لا يفيـد". في النهاية فرزا البطاطا صامتين حبة حبة، في ثلاثة أعوام: هذا للبيع، ذلك لاستعمالهما الخاص، وذلك للخنازير. انسدل الليل.

"مازال الفلاحون يمتلكون الأرض هنا."

"ماذا، أليس لديهم إصلاح زراعـي؟. ألم يشكلوا تعاونيات؟." "لا يبدو ذلك."

حل الصمت ثـانية. لا يعـرفـان مـاذا يقولان لبعضهما رغم أنه حان وقت الكلام. بإمكانهما الكلام عن كل شيء، من البـدايـة. فرغم كل شيء هما وحدهما تماما الآن، منعـزلان في سيارتهما الجميلة، في طريقهما إلى البحر. كي يريا البحر. هذا، على أية حـال، شهر عسلهما متأخرا ثلاثين سنة. ينبغي أن يتحدثا، ينبغي أن يكـون هناك وقت للكـلام، وأقل منه للعمل، "إتوشكا" - "إمر". قول هذا فقط يكفى. لقد كـان كـافيا طوال ثلاثين سنة. أو، فقط، أن تتلامس يداهما. مجرد تلامس خفيف فقـط ما يكفي لأن يحسـا أنهما هنا معا، جنبا إلى جنب، أحـدهما مع الآخر. لكن يـدي الرجل ازدادتا تشبثـا بعجلة القيادة، ونـامت يدا المرأة على حجـرها. ذلك لم يعد يفيدهما. لقد كبرا على الحب. الألم جعلهما لا مباليين. ومع ذلك، ألا يستحق الأمـر المحـاولـة؟. ماذا لو حاولا؟. إتـوشكا تـذكرين؟. ولكـن ماذا تتـذكر؟. الليالي، الأيام؟ اللحظات البهيجة.. هل كانت هناك بالفعل لحظات بهيجة؟. حتى الأطفال طاروا، مثل طيور البط البري. دائـما يريانها على هـذا النحـو: في طريقها فوق في شفق الخريف موقوقة وهي تغيب في السحـاب. الأصغـر وحـده ظل معهما والتفكـير في رحيله يملأهما خوفا.

ومع ذلك يمكنهما تـدبر الأمـر بدون البحر. إنه ليس لهما، هما من النوع الذي يلائمه البقاء في البيت. من المطبـخ إلى الفنـاء، إلى البستـان، إلى حظيرة الخنازير. من البيت إلى نـاحية الطريق. الأفضل، بـالنسبة لهما، مشاهدة التلفزيون قبل أن يـدهمهما النعاس إشفاقـا بتعبهما. لماذا عليهما أن يبحلقا في البحـر، وفي بعضهما؟. لم يرغبا في ذلك من قبل، ولا الآن. لقد تجاوزا كل شيء. لا يلعنان شيئا. لا يلومان شيئا. وليس لديهما المقدرة على ذلك أيضا. على المرء في مرحلة ما أن يستـوعب درس الصمت. على المرء عقـد صداقة مع الصمت حين يحين الـوقت. وبرد البحر يجمـد. أوصالهما وعظامهما تضطرمان ألما دون توقف.

يمضيان في حياتهما. بخطـوات بطيئـة وجليلـة. فلماذا يستفزان الحياة؟. الحيـاة تعاملهما بالحسنى. أفضل من أي وقـت آخـر. مم يشكـوان؟. حـالا سيقفان أمام البحر خجلين.

"أليست تربتنا أفضل".

"الله وحده يعلم. لابد من التجريب"

التربة. مادام قد غادر التعاونية، كيف له أن يعرف التربة. كـان ذلك قبل أكثر من ثـماني سنوات. كل ما يعـرفه الآن أنه توجـد ثلاث نوبـات عمل. من السـادسة صبـاحا وحتى الثانية، ومن الثانية حتى العاشرة، ومن العاشرة حتى السـادسة صباحا. ذلك كل ما يستطيع أن يبدي فيه حكما الآن. ليس التربة. هل افتقدها؟. يهز الرجل رأسه.

"ما الأمر؟. هل تؤلمك عيناك؟.

"عليه أن يحمل نفسه على إغلاق عينيه وفتحهما. "الزحام يشتد. عليك زيادة التركيز.".

"هل أنت تعب؟".

"كلا".

"إتوشكـا، هل تحبينني؟." - "إمر، هل تحبني؟.". من أين يأتي هذا الصـدى؟. من أي مساء، من أي هدوء؟. أين أشجـار السنط وأين أزهـارها؟. أين الفجر النـدي؟. هل هذه هي أصواتهما أصلا؟. هل هذان هما فعلا؟.

لخبطـة جميلـة هـذه التي ورطهما فيهـا فينتس وزوجتـه. "أخـيرا ثبت إلى رشـدك.". "فقـدتـه بـالأحـرى" تفحصـا كل أوراقهما وجـوازيهما، مرا بأصابعهما على خـريطـة الطرق.

"الأمر يستحق، سنرى، فقط فكـر في النساء الـلاتي ستراهن على الشواطئ. يوجد أيضا شاطئ للعراة". "ما هذا؟." سألت إتـوشكـا. لمعت عينا فينتس "حيث يتشمس الناس بلباس الـولادة." "أعتقد أنك ذهبت شخصيا إلى هناك؟." "حسنا، كان علي أن أجرب عندما كنت هناك، أليس كـذلك؟. فقط من باب الفضول". "يا إلهي، ماهذا العالم!" أشاحت إتوشكا واستمر فينتس يغمز إمر: "شيء مذهل، لا يمكنك تخيل ما سوف تشاهده. من الأفضل أن تشد همتك. عينك على إمر يا أتوشكا، بعض الطيور ستجتذب كل انتباهه". "إذا أردن ذلك فليفعلن. ليس هـذا شأني". "رائع، رائع، سريعا ما تخلصت مني، أليس كذلك!" رغب إمر في أن يمزح هو الآخـر "لا أحب أشياء الآخرين، لا في السـابق ولا في المستقبل، أنت تعلمين.". مـر بينهما صمت هش. النساء أتفه من البحـر، يعلم أنه في النهاية سيرى البحر، عندما كانوا في الأسر جيء بهم إلى هنا يـوم سبت من فصل الربيع: مناسبة خاصة. توقفـوا في مكـان مـا على الشاطئ. والبعض هلل لهدير البحر. آخرون تقافزوا هنا وهناك، واندفعوا في المياه. ظل هو واقفا هناك والتقط بضع أصداف، كي يعود بها إلى وطنـه كتذكار. تذكـار الأسر. حـين عاد إلى وطنه انكسرت كلها في جيبه. وهكذا فقـد ظل واقفا هناك نـاظرا إلى امتداد المياه الهائل. "البحر، البحـر" كرر في نفسه. "ولكن ماذا يستطيع المرء أن يفعل بهذا؟". حتى عيناه بدأتا تؤلمانه. أحب أن ينظر إلى الأرض، إلى الذرة، الممتـدة في صفوف متوازية، مائلـة في اتجاه الريـح. هذه الكتلـة الهائلـة من المياه الرمادية كانت غير مألوفة لديه. وحتى عندما شاهد النوارس والزبد الذي يعلو الموج لم يشعر بالسعادة. جعلته النوارس يتذكر حمامه الذي في العلية، وذكره الزبد بأفواه الأحصنة الملجـومة. كل ذلك كان خواء هو هكـذا. ومع ذلك ألقى على البحـر نظرة طـويلة رحبـة. حسنا، هكـذا رأى البحر حينهـا، شرود إتوشكا شرود طفل. كل شيء كـان بعيدا في الوطن، التربة، الحصان، المحراث، وكل شيء. لماذا كان عليه التهليل لرؤية البحـر. نظـر إليـه بدون اهتمام، لم يـر شيئا.

"السحب تتكاثف" قالت المرأة وهي تنحني أماما لتتمكن من النظر إلى أعلى.

"سترين، ستكون هناك سحب على البحر".

"لماذا قـال لنا فينتس وزوجتـه، إذن، إن الشمس ستكون مشرقـة طوال الوقـت. يا للروعة، سيكون ذلك شائقا، أليس كـذلك، إذا لم نتمكن حتى من الخروج" كـانت المرأة تخشى أنها ربما لن تتمكن من رؤية النوارس، لا تعلم لماذا تاقت نفسها فجأة لرؤية النوارس. لأنها في بياض الثلج.

"ربما ستكون الشمس مشرقة والبحر خاليا من السحب ولكن كـانت تـوجـد سحب على ذلك البحر".

رقت نظـرة المرأة إلى زوجهـا. سمعت هديرا وزعيقا، غطى الظلام عينيها وامتلأ أنفها برائحـة أقبية الخمور العتيقة. "على ذلك البحر... "ثم، عندما ران الصمت، صرخة موجوعة لطفل. رغبت في أن تهدئه "لا تبك. لا تبك." كانت خـائفة من أن يتخلى عنهما الابن الصغير. تلك الصرخـة اليتيمـة. سرت تقريبا عندما استأنفت القنابل سقوطها وضاع صوت الطفل في الهيـاج. لكن سرعـان مـا ذهبت الطائرات وخيم صمت الخرائب أخذ الطفل الصغير يصرخ أشد فـأشد. "ربما كـان الطفل يحدس شيئـا ما." سكنت حبات المسبحة الحمراء في يد أم زوجها. وصلت شفـا الجنـون "كفى، كف عن الصراخ. لا تصرخ يا صغيري!" هدهدته، عانقته، لفته بمزيد من الأغطيـة. لكـن تلك النفس الصغيرة المسكينـة استمـرت في العـويل دون تـوقف. أخـذت هي الأخـرى بـالبكـاء. عضت شفتهـا وأخـذت تنشج: "اهـدأ، يـا حبيبي الصغير. لا تبك، يجب ألا تبكي. لا تزدني ألما. يا صغيري الحبيب."

هـزت الجسـد الصغير. احمر وجـه أم زوجها "اسمعي، يبدو أنه يحدس شيئا ما". "أوه، كفي عن هذا." رأت كيف نهض إمر من على المنضدة وتناول حقيبتـه التي تشد إلى الظهر وخـرج من البـوابة. أخـذت تترنـم: "اسكت، يـا صغيري، نم وأحلم بالملائكة". رفعت صـوتها أعلى فأعلى. استمر الطفل في العويل. احمر وجهه. أحضرت الجدة شايـا، لكن ذلك لم يفد. "أرجـوك، أرجـوك كف عن الصراخ. أترجاك". تحدرت الدموع على وجنتيها. منحته ثديها، لكن لم يكن بـه حليب، كـان جـافـا تمامـا. شعـرت بـالدوار لم تستطع شـد الأقمطة. كـان الوقت ليلا. ليس بـالإمكـان الـذهـاب إلى الطبيب، أو استدعاؤه. "لا إله إلا الله..." "أرجوك يا عمتي، لا تجهري بصلاتك، وإلا فسأجن."

"على المرء في مثل هذه الأوقات أن يتلو صلاته جهـرا، يـا ابنتي، جهرا!" لكنها خفضت إلى درجة الهمس. كـان الطفل ينشـج بحـدة. في الصبـاح استطاعوا أن يتبينوا على الضوء الشحيح الـذي نفذ إلى المكان أن وجنتيه قـد ازرقتا. لم تستطع ألن تتحمل أكثر. رفعت الطفل ممسكـة إياه بقوة "ارجـوك، لا تصرخ أرجوك"!. وضعت الجدة مسبحتهـا الوردية المزدانـة بأيقونة العذراء فـوق الأقمطة "سينفعه هذا. أنا متأكـدة أنه سينفع، ستساعد الأم العذراء أمروشكا الصغير.".

"ابعديها!". لا بد أن تكون قد جنت حتى تصرخ بهذا الشكل. من جديد أطل وجه إمر، وحقيبة الظهر أمام البوابة التي انغلقت للتو، كان وجه الطفل أزرق تماما، والنشيج يتحشرج في حلقه. "لماذا لا تسكت؟. لماذا؟. أنا هنا يا صغيري. أنـا هنا." لم تبق لديها دموع جفت كلها. الجدة انحنت في زاوية الغرفـة مغمضة عينيها: "أوه، أيتهـا الأم العـذراء، ساعـدي إمر وأمـروشكـا الصغير.." وعندها توقف سقوط القنابل. اندلق الصمت إلى الداخل كثيفا كالوحل. بقي فقط بكاء الطفل، الذي لم يبق لـه صوت تقريبا، تماما كمسيل مائي تداعبه الريح. غلب المرأة النوم. بعدها بثلاثة أيام انهارت تماما. كـما لو شاهدت وجه ابنها المحمر في هالة ببياض الثلج، ثـم لا شيء. نام الطفل سريعا كـذلك. لا بد أن البكاء قد أنهكـه. نام دون حليب، دون شاي، دون حلوى. حاولت جدته إنعاشـه "إنه الآن يلعـب مع الملائكـة في الأعالي". وعندما رأت أن وجه أمروشكا لم يعد أحمر بل أبيض كـالثلج، نـورسا سـاكنـا، خشخشت حبـات المسبحة "ابني البكر.. نم عميقا..". لم تدرك أنها كانت تحرك شفتيها فقط. لم يبق لديها صوت. في المقبرة كان جندي روسي يرتاح متناولا طعـامه. تـابوت أبيض صغير. حمله جارهم على ذراعيـه بعناية. لم يكن القبر أعمق كثيرا من حفرة البطاطا.

فوق ذلك البحر كانت توجـد سحب، فوق ذلك البحـر ولكن الشمس مشرقـة، هنا النـوارس تطير بيضاء كالثلج. ينبغي قول شيء ما.

"نسيت ان أخـبر الصبي في أي صينيـة عجين يضع البيض."

"سيكتشف ذلك."

"فرزت خمسين من أجل الفطائر. لا أدري ماذا أفعل إذا خلطها."

"هل يختلف البيض الذي تصنعين منه الفطائر عن سواه؟ "

"بالطبع يختلف".

لا تدري كيف نسيت. كـان ينبغي أن تكـون قـد دونت كل شيء. كـان عليها أن تترك قائمة على المنضدة مـاذا ومتى ينبغي عليه أن يأكل.

ماذا يوجد في صنـدوق المئونة، وماذا يوجـد في الثلاجة، متى يـذهب إلى التبضع وماذا عليه أن يشتري، عليـه أن يبحث عن الحليب يوم السبت، عليـه أن يرش الماء على القبر في الجبانة. لقـد نسيت البيض. ماذا تفعل الآن؟.

مجيئها مخجل فعلا. ليس هذا لهما. فينتس وزوجته يختلفـان. ليس لديهما أطفـال، ولا حيوانـات أو بستان. "تلك المياه الزرقاء يـا إتوشكا!. المياه التي بشفافية البلور!. الشوارع والـدكاكين، وواجهات العرض!" ظلت المرأة تفكر في النوارس. لهذا السبب وافقت على الـذهاب إلى البحر. من أجل النوارس. لا توجد نوارس في الجبال. لكنها لم تبح بهذا لأحد. كانت تعد العملة الأجنبية. تحسبها. كان الرجل يتألم بـداخلـه. التيبس بيديه، والإنهاك بعينيه. يجب على الأقل ألا يبقيا على هذه الحالة، صامتين تماما. ماداما قد قررا القيام بهذه الرحلة فيجب أن يأخذا بالمثل قسطا من الضحك، أو الابتسـام على الأقل سيقول ذلك رغم كل شيء.

"هل تدركين أن هذا بالفعل شهر عسلنا؟."

"عم تتكلم؟. بعد ثلاثين سنة."

"فعلا من الأفضل عدم الكلام" "إتوشكـا، أنت جميلة! أحبك. سنكـون سعيدين، أليس كذلك؟."

تمسك بعجلـة القيـادة. "كل تلك الكتـاكيت في لبـاس البحـر على الشاطئ" ذلك فينتس. ذلك الطفل فينتس!. الأمـر سهل بـالنسبة إليه. أما هو فمختلف. "إمـر أنت تحبني، أليس كـذلك؟. لن تتركني، هل ستتركني؟. نحن لبعضنـا، أليس كذلك؟." من أين يسمع ذلك مجددا؟. هل سبق لهما أن قالا مثل هذه الأشياء؟. كـما لـو كان يرى ذلك الشفق. ذلك العناق السري والاختباء. ليلا ونهارا كـم كانا شرهين. كـم كانا ظمآنين وجوعانين!.

"انتبه" صرخت المرأة

لم يلحظ الشاحنة. ذلك أيضا كان مباغتا. يمسح جبينه. "يسـوقـون كـالحيـوانـات." الخوف يعتصر الصرخة من حلقهـا، يجب أن يعترف بأن تلك كانت غلطته. لم ينظر في المرآة. "قلت لك إن هذا النوع من القيادة ليس لي. إنهم يقودون بشكل مختلف تماما."

"فـات الوقت الآن. لـو بقيت مكـانك لما كنـا غادرنا". "لكني أنا أيضا رغبت في أن تري البحر."

"إذن علينا أن نصل إليه أولا، أليس كذلك؟."

"هل معك العنوان؟."

"أي عنوان؟." لا الذي أعطاه لنا فينتس."

"بالطبع معي."

"أنت جميلة، كالنورس". هل سبق للرجل أن قال مثل ذلك مطلقا؟. "هل سبق لك أن رأيت نورسا؟. " هل هذا هو صوت المرأة؟. "كلا، لم يسبق لي. لكنهم يقولون إن النوارس جميلة جدا. لأنها رقيقة وبيضاء كالثلج. لأنها وفية للبحر". هل سبق له أن قال هذا؟. "ليكن، وإذن فأنا نورس، ليكن، وأنت ماذا؟." هل ستلاعبه إتـوشكـا على هـذا النحـو؟. بالكلمات؟. "سأقول لك ماذا، تكـون البحر". "إذن فأنا قوي وعات. لا أقهر." ينبغي أن يضحكا، ينبغي ويتبـادلا القبل كـذلك. من المستحيل ألا يتبـادلا القبل. ينظر إلى السحب، "البحر هناك" لا الشمس مشرقة. " "ستذوقين ذلك حالا. ستجدين المياه مالحة" "لماذا علي أن أذوقها إذن؟." "فقط كي تعرفي ماذا تشبه." تحرك المرأة يدها علامة الرفض. كل ما تريده هو النوارس. لا شيء آخر إطلاقا. "سيكـون شيئا لا ينسى إتـوشكـا، سترين. لا ينسى. كـل هذه المدن والدكـاكين". حركـة المرور شديدة الازدحام الآن. يمضيان ببطء. دخلا المدينة. "إنها شديـدة النظافة في كل مكـان" أخذت المرأة تنظر إلى العلامات مجددا. "محل جـزار" "أين؟." لم يحول الرجل عينيه من على الطريق "هناك. ومحل مجوهرات أيضا" "إذن فلنذهب مباشرة إلى البحر. فينتس قال إن المنزل قرب البحر" "أنتما الاثنان رتبتما كل شيء" انحشرا في قافلة سيارات. يبدو أنها ماضية باتجاه البحر. ترطب المرأة شفتيها الجافتين. نعـم: دكاكين، منازل نظيفة، شـوارع. الرجل ينظر فقط إلى السحب رغم لمعـان الشمس. فجأة ساحـة واسعة ومتنزه. امتداد المياه الشاسع يرتعش أمامهما. "هل ذلك هو البحر؟ " "لا يمكن أن يكـون شيئا آخر. سأجـد مكـانا لإيقاف السيارة". رجع بالسيارة نحو موقف السيارات، متحسسا قصاصة العنوان في جبيه. "سأسأل عن الطريق... ينبغي أن تكـون قريبة من هنا، حسب ما قال فينتس.

" لا تقول المرأة شيئا. تنزل زجاج النافـذة. تنظر إلى البحر بإمعان، ولكنها لاتسمع هديره. "ذلك هو الشارع هناك، والمنزل الذي يطل على شارعين كان فينتس مصيبا." تجلس المرأة ساكنة في مقعدها، عيناها تطرفان وهي تنظر إلى البحر. إنها تبحث عن النوارس. يتوقفان أمام المنزل. "هذا هو. لقد وصلنا" يبتسم الرجل بـارتباك وأخيرا، هما هنـا. كـلاهما. ربما يقـول: "إتوشكـا، عزيزتي إتوشكا انظري!. البحـر!. هل تصدقين ذلك؟." يكـاد يسمـع ضحكهما. يكـاد يحس كيف تتلامس يداهما عفويا. ثم تضغطان قليلا. إلى حدود الألم. حتى يصعد الدمع إلى عيونهما. ينظر إلى المرأة. تتلاشى ابتسـامته. يفتح الباب ويخرج. الآن فقط يدرك مـدى الألم. في ظهره، في ساقيه، في يديه المتيبستين. "هيا انزلي". يقول في صوت رقيق. تحرك المرأة رأسها قليلا. نظرتها ما زالت مشدودة إلى البحر.

"ما الأمر؟. ألست على مايرام؟.

المرأة لا تتحرك. في البعيد يحلق نورس منطلقا من فوق الإسفلت، منـزلقا من هنـاك إلى الغموض اللانهائي للبحر.لا إنه ليس أبيض. إنه رمادي". "ماذا؟." ينفد صبر الرجل. "لا شيء. لا شيء أبـدا" تفتح المرأة بـاب السيارة.

 

سلفستر أوردوف

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات