عام 1855م عرض
رئيس الولايات المتحدة الأمريكية على زعيم قبيلة الدواميش الهندية "سياتل" أن يبيع
أرضه، وأن ينتقل مع شعبه إلى إحدى المحميات، فأجاب الزعيم سياتل: "أنى للإنسان أن
يبيع أو يشتري أجـزاء من الأرض؟ وكيف (يتملّك) الإنسان ما لا يخصه؟ ربما يسعفنا
تفكـيرنا في تفهم ذلك لو علمنا بماذا يحلم الإنسان الأبيض.. والتصورات التي يزرعها
في أذهان أبنائه".
وبعد ما يربو على
130 سنة عاد الرجال البيض إلى خيام الهنود، لكنهم لا يرتدون الزي العسكري هذه المرة
بل ملابس ملائكة الرحمة، ناصعـة البياض، ولا يرغبون في أراضى الهنود بل في شعرهم،
وجلودهم، ودمائهم! فمنذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين بدأ العلماء البيض بزيارة
هنود الغوايمى في باناما، ليأخذوا في البدء من فئة قليلة ثم من جميع أفراد القبيلة،
عينات من الدم، وأرسلوها إلى المختبرات الأمريكية.
فماذا كانت
النتيجة؟
صرعة" طبية
منقطعة النظير! إذ اكتشف الدكتور الأمـريكي مايكل ليرمور تماثل سيـدة من الغوايمي
(26 سنة) للشفـاء من الداء العضال: ابيضاض الدم (اللوكيميا) من تلقاء ذاتها، ودون
عون طبي أو دوائي! إذ احتوى دمها على مضـادات للفيروس المحرض لابيضاض الدم، المشابه
من حيث البنية الأساسيـة للفيروس المحرض لمتلازمة نقص المنـاعة البشرية المكتسب:
الإيدز. وليس غريباً أن يثير هذا "الفتح" المذهل في الوسط العلمي العديد من
التساؤلات مثل:
1 - هل يسمح حل
"لغـز" الشفرة الـوراثيـة لهذه المضادات الواقية بابتكـار طرق سريعة وفعالة لتشخيص
المرض؟.
2 - ألا تساعد
الشفرة الوراثية (الجينية) هذه على إنتاج اللقاحات التي تمنع الإصابة
أصلا؟.
تضمن رد الزعيم
سياتل بأن "الإنسان لم يخلق نسج الحياة، التي لا يشكل فيهـا - هو نفسه - أكثر من
ليف وحسب". وحسب اعتقادي المتواضع ما كـان ليخطر على قلب هذا الزعيم - حتى في أشد
حالاته تشاؤما - أن يأتي حين من الـدهر يدعي فيه شخص أبيض أن مورثات أحد الهنود
تنضوي تحت لائحة "اختراعاته".
ومع الأسف فإن
هذا ما حدث بالضبط، ففي مايو 1992 م تم في الولايـات المتحدة الأمريكيـة تسجيل "خط
الخلايا المعزولة" لسيدة الغـوايمي الهندية في قيود "براءات الاختراع" تحت الرقم
9108455 - US ومن المعروف أن تسجيل براءة
الاختراع يحصر استخـدامه في صاحبه ويحظر استغلاله من قبل الغير إلا بموافقة صاحب
الشأن، الذي يقدر على بيع براءة اختراعه للغير وفق الشروط والسعر الذي يحدده
بنفسه.
قبل
الإبادة
ليس غريبا أن
تثير براءة الاختراع هذه لعاب شركات الرجل الأبيض على الأرباح المستقبلية المتوقعة
من خلال استغلال جينات الغوانمي، وتمكنت من "نبش" 721 قبيلة غوانمي جديدة، يقل
تعداد بعضها عن 200 نسمة، موزعة في أصقاع كوكبنا الأرضي: مثل أقزام هاوزا
(تنزانيا)، وهنود آباشي البربري (أو كلاهما) ومجموعة تقل عن 100 من صيادي الغزلان
في أعماق سيبريا (المنفي السابق لأعداء الشيوعية).
وكل هذا يتـوارى
وراء قناع "مشروع تنوع المادة الوراثية (الجينوم) البشرية HGDP وهدفـه المعلن: دراسة تاريخ نشوء الإنسان وهجراته، والذي
تنفذه الجامعات الأوربية والأمريكية بكلفة تقديرية تتراوح بين 23 و 35 مليون
دولار.
وتثبيتا لهذا
"القناع" سـارع بعض الباحثين "البيض" إلى نشر نتـائجهـم حـول الهدف المعلن،
وزودوهـا بالخرائط التوضيحيـة، والتي يمكن تلخيصهـا في 3 نقاط رئيسة:
1 - إفريقيا:
منبع الجنس البشري: فكلما ابتعدنا عن إفريقيا اشتد التباين الجيني (الوراثي) تبعا
لذلك، كـما تمت الهجرة إلى أمريكا في حقبتين مختلفتين.
2 - الشرق
الأوسـط: منبع الفلاحين الذين وصلوا إلى أوربا على دفعتن قبل 10.000
سنة.
3 - الشاطئ
الشمالي للبحر الأسود: منبع الفرسان الروس، الذين انتشروا في أصقاع كوكبنا الأرضي
قبل حوالي 6.000 إلى 4.000 سنة.
وحينما سئل
الـبروفيسور سفانتي بييبو، الذي يدرس في جـامعـة ميونيخ عن سبب مشـاركتـه في مشروع
الجينوم، أجـاب: "إنه ببساطة مشروع يخلـب الألباب حتى ولو كان بلا تطبيقات
طبية".
وهذا يقربنا مما
يجري وراء كواليس مشروع الجينوم، الذي يتفاءل أصحـابه بتحقيق أرباح مذهلة تقدر
بمليارات الدولارات والتي بدأت طلائعها مع دراسة جينـوم هنود الغوايمي، لذا يطلق
العـديد من الهنود المحليين على هـذا المشروع اسم "الاستعمار الجيني " أو كما عبر
عنه إيسيدارو آكوستا غاليندو المحامي، ورئيس مجلس نواب هنود الغوايمي: "إنهم يقومون
في البدء بإبادتنا لكنهم لا يتوانون - قبل انقراضنا النهائي - عن سرقة جيناتنا
ايضا".
إذ يعلم غاليندو
علم اليقين أن احتكـار استغلال جينة تسمح بابتكـار عقاقـير طبية مضادة للأمراض
المستعصيـة: مثل الإيدز، والسرطان، والزهايمر.. وباركنسـون، سيضع في يد الشركـة
صاحبـة براءة الاخـتراع مفتاحـا لباب سوق عالميـة واسعة تقـدر مبيعاتها بمليارات
الدولارات.
وراء الكواليس
قـال بات مـووني، مدير منظمة مساعدات التنميـة الكندية رافي (RAFI) في كتابه
الـرائع "بذور الجوع " حول نقطة لم تلق الاهتمام الكـافي بها: "تاريخ الاستعمار هو
تاريخ الصراع على حيازة واحتكار ثروات الطبيعة النباتية"، وهـذا يدل على أن بـداية
هذا النوع من الاستعمار سبقت التعرف إلى الجينات الإفرادية، وعزلها وتخزينها في
جـلادات (فريزر) متطرفة البرودة، وربما ترجع إلى اكتشاف العالم الجديد قبل حـوالي
500 سنة. إذ انبهر كريستوفر كولومبوس بالتنوع الشديد لنباتات جزر الهند الغربية،
فأسر إلى دفتر مذكراته: "تحتضن هذه الجزر عددا كبيرا من الأعشاب والنباتات التي
سيعرف الناس في إسبانيا قيمتها، واستخدامها في استحصال المستخلصات بصفة عقاقير طبية
أو توابل".
وفي عصر "الكشـوف
الجغـرافية" الإسبـانيـة والبرتغالية في القرن السادس عشر وما بعده "اكتشف" الإنسان
الأبيـض أن محاصيل الطبيعة وخـيراتها النباتية ليست موزعة بالتساوي على قـارات
الأرض بل تتركز في المناطق الاستوائيـة والمدارية وعلى الأخص البن والكاكاو والمطاط
الطبيعي، عندها فقدت الشركات العظمى - مثل شركـة الهند الشرقية - صبرها وأرسلت
أساطيلها - قبل الجيوش النظامية - إلى ما وراء البحار بغية السيطـرة على تجارة هذه
المحـاصيـل "النفيسة" واحتكارها، وبذا شفطت الدول الكبرى تجارة الدول الضعيفة، إن
لم نقل مصدر رزقها الرئيسي.
وذكر مووني بأن
العالم الثالث كان حتى يومنا هذا الطرف الخاسر في "تاريخ سياسة احتكـار المصادر
النباتية" وبأن الأمر سيستمر على المنوال عينه في عصر هندسة الجنيات: البيع القطعي
للطبيعة.
ففي أكتوبر 1991م
أوشك احتكـار الأدويـة الأمريكي ميرك وشركاه ان يحصل على الحق بالتفرد بالاستغلال
الصيدلاني لجميع نبـاتات جمهـورية كوستاريكا في أمريكا الوسطى وعلى الفور خططت
ميرك، أضخم منتج للدواء في العـالم لإنفاق مليوني دولار خـلال السنتين التاليتين
لتزويدها بنماذج من ألفين من أصناف النباتات المختلفة تكلف دراساتها المخبرية
الهادفة إلى تحديد الجزيئات الكيميائية ذات الفا علية الأحيائية (البيولوجية) قرابة
مليار دولار.
وكـان الطـرف
الثـاني للعقـد مع ميرك "المعهـد الكوستاريكي القومي للتنوع الأحيائي" الذي وضع نصب
عينيه فهرسة قرابة 500.000 من أنواع النباتات والحشرات التي تستوطن غابات
كـوستاريكا، لكن عقد منح شركة ميرك حق التفرد كان باطلا لسبيين:
1 - المعهد
الكـوستاريكي مؤسسة خاصة، ولا يحق لها تمثيل الحكومة.
2 - سبق للحكومة
إعطاء هذا الحق لشركة بريطانية - كوستاريكية مشتركة: بولي بيوتيكا.
وفي 1993 م أحصت
منظمة مسـاعدات التنميـة الكندية (رافي) مايربو على 70 حالة من حـالات استيلاء
مؤسسات الشمال (التجارية أو العلمية) على مصادر الجنوب أو أسراره الجينية، الـواعدة
بمبيعات منقطعة النظير، تشمل:
- إسفنجا بحـريا
تم اكتشافه في جامايكـا يفرز مواد مضادة للسرطان.
- العشبـة الطبية
الصينية القديمة كينغ هاو QING HAO بصفتها
خامة أساسية لاستحصال عقار مضاد للملاريا.
- إقدام مركز
براءات الاختراع الأمريكي على منح شركة أمريكية وحيدة: أغراسيتوس AGRACETUS
(من ولاية ويسكونسين) حق التفرد باستغلال جميع أنواع القطن المعدلة جينيا، مهما
تكن طبيعـة التعديل، وهو قرار غاية في الخطورة، يتعذر التنبؤ الدقيق بتبعاته
المستقبلية، بيد أنه يدل دلالة واضحة على المنحى الذي سيسلكه قطار
المستقبل.
ولا يتأثـر هـذا
المنحى الاستراتيجي العام بتبدل الألوان أو الركـاب عند الانتقال من مقطورة (أو
عربة) إلى أخرى، تجرها قاطرة الدول الصناعية القوية إلى الهدف المحدد مسبقا: نهب
جينـات الـدول المستضعفة أو بعبارة الـزعيم سياتل: "في عين الإنسان الغربي ليس هناك
فارق بين هذا الجزء من الأرض أو ذاك، فهو دخيل يتسلل ليلا ليأخذ في كل مرة ما
يحتاجه من الأرض".
ففي إحدى عربات
القطار (كوستـاريكا) يخطط احتكار دوائي وحيد للسطو على المصادر الجينية لدولة
كـاملة، وفي عربة أخـرى تتنافس عشرات الشركات على شجرة وحيدة، إذ سبق إعداد هذا
المقـال تسجيل 34 بـراءة اختراع أمـريكيـة لاستخـلاص باقـة شديدة التنوع من
المنتجات الكيميائية: بدءا بالمبيدات الحشرية وانتهاء بمعجون الأسنان، من شجرة
بيم BEEM الهندية.
أصبحت شجـرة بيم
الهندية هذه رمزاً لمقاومة شعوب العالم الثالث لنهـب خيراته، ومصادره الجينية، التي
أضحت واعية لما يجري وراء الكواليس، ولا سيما في الهند، التي سخر سكـانها هذه
الشجرة منـذ آلاف السنين في مجالات الـزراعـة، والطب واستحصـال مساعدات (مساحيق)
التجميل، وأفرز هذا الوعي الجـماهيري في الهند تشكيل حركـة مناهضة لهذا الشكل
المقنع من أشكـال الاستعمار الحديـث، أطلقت على نفسها اسم "الحملـة الجينيـة
GENE CAMPAUGN وأوفدت هذه الحركة المناهضة ممثلتها
سومان ساهاي، لتعلن أمـام مـؤتمر الأمم المتحـدة حول "تحديـات التسعينيات" بأن
الأمن في آسيا لا تهدده قوة السلاح بقدر الخطر الناشئ عن "سرقة
الجينات"!.
ذكريات
المستقبل
هل اقتصرت تبعات
الوعي "الجيني" على الكـلام وحده؟ لا، ففى صيف 1993 م قررت حكـومة ولاية كونيسلاند
الأسترالية وضع حـد "للاستعمار الجيني" هذا، وسنت قانونا جريئا بمثابة براءة اختراع
لصالح الحكـومة المحلية تشمل احتكـار جينات جميع أنواع النباتات والحيوانات
المحلية، وبذا أضحت استراليا أول دولة تضمن المشـاركـة في الأربـاح الناجمة عن
استغلال الأجانب - شركـات ودولا لمصادرها الجينية النباتية أو الحيوانيـة، وقد جـاء
هذا القرار بعد فترة وجيزة من تسجيل إحدى الشركات اليابانية لبراءة اختراع مـادة
كيميـائية قـد تعـالج السرطـان، تم استخلاصها مـن بذور أحد أنواع الأشجار المستوطنة
في ولاية كوينسلاند ذاتها (كستناء خليج مورتون).
كما جاب غاليندو،
رئيس هنود الغوايمي الذي سبق ذكره، أنحاء أوربا:
- ليعرب عن غضب
شعبه واستيائه من إخضاع جينات واحدة من مواطنيه لبراءة اختراع -US PAT -
9108455 - ENT
- وليطالب
بمعاملة شعبه وفق معاهدة "حفظ الأنواع، التي تمخض عنها مؤتمر البيئة للأمم المتحدة
في ريودي جانيرو 1992 م.
فهل أجدى
الاعتراض؟ يـذكرنا ما جرى بأساليب الاستعمار العسكري القديم، المعتمد على المراوغة
والمماطلة ففي بواكـير نوفمبر 1993 م ألغت الحكومة الأمريكيـة بالفعل براءة
الاختراع المتعلقـة بسيـدة الغوايمي، لكنها قبلت 3 براءات اختراع أخرى على الأقل
لخطوط (سلاسل) جينية مشابهة مأخـوذة من، دماء شعـوب "هنـدية" الأصل تمكن أصحـابها
من التصدي الـذاتي لفيروسات أحـد أشكـال الإيدز (HIV-I): اثنان من جـزر سليمان في الجنوب الغربي للمحيط الهادي،
وامرأة شابة من غينيا الجديدة.
والعينات
(المساطر) محفوظة الآن في مصرف "بنك " للجينات في روكفيل في ولاية ماريلاند يعرض
فيه للبيع الخط الجيني لسيدة الغوايمي التي سبق ذكـرها، وبـذا أضحى الإنسـان في عصر
"الاستعمار الجيني " سلعة تباع وتشترى.
بيد ان جميـع
محاولات إغراء دول العالم الثـالث "بتعـويضات العطل والضرر" التي تتعهد الـدول
الصناعية بدفعها للدول المستضعفة لقاء توريد الخامات الضرورية لاستحصال عقاقـير
طبية جديدة أو استنبات أنول من النباتات والحيوانات معدلة الجينات باءت بالفشل
الذريع - حتى حـين.
ففي تقـرير حـديث
لمجلس البحـوث القـومي الأمريكي (N R C) رفض
المجلس فكرة دفع أي نوع من أنول "التعويضات المبـاشرة" ربما انطلاقـا من التلويح
"بالقبضة الحديدية" للنظام العالمي الجديد.
إلا ان بات مووني
الذي سبق ذكره يطرح، ربـما في محاولة منه ليكـون أقرب إلى الإنصاف، مبلغا سنويا لا
يقل عن 300 مليون دولار، وهذا الرقم لو قبل لكان أشبـه بأذن جمل الأربـاح التي يحلم
بها المستعمـرون الجينيون، على الصعيد العالمي.
أما على الصعيد
الشخصي فقد سمح محضر "داخلي" للمشاركين في مشروع الجينوم البشري بأن تبلغ الكلفة
الإجمالية لعينة الدم الواحدة قرابة 2300 دولار، وبأنه من الملائم إعطاء المتبرع
بالدم "هدية صغيرة"!.
ألا تذكرنا هذه
الصياغة المستقبلية للاستعمار الجيني بماضي الاستعمار العسكـري التقليدي حينما رأى
تجار الدول المسيطرة أنه من الملائم إعطاء المتبرع بالذهب هدية صغيرة من
الخرز!.