الواقع
الافتراضي Virtual reality هو علم هدفه
تعريـض الإنسان لسلسلـة مـن الانفعـالات والإحساسات، عـبر حساسات ومؤثـرات، تقوم
بنقل الإشـارات الكهـربـائيـة وردود الأفعـال من والى الكمبيوتر، ضمن وسط منمـذج
كمبيوتريـا. بمعنى آخـر، عنـدما يتعـرض الإنسـان لتجـربـة الواقع الافتراضي، فهو
ينغمس في بيئة اصطناعية من الصوت والصـورة وحتى اللمس، تتم محاكـاتها بـواسطـة
الكمبيوتر بإتقان يجعل المرء يعتقد أن ما يراه ويسمعه ويشعـر به هو حقيقة وليس
وهما. وتتم عادة محاكـاة اللمس بإرسال الكمبيوتر أوامر كهربائية خـاصة إلى محركـات
وعناصر كهربائيـة منمنمة موجـودة داخل القفازات.
وتختلف الصور
الواقعية افـتراضيا عن الصور التي يولدها الكمبيوتر عادة على شاشة العرض التقليـدية
بأنها ثلاثية الأبعاد، وتعتمـد كليا على المكان الذي ينظر إليه الإنسان، أو يحاول
التحـرك بـاتجاهه، إذ تلتقط حساسات خـاصة مـوجـودة في القفازات وخـوذات العرض ردود
أفعال الإنسان وحركاته، وترسلها إلى الكمبيوتر، الذي يقوم بتعديل المنظر الذي يراه
الإنسان والأصـوات المجسمـة التي يسمعهـا، تبعـا لهذه الحركـات، لدرجـة أنه
بمقـدوره الالتفات إلى الـوراء ليرى ما يوجد خلفه في هذه البيئة
المصطنعة.
الماضي القريب،
والبعيد
كـانت البداية
عندما ابتكـر عالم الكمبيوتر إيفان ساذرلاند، منذ أكثر من ثلاثين عاما، خوذة تجعل
من يعتمرها يسبح في عوالم خيالية من أشكال هنـدسية. لكن لم يكن لهذا النظام قوة
الإقناع الكافية بسبب تأخر التكنولوجيا آنـذاك. وكـان لابـد من الانتظار حتى
الثمانينيات، عنـدما قـام أحد مراكز الأبحـاث التابعة لوكالة الفضاء الأمريكية
"ناسا" ببرمجة نموذج ثلاثي الأبعاد لأرض المريخ اعتمادا على معلومات أرسلها أحد
مسابر الفضاء، وصمم خوذات عرض لتدريب رواد الفضاء على ارتياد المريخ. وقـد أعطى
الواقع الافتراضي نتائج مشجعة، الأمر الذي حدا بالعديد من مراكز البحث العلمي إلى
الانكباب على دراسته.
أما في المجـال
العسكري، فقد شرع البنتاغون "مقر وزارة الدفاع الأمـريكية"، منذ فترة طويلة،
باستخدام الواقع الافتراضي في تدريب الطيارين وقـواد الدبابات على خوض المعـارك في
الصحـراء. وقـد بلغ اهتمامه بالواقع الافتراضي مبلغا جعل وكالة مشاريع الأبحاث
المتقدمة التابعة له أحد أكبر الممولين لأبحـاث الواقع الافتراضي.
وفي أوائل
التسعينيـات لم يعـد الـواقع الافتراضي حكرا على المجـال العلمي، بل بدأ يجد له
موطئ قدم في عـالم التسليـة والمتعـة. إذ انتشرت في المجمعـات والأسواق التجاريـة
الكبرى وصالات التسليـة، في مختلف أرجاء العالم، منصات ألعاب فيـديو مبتكـرة، تعتمد
على الواقع الافتراضي لإغراق اللاعب في جو اللعبة وإمتاعه إلى أقصى حـد. ولم يقف
الأمر عند هذا الحد، إذ بـدأت بعض شركات ألعاب الفيديو تسعى لاستثمار الواقع
الافتراضي في التسلية المنزلية. وقد أنتجت شركة Sega لألعاب الفيديو، في بـدايـة عـام 1994، أول لعبـة فيديو
ترتكـز على الواقع الافتراضي، ومخصصـة للاستعمال المنزلي، وهي تسـوق مع خـوذة عـرض
خـاصة وسماعات تتصل مع جهـاز ألعـاب الفيديـو العـادي. ويخوض الـلاعب في هـذه
اللعبـة سلسلـة مغامـرات مثيرة، ضمن وسط ثلاثي الأبعـاد، شديـد الواقعية، وبمرافقة
موسيقى وتأثيرات صوتية مجسمة، ويستطيع الالتفات برأسـه بأية زاوية يـريد، كـما هو
الحال في أنظمـة الواقع الافتراضي المهنية.
وتشير الأبحـاث
والـدراسات إلى أن إغنـاء نظم المحاكيات التدريبية "وهي نظـم كمبيوتريـة تستخدم
لتقليـد واقع معين لأغـراض تدريبية" بـالـواقع الافتراضي يجعلها أكثر واقعية
وقـابلية للتقبل من قبل المتدرب. لـذا يشكل التدريب أحد الأهداف الـرئيسية التي
يسعى إليهـا مطورو نظم الواقع الافتراضي، ففي معهد SRI International للأبحاث والتطوير، في مدينة منلـوبارك في ولايـة
كـاليفورنيا بالولايات المتحـدة الأمـريكيـة، يستعان بالـواقـع الافتراضي لتـدريب
الطيارين على قيادة وتوجيه الطائرات العملاقة في أصعب الظروف. حيث يرتدي الطيار
المتدرب الخوذة والقفازات المتصلة بالكمبيوتر، ويعرض لظروف طيران معقدة تماثل ما
يمكن أن يتعرض إليه عند قيادة الطائرة الحقيقية. وتتميز طريقة التدريب هذه بأنها
أرخص من التدريب على طائرة حقيقية، ولا تنطوي على أية خطـورة في حال ارتكـاب
الطيـار لخطأ ما في القيادة، حتى لو أدى ذلك الخطأ إلى ارتطـام الطـائرة بـالأرض
مثـلا، كـما أنها تعطي الطيـار خبرة تماثـل ما يمكن أن يحصل عليه فيما لو تدرب على
طائرة حقيقية.
وفي المستشفى
الملكي في مانشستر في بريطانيا يختبر العلماء جهازا يستخدم الـواقع الافتراضي
لتـدريب الجراحـين على القيام بالعمليات الجراحيـة الدقيقـة، وخصوصـا تلك العمليات
التي تحتـاج إلى خـبرة خاصة لاضطرار الجراح لإدخال كاميرات جـراحية بالغة الصغر في
الجسم عبر فتحـات دقيقة في النسيج الخلوي. وتحريك الأدوات الجراحيـة بواسطة جهاز
تحكم عن بعد.
وقـد أخـذ
الـواقع الافتراضي يـدخل في مجال التدريبات الريـاضية أيضا، إذ تجري شركة
NEC في اليابـان اختبارات على نموذج أولي لجهاز
للتـدريب على التزحلق على الجليد. وفي هذا النظـام، يرتـدي المتـدرب خـوذة عرض
وقفـازات وحـذاء التزحلق، ويقف على منصـة متحركـة مقادة بمكبس ميكـانيكي، ويقوم
الكمبيوتر بعرض مشاهد لمنحدر جليدي، وتحريك المنصة وفقا لتلك المشاهد والفريد في
الجهاز أن القفازات تحوي حسـاسات لقياس تـدفق الدم في جسم المتـدرب، وذلك لمعرفـة
مدى التوتر الذي يشعـر به. فإذا ارتفع معدل تدفق الـدم، قام الكمبيـوتر بتخفيف حـدة
المنحـدر الجليدي الافتراضي، أمـا إذا كـان معدل التـدفق طبيعيـا، فهذا يعني أن
المتدرب إنسـان متمرس، وعندئذ يزيد الكمبيوتر في صعوبة مضمار التزحلق.
ويعتبر الطب من
المجالات الأساسية التي ينصب فيهـا جل اهتمام علماء الـواقع الافتراضي. وتجرى حاليا
في جامعة كارولينا الشمالية في الولايات المتحدة الأمريكيـة أبحـاث حـول الاستعـانة
بـالواقع الافتراضي في تجسيد الصور الطبية الملتقطة بـالأشعة فوق الصوتية. ولعملية
التجسيد هذه استخـدامات عديدة، إذ يمكن بواسطتها مثلا الكشف بـدقة على الجنين
الموجـود في رحم أمه، كـما أن استخدامها في العمليات الجراحية الخطرة، مثل العمليات
الجراحية العصبية، يمكن أن يساعد كثيرا على التخفيف من مخاطر العمل
الجراحي.
هذا وقـد سنت
الحكومة الأمريكية قانون المنافسة الـوطنية لعـام 1993 الـذي نص فيما نص على أن
"الـواقع الافـتراضي يبـدو واعدا في مجال العنـايـة الصحية". وبناء على هذا القانون
سوف يخصص مبلغ 210 ملايين دولار للسنوات الخمس القادمة، لصالح أبحاث الواقع
الافتراضي في المجال الطبي. ويؤمل أن تفضي هذه الأبحاث إلى تقنيات متطورة، تتيح
للأطباء معالجة المرضى القاطنين في أماكن بعيدة، دون الحاجة للسفر إليهم، وذلك
باستخدام الطبيب لخوذة عرض وقفازات تسمح لـه بالتحكم عن بعد بذراع روبوتية تعاين
المريض في المكان الموجود فيه.
والاستكشاف
أيضا
استخـدمت ناسا
الواقع الافتراضي عام 1992 لاستكشاف بحيرة في القارة القطبية الجنوبية. فقد قام
العلماء المرتدون خوذات عرض، في مركز أبحاث ناسا في مدينة موفيت فيلد في ولاية
كاليفورنيا الأمريكية، بالتحكم عن بعد بغواصة مقادة لاسلكيا، موجودة في قاع
البحيرة.
لكن كانت هناك فترة تأخير
زمني، بلغت حوالي 1,8 ثانية، استغرقهـا إرسال إشارة التحكم اللاسلكية، من مركز
الأبحاث إلى قمر الاتصالات الاصطناعي، وارتدادها عنه، ثم وصولها إلى
الغواصة.
ويدرس العلماء
إمكـان استخـدام التقنية ذاتها في عمليات استكشاف العوالم البعيدة، لكن عندئذ سوف
تزداد فترة التأخير الزمني كثيرا. فعلي سبيل المثال، في حـال استكشاف المريخ، لابـد
من الانتظار لمدة 20 دقيقة، حتى تصل إشارة التحكم المرسلة من الأرض إلى المريخ،
إضافة إلى 20 دقيقة أخـرى، لوصول إشارة الرد التي ترسلها مركبـة الاستكشاف الموجودة
على المريخ إلى الأرض، والتي تبين نتـائج تنفيـذ إشـارة التحكم. بيـد أن غـالبيـة
العلماء يعتبرون تقنيـة الاستكشاف باستخـدام الـواقع الافتراضي والتحكم عن بعد
فتحـا علميـا عظيما، رغم فـترة التأخـير هذه، وذلك لانخفاض تكـاليف هـذا النوع من
رحلات الاستكشاف، وانعـدام الأخطار التي تكتنفها، بسبب عدم حاجتها لرواد
فضاء.
ولا يساعد الواقع
الافتراضي على استكشاف العوالم الخارجيـة فحسب، بل يمكـن أن يفيـد أيضـا في
استكشـاف العوالم الميكروسكـوبيـة داخل الجزيئات الكيميائية. ففي جـامعة كارولينا
الشمالية في الولايات المتحـدة الأمريكية، يـوجـد نظام يعتمـد على الواقع
الافتراضي، يستطيع بواسطتـه عالم الكيمياء الحيوية الذي يعتمـر خوذة العرض
والقفـازات، أن يرى الجزيئات الكيميائية، وأن يمسكها بيديه، ويديرها ليراها في
زوايا مختلفة. ويستطيع أيضا أن يحدد بسهولة، ومهما كـانت بنية جـزيئات الـبروتين
التي يفحصها معقدة، الوضعية المثلى لتركيبها على بعضها البعض.
وقد عقد أخيرا
العديـد من المؤتمرات حول الواقع الافتراضي، ركز فيها العلماء على أهميـة استخـدام
الـواقع الافتراضي في التحقق من النماذج الأوليـة التجريبيـة. فحين يراد مثلا تصنيع
أجزاء ميكـانيكية لآلـة معينـة، أو تنفيذ تصميم معماري مـا، يمكن استخـدام
الكمبيوتر لتجريب نموذج أولي لذلك التصميم الميكانيكـي أو المعماري، عن طريق
محاكـاته بتقنيـة الواقع الافتراضي. وبهذه الطـريقـة يمكن اكتشـاف نقاط الخلل في
التصميم، ومدى مطابقته للمواصفـات المطلوبة، وبـالتالي يمكن معـرفـة التعديلات
اللازم إجراؤها عليه قبل تنفيذه بالشكل النهائي.
وتقوم شركة
ماتسوشيتا اليابـانية حـاليا بإجـراء الاختبارات النهائية على نظام من أنظمة التحقق
من النماذج الأوليـة التجـريبيـة، يعتبر من أوائل النظم التجارية التي تستثمر هذه
التقنية، أطلقت عليه اسم عالم المطابخ، وباستخدام هـذا النظام يستطيع المرء أن
يتجول ضمن المطبخ الذي اختـاره لبيته، وذلك بعد ارتدائه لخوذة العرض والقفـازات
فيفتح الأدراج، ويضع بعض الصحون والأطباق في الخزائن الجدارية ليرى مقـدار سعتهـا
وارتفاعهـا، ويتحقق من مـدى حريـة الحركة التي يتيحهـا المطبخ. بل ويستطيع أيضا أن
يفتح صنبور الماء، فيسمع صـوت الماء وهو يجري، ثم صداه وهو يختفي ضمن البالوعة.
وتدرس الشركة إمكان تعديل برنامج المحاكاة بحيث يصبح بمقدور الزبـون أن يتحكم
بإنـارة المطبخ، أو حتى التجـوال ضمن المنزل بكامله.
ماذا عن
المستقبل؟
يشبـه حـال
الـواقع الافتراضي اليـوم ما كـان الكمبيوتر الشخصي عليـه عام 1979. ففي ذلك الحين
كان الكمبيوتر الشخصي بطيئا ومحدود القدرات ومتدني الكفاءة والـوثوقية. لكنه خـلال
عشر سنوات فقط تطـور تطورا عظيما، وازدادت سرعته، وأصبح قـادرا على فعل الكثير.
ويتـوقع العلماء الشيء نفسـه بالنسبة للواقع الافتراضي، بسبب إمكاناته الواسعة،
وتزايد اهتمام الحكومات ومراكز الأبحاث به.
ويعتقـد أغلب
خـبراء الـواقع الافتراضي أن خـوذة العرض والقفازات لا تسمح بالاستثمار الأمثل لنظم
الواقـع الافتراضي. إذ كثيرا ما يتكاثف البخـار داخل الخوذة على شاشة العرض
المصغرة، ويمنع الرؤية. إضافـة إلى أن القفازات يمكن أن تتـوسع مع كثرة الاستعمال،
فتنخفض دقتهـا وسرعـة تجاوبها، لـذا يحاول العلماء تحسـين نـوعيـة هـذه الأدوات،
كـما أن هنالك أبحـاثـا تجرى على بـذلات تجعل مـرتـديها ينغمس انغماسا كليا في
الواقع الافتراضي، لكثرة ما تتيحـه مـن إمكـانـات تخاطب بـين الإنسـان
والكمبيوتر.