السينما التسجيلية اللبنانية . . صبحي حليمة

السينما التسجيلية اللبنانية . .

في هذا الشهر تحل الذكرى الأولى لوفاة واحد من أهم مخرجي السينما التسجيلية العربية هو الفنان اللبناني مارون بغدادي، والعربي تقدم من خلال هذه الذكرى تحية للسينما التسجيلية اللبنانية التي تميزت بالطموح ونالت العديد من الجوائز وسبقت الفيلم الروائي الذي لايزال يبحث عن هويته.

شأن الأفـلام التسجيلية في لبنان شأنها في البلدان العربية الأخرى، إلا أن السينما اللبنانية التي يعود تاريخها الرسمي إلى "مغامرات إلياس مبروك" 1929 للرائد الإيطالي الأصل جوردانو بيدوتي، لم تنتج حتى عام 1952 سوى ثمانية أفلام منها اثنـان سياحيـان ينتميان إلى التسجيلية. في الخمسينيات بدأت السينما في لبنـان تنهض على يد مجموعة مخرجين مجتهدين من أهمهم الرائد جورج نصر صاحب فيلم ".. إلى أين؟ " 1958.

وتأتي تجربة الحرب بما تعنيه من دمار وتشريد وموت وفجائع إنسانية مؤلمة تعتبر مناخا ملائما لنشـاط السينما التسجيليـة التي تعبر عن الـواقع بالواقـع ذاته، من حيث توافر المادة الواقعية المفعمة بالإثارة والمطلوبة من جمهور المشاهدين. أول نتاجات الحرب كان فيلم "لبنان في الدوامة" عام 1975 للصحيفة المجتهدة جوسلين صعب بالاشتراك مع المخرج السويدي يورغ ستوكلن، اعتمد الفيلم أسلوب الصحافة "الريبووتاج، التعليق، المقابلة، الصور الثقافية" رصد لبنان قبل الحرب: الصالونات والبذخ، ثم لبنان الدمار: البيوت المهدمة، الموت..

بعد ذلك حققت جوسلين صعب "رسم شخصي لمرتزق فرنسي" 1975 قبل أن تنفذ فيلمها الشفاف "بيروت لم تعد" وهو فيلم هادئ، متقن، شاعري اللغة، حقق انتقالا لمخرجته من الأسلوب الصحفي إلى الصياغة السينمائية، وكشف عن مخرجة تجيد التعبير عن فكـرتها بهدوء وحذر وذكـاء، كـما تعكس أفلامها جرأة في استخدام المونتاج وإصرارا على تطـويع الكـاميرا، وفي ذات العام 1976 نفـذت "جنوب لبنان - قصة قرية محاصرة" ثم "أطفال الحرب" لتنتقل "صعب" بعد ذلك إلى موضوعات غير لبنـانيـة - "من أجل بعض الحيـاة" 1976 - "الصحـراء ليست للبيع" 1977 عن الصحـراء الغربيـة، وبعده "مصر مدينة الموتى" 1978 الذي عاد للريبورتـاج والأسلوب الصحفي، وفي ذات العام أنجـزت "رسالة من بيروت" الذي استحق التانيت البرونزي من مهرجان قرطاج 1978، وبعد عدة أفلام أخـرى بيروت مـدينتي" عن حصار بيروت و "سفينة المنفى" عن خـروج المقاتلين من بيروت، ثم "الجولان .." و "إيـران اليـوتـوبيـا في المسيرة" .. وغير ذلك، نفذت جوسلين صعب فيلمها الروائي الأول "غزل البنات" عام 1984.

مارون بغدادي

مع بداية العام الثاني للحرب ظهرت في التلفزيون مجموعة أفلام تسجيلية قصيرة ومتقنة تحمل توقيع (مارون بغدادي) القادم من السينما الروائية بعد فيلمه الأول "بيروت يا بيروت".

ومع اندلاع الحرب التي أضافت ظروفا أشد سوءاً للظروف الإنتاجية والفنية السيئة أصلا، فقد كان على بغدادي أن ينتظر طويلا فرصته الروائية الثانية، إلا أنه ولظروف ذاتية أو موضوعية، اقتحم عالم التسجيلية وقـدم مجموعة أفلام، تتعامل مع الحدث والموقف، بإمكانات مالية بسيطة، ولأنه مخرج بارع، يتقن التعامل مع كاميرا شفافة، استطاع بغدادي أن يلفت النظر منذ أفلامه الأولى "كفر كلا".

كما حقق المخرج في ذات الفترة أفلاما أخرى تحمل بصمته الخاصة، حتى صار بالإمكان تمييز أفلام مارون بغدادي قبل قراءة التوقيع، ومنها "الصمود على لسان الصامدين وفي أغانيهم وحياتهم اليومية" و "بيروت المدمرة" - "الجنوب ذو المأساة.." ..وغيرها.

أمـا فيلمـه التسجيلي الكبير بعـد "تحيـة إلى كمال جنبلاط"، فقد كان "تسمعون" الذي حققه بتكليف من الحكـومة اللبنانية بمناسبة تكريم الذكرى التسعين لميلاد الأديب ميخائيل نعيمة، وجاء الفيلم قصيدة بصرية هادئة، شفافة وأنيقة ومتقنة، ثم حقق الفيلم المهم "كلنا للوطن" قبل أن يبدأ عام 1981 بتصوير فيلمه الروائي الثاني "حـروب صغيرة" محققا حلمه ومشروعه الروائي في طريقه إلى العالمية.

بعد تقديم فيلمه التالي "الرجل المحجب" (روائي) مع برنارد جيرودو وميشال بيخولي عام 1987 عاد بغدادي إلى التسجيلية ليقدم فيلما تلفزيونيا طويلا بعنـوان "لبنان، بلد العسل والبخور" عام 1988 ثم ليتابع غطاءه الروائي الغزير والخصب (مارا - بطء في الريح - خارج الحياة - فتاة الهواء).

التسجيلية بالنسبة لبغدادي كـانت محطة مهمة، استطاع من خلالها أن يضيف لمسته الخاصة ورؤيتـه وحساسيته إلى تاريـخ السينما التسجيلية اللبنانية. وبغدادي لم يهجر التسجيلية، ولم يستطع إلا أن يحبها. عاد بغدادي إلى بيروت بعد غياب، ليدرس إمكان تنفيذ فيلم كبير عن لبنان تحت عنوان مؤقت "زوايا" وربما كـان سيختـار الاتكـاء على التسجيليـة لأن الفيلم/ المشروع، يحكي سيرة ذاتية، وسيرة بيروتية.

لكن القدر لم يمهله وتدخل ليستبـدل بمشروعـه الأخـير "زوايا" مشهـد سقوط عبثي، سقـوط هذا المخرج المبدع من على درج بيت والدته ومغادرته الحياة، ليل الجمعة 10/ 12/ 1993.

برهان علوية - رندا الشهال

برهان علوية، لبناني جنوبي، درس السينما في بلجيكا، وقدم فيلمه التسجيلي الأول "ملصق ضد ملصق" عام 1972، ثم كتب سينـاريو "كفـر قاسم" عن قصة للكاتب عاصم الجندي، ونال عنه جائزة وكالة التعاون الثقافي التقني بباريس، ونفذ الفيلم عام 1974.

"كفر قاسم" جلب لمخرجه سمعة طيبة، وحصد عددا كبيرا من الجوائز منها جائزة مهرجان قرطاج الخامس وجائزة اتحاد النقـاد السينمائين وجائزة من مهرجان موسكو..وغير ذلك.

في بداية الحرب اختار علوية العمل خارج لبنان، فقدم فيلمه التسجيلي التالي في مصر، بالاشتراك مع المخرج التونسي لطفي ثابت، الفيلم بعنوان "لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء" المأخوذ عن كتاب المهندس حسن فتحي (البناء مع الشعب) عن الإعمار في مصر، والأوضاع الديموغرافية، وجاء الفيلم رصينا، متقنا، وجميلا مصنوعا بلغة سينمائية عالية، ويعتبر من الأفلام المتميزة في تاريخ السينما التسجيلية العربية.

بعد فترة صمت لا بأس بها، قـدم فيلمه الروائى "بيروت اللقاء" 1981، الـذي اقتصر عرضـه على المهرجانات والتظاهرات ولم يقدم جماهيريا، وفي العام 1984 قدم "رسالة من زمن الحرب"، أما فيلمه الأخير الذي تحقق عام 1991 فهو "أسوان" ويدور حول السد العالي في مصر.

في مهرجان قرطاج 1978، عرض فيلم "خطوة.. خطوة" وهو الفيلم التسجيلى الأول للمخرجة رندا الشهال التي لفتت إليها الأنظـار بفيلم متقن، جيد الإيقاع، يقدم تحليلا سياسيا للحرب، افتقرت إليه معظم افلام الحرب - حتى ذاك الوقت - ويتمتع بجودة نسبية، برغم بعض العثرات، ويكشف عن موهبة واضحة لدى المخرجة.

"خطوة، خطوة" فيلم تسجيلي طويل، يقع في ساعة وعشرين دقيقة، استحق عند عرضه في مهرجان الدول الناطقة بالفرنسية عام 1978، جائزة النقاد.

بعده، قدمت رندا الشهال "لبنان أيام زمان" 1980 عن معـرض يحمل ذات الاسم لجورج الـزعني، ثم "لبنـان إرادة الحيـاة" 1981. ثم قـدمت فيلمين تلفزيونيين قوبلا بالاستحسان "التاسعة والنصف" 1982 ثم "سهرة مع الشيخ إمام في باريس" 1984 قبل أن تتفرغ لمشروعها الروائي "شاشات الرمل" من إنتاج فرنسى تـونسي مشترك، آخر أعمالها "الأرض البور" 1993.

جورج شمشوم وآخرون

من الأفـلام الأولى أيضا زمن الحرب فيلم "لبنان .. لماذا؟" للمخرج جـورج شمشوم، المخرج من مواليد 1946 في النيجـر، حيث كـانت أسرتـه تقيم، درس السينما في لندن وعاد إلى لبنان من المهجر عام 1970، حقق مجموعة كبيرة من الأفلام القصيرة أثناء عمله في الخارج في فرنسا ولندن، أول الأفلام التي نفذها في لبنان كان فيلم (داخل وخارج).

في عام 1972 حقق أول افلامه الروائية الطويلة "رسالة بعـد الموت وهو فيلم يدور حول جريمة اغتصاب وقتل غامضة، لفتاة قـروية، والبحث عن القاتل مع استعراض عالم القرية الاجتماعي، زمن السيطرة العثمانية على المنطقة. عام 1977 نفذ شمشوم فيلما تسجيليا طويلا صور مجموعـة كبيرة من الوثائق السينمائيـة التي تسجل أحداث الحرب، في آثارها على الأرض، وعلى لسان القادة والزعماء في كـلا الجانبين، وعلى لسان الأهالي في كل المناطق. الفيلم حمل عنوان "لبنان..لماذا؟" وهو فيلم يكشف الحرب من زوايا متعـددة ولكن برؤية محايدة (جدا) لا تحاول أن تتبنى موقفا معينا، أو تدين جهة ما، وقد حاز الفيلم على جائزة المركز الكاثوليكي أثناء عرضه في مهرجان القاهرة 1978.

ومن الأسماء المهمة التي ظهرت بعد اندلاع الحرب، في السينما اللبنانية، جان شمعون الذي درس السينما في "الأيديك" - فرنسا، وقد حقق فيلما معقولا أثناء دراسته يتناول حياة الطلبة اللبنانيين في فرنسا، عارضا الحياة السياسية اللبنانية في خلفية الفيلم.

بدأ عمله في لبنان في التلفزيون والإذاعة فقدم برنامجا إذاعيا مع زياد الرحباني بعنوان "بعدنا عايشين قول الله"، كـما قدم برنامجا تلفزيونيا اجتذب المشاهدين ولفت النظـر بجـرأته وجـودته، بعنـوان "الناس والأحداث".

وفي ذات المرحلـة عمل مع مـؤسسـة السينما الفلسطينية، ومن إنتـاجهـا قـدم فيلمـه الأول بالاشتراك مع مصطفى أبـو علي "تل الزعتر" عن حصار المخيم، أمـا فيلمه الثاني فكـان "أنشودة الأحرار" 1978، حول حركات التحرر في القارات الثلاث، وقـد نال الفيلم عدة جوائز في مهرجانات عالمية.

"مي المصري" ابنـة لأب فلسطينى وأم أمريكيـة، درست السينما في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان أول لقـاء لهذا الثنـائي المتميـز، تنفيـذ فيلم "تحت الأنقاض" عام 1982 الذي صـور حصار بيروت، وحصل على جائزة مهرجان فالنسيا عام 1983.

لقد حدد هذا الثنائي المجتهد خطاه منذ البداية، وكـان خياره سينما تعبر عن الواقـع، سينما تريد قول فكرة، وهاجسها، إيصال هذه الفكرة بغض النظر عن الأسلوب السينمائي الذي يحملها، حيث يؤكد شمعون دائماً رفضـه للتصنيف والتقسيم بين الأسـاليب والأشكال السينمائيـة، ويؤكد أن خيارهما كان السينما النظيفة، التي تعبر عن الحقيقة. والمتابع لسينما شمعون - مصري، يشعر بصعوبة التقسيم في هذه السينما التي لا تقدم الوثائقي/ التسجيلي بشكله الكـلاسيكي، التقليدي، بل تقدم فكرتها عبر رؤية سينمائية تعتمد التسجيلي والروائي وما بينهما، تقدم التسجيلى بنفس روائي، والروائي برؤية وثائقية - نقصد الروائية داخل الفيلم، فالمخرجـان لم يقدما بعد فيلما روائياً حسب التقسيم السائد، لكنهما يحضران حالياً للفيلم الروائي "رامي" عن سيناريو لشمعون.

عام 1985 قـدم شمعون - مصري، فيلما وثائقياً لحساب منظمـة "اليونسيف" حـول وضع المرأة في الجنوب اللبناني بعنوان "زهرة القندول" وحصل على جوائز مهرجانات فالنسيا، قرطاج عام 1986 ودمشق عام 1987.

في عام 1988 قدما فيلم "بيروت..جيل الحرب" عن نشأة أطفال لبنان زمن الحرب الأهلية، وفي عام 1989، استطاعت مي المصري الأمريكية الجنسية دخول الأراضي المحتلة لتصور فيلمها "أطفال جبل النار" 16 فليم - المدة ساعة - نفذته بمساعدة المصور البريطاني اندي جيليس ومن إنتاج شمعون. وقد عرض الفيلمان الأخيران في مهرجان القاهرة الرابع عشر 1990، أمـا فيلمهما الأخير فقـد حمل عنوان "أحلام معلقة".

"الأحلام معلقة" الفيلم الثـالث الذي تشارك في إنتاجه محطة الـ BBC البريطانية بعد جيل الحرب وأطفال جبل النار، وقد عرض في تظاهرة موازية لقمة الأرض التي، عقدت في ريو دي جانيرو - البرازيل، فقدم في أكثر من مائة بلد، وشاهده حوالي 500 مليون مشاهد حسب إحصاء للـ BBC.

الفيلم حصد عددا من الجوائز، آخرها الجائرة الأولى في مهرجان الفيلم التسجيلي العربي في باريس والجائزة الذهبية لمهرجان دمشق السينمائي الثامن 1993.

ومن الأسماء التي ساهمت في تدعيم سينما تسجيلية في لبنان، للمخرجة عرب لطفي التي قدمت "الجذور لا يمكن أن تموت" بالتعـاون مع مـؤسسة السينما الفلسطينية عام 1977، وقدمت أيضا "بوابة الفوقا" 1991، الذي يرصد أناس صيدا همومهم نابشا ذاكرتهم، وقد حصل الفيلم على جائزة في مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية، كما عرض في مهرجان دمشق السينمائي.

برز أيضاً المخرج القادم من المسرح روجيه عساف وقدم "حكاية الحاج محمد" 1982 تحقيق فرقة مسرح الحكواتي، وبعده "أيام الخيام" 1985 عن مسرحية لفرقة مسرح الحكواتي، ثم فيلمه الطويل "معركة" 1985.

بقي أن نشير إلى محاولات جريئة وطموح قدمت ذاتها عبر أشرطة الفيديو كاسيت: منها المخرجة شيرين طنوس "مواطنون" 1990 إنتـاج المركز الثقـافي الفرنسي، والمخرجة ريما كريمة "صور أهديها لكم 1984 بتكليف من دار الأيتام الإسلامية ثم "الفيحاء القـديمـة تـرحب بكـم" 1985 بتكليف من وزارة السياحة بالتعاون مع وزارة الإعلام، والمخرج علي خير الدين الذي قدم "الثأر" 1992 عن عادة الثأر في قضاء بعلبك.

 

صبحي حليمة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




مشهد من فيلم الهجوم على جنازة تعبير عن الاحتجاج ضد الحرب والموت





مشهد من فيلم آن الآوان





حروب صغيرة من إخراج مارون بغدادي